تحریرات فی الفقه: کتاب الطهاره المجلد 1

اشارة

سرشناسه : خمینی، مصطفی، 1309-1356.

عنوان و نام پديدآور : تحریرات فی الفقه: کتاب الطهاره / تالیف مصطفی الخمینی.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1378.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : دوره 964-335-161-0 : ؛ 10000ریال: ج.1 964-335-138-6 : ؛ 37000 ریال (ج.1 ٬چاپ دوم) ؛ 12500ریال: ج.2 964-335-139-4 : ؛ 38000 ریال (ج.2، چاپ دوم)

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج.1 و 2 (چاپ دوم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : کتابنامه.

عنوان دیگر : کتاب الطهاره.

موضوع : طهارت

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س)

رده بندی کنگره : BP185/2/خ8ت3 1378

رده بندی دیویی : 297/352

شماره کتابشناسی ملی : م 78-10611

[مقدمة التحقيق]

[تقريظ]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين و الصلاة على سيّدنا محمّد خاتم النبيّين، و على عترته الطيّبين الطاهرين، و اللعن الدائم علىٰ أعدائهم أجمعين إلىٰ يوم الدين.

و بعد. فقد ساعدني التوفيق للمراجعة إلىٰ بعض ما صنّفه في الفقه و الأُصول صديقنا الأعزّ و شريكنا في الدرس و المباحثة، جامع المعقول و المنقول، حاوي الفروع و الأُصول الذي قد جمع بين شدّة الاستعداد و قوّة الحافظة آية اللّٰه الحاج السيّد مصطفى الخميني (قدّس سرّه) ابن أستاذنا العلّامة المجاهد الأكبر الإمام الراحل (قدّس سرّه) فوجدته مشتملًا على تحقيقات و تدقيقات عميقة، لا يكون الطالب غنيّاً عن المراجعة إليه، و المحقّقُ مفتاق إلى المراجعة و الاستفادة منه.

حشرهما اللّٰه مع أجدادهما الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

محمّد الفاضل اللنكراني 18 جمادى الاولىٰ 1418

نُبذة مختصرة من حياة المصنّف

طهارة المولد و كرم المحتد

في مدينة قم المقدّسة، و في أُسره تطاول السماء مجدا و سؤدداً، ولد الشهيد السعيد عام 1309 ه. ش.

سمّاه أبوه العظيم محمّداً، و طوّقه ب «مصطفى» لقباً، و كنّاه ب «أبي الحسن»، و لم يُكنّه ب «أبي القاسم»؛ كي لا تجتمع النعوت الثلاثة لغير النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و غلب عليه لقبه، فاشتهر بالسيّد «مصطفى».

انحدر من صُلب ماجد، انحنىٰ له الدهر تبجيلًا و تعظيماً، و تصاغرت شواهق الجبال لشموخه و جلاله؛ ذلك والده المقدّس، الذي ملأ الدُّنيا و شغل الناس، و أنطق العدوّ ثناءً عليه قبل الصديق، فعدّوه رجل العالَم الأوّل لعامين انبهاراً بعظمته و قيادته.

و أمّا والدته التقيّة الفاضلة فهي كريمة آية اللّٰه الميرزا محمد الثقفي صاحب كتاب «روان جاويد» في التفسير و «غرر العوائد من درر الفوائد» في الأُصول، و كثيراً ما عبّر عنه المترجم له في كُتبه ب

«جدّي المُحشّي».

و كان آية اللّٰه الميرزا أبو الفضل الطهراني صاحب كتاب «شفاء الصدور

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 2

في شرح زيارة عاشور» جَدّاً لوالدته الفاضلة.

كما كان جدُّها الأعلى آية اللّٰه العلّامة الشهير الميرزا أبو القاسم الكلانتر مقرّر الشيخ الأعظم الأنصاري، و تقريراته الشهيرة معروفة ب «مطارح الأنظار»، و يعبّر عنه الشهيد ب «جدّي المقرّر».

و هي حفظها اللّٰه تعالىٰ تنطوي علىٰ نفس طيّبة طاهرة، و أخلاق و سجايا حميدة مجيدة، و روح شفّافة نقية، لها منامات عجيبة كثيرة لا يتّسع المقام لذكرها و سردها، إلّا أنّ من المناسب هنا أن نذكر ما يخصّ سيّدنا المترجَم له، و ذلك ما حدّثت به أيّام حملها بولدها الشهيد (قدّس سرّه) حيث رأت في منامها الصديقة الطاهرة (سلام اللّٰه عليها) جالسة في بستان واضعة في حِجْرها سيّد الشهداء (عليه السّلام) و هو طفل صغير.

و قد عبّروا لها هذا المنام بأنّ اللّٰه تعالىٰ سيرزقها ولداً ذَكَراً فحسب، و لم يكتشفوا أو لم يكشفوا لها تأويل رؤياها من بعد؛ تلك الرؤيا الصادقة، و أنّها ستلد ولداً عظيماً يستشهد، و يكون دمه ثورة على الطغاة المستكبرين، و مناراً للمجاهدين و المستضعفين.

نشأته العلميّة و عطاؤه المبكّر

نشأ الشهيد و ترعرع في ربوع قم المقدّسة و رحابها. اشتغل بدراسة العلوم العصريّة الحديثة في أوائل صباه حتّى ستّ سنوات، و بعدها اشتغل بطلب العلوم الدينية. و قد ارتدىٰ الزيّ العلمائي الخاصّ و هو ابن سبع عشرة سنة و ذلك بإصرار من والده العظيم.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 3

درس العلوم الأدبية بإتقان حتّى اجتهد فيها و أبدى رأيه السديد في قبال آراء علمائها المبرَّزين، و لو تصفّحت كتابه المُنيف «تفسير القرآن الكريم» لرأيت شواهد الصدق

علىٰ ما قلناه.

و بعدها شرع بدراسة العلوم الأُخرىٰ فقهاً و أُصولًا، رجالًا و حديثاً، فلسفة و عرفاناً. استطاع بذكائه الوقّاد و مثابرته الجادّة أن يُلمّ بهذه العلوم العميقة الدقيقة في فترة قياسية وجيزة.

درّس العديد من الكتب الدراسية العالية و كان موضع تقدير و حفاوة فائقين من طلّابه و مريديه، و قد غذاهم بعصارة روحه و خالص أفكاره. و قد أنهىٰ في مدينة قم المقدّسة دورة أُصولية مختصرة و لمّا يبلغ الثالثة و الثلاثين من عمره المبارك.

و أمّا في النجف الأشرف فقد ألقىٰ سماحته دورة أُصولية مفصّلة، نقد فيها آراء المحقّقين، و أبدى فيها آراءه الفذّة و تحقيقاته البكر؛ ممّا يدلّ علىٰ نضج علمي و إبداع فكري مبكّرين.

هذا، مضافاً إلىٰ دروسه الموسّعة في الفقه و التفسير التي كانت مثاراً للدهشة في العمق و السعة و الاستيعاب.

و مهما بالغنا في تمجيده و إطرائه فلسنا بالغين شأْو ما قاله فيه والده المقدّس الإمام الراحل طاب ثراه حيث قال في حقّ ولده حين بلغ الخامسة و الثلاثين: «إنّ مصطفى أفضل منّي حينما كنت في سنّه»، هذا، مع أنّ الإمام (قدّس سرّه) بلغ ما بلغ من تعلّم أُصول العلوم و فرغ منها في هذا السنّ، و هذه شهادة منه (قدّس سرّه) على اجتهاد ولده في شتّى العلوم المتعارفة، أُصولًا و فروعاً، معقولًا و منقولًا.

و كان من خصائص سيّدنا الشهيد ذكاؤه المفرط و دقّته النافذة و حافظته

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 4

المتميّزة، فقد كتب رسالة «لا ضرر» و هو في السجن لا يمتلك من المصادر غير ما في خزانة نفسه، و كتب بحث «الواجبات في الصلاة» و هو في منفاة في تركيا، و لم يكن في حوزته

غير «الوسائل» و «العروة الوثقىٰ» و «الوسيلة» المحشّاة. و قد تجلّت سعة حفظه و دقّة فكره في جلسة استغرقت حوالي الأربع ساعات كان السيّد الشهيد يُجيب فيها على أسئلة الحاضرين في العلوم المختلفة.

أساتذته الكرام

درس سيّدنا الشهيد على أعاظم علماء عصره، و حضر بحوثهم بجدارة و اقتدار و تفهّم و استيعاب، و كان من أجلّة أساتذته آية اللّٰه العظمىٰ السيّد البروجردي قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة.

و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد محمّد المحقّق الداماد (قدّس سرّه)، و آية اللّٰه العظمى السيّد الحجّة الكوهكمري (قدّس سرّه)، الذي عبّر عنه السيّد الشهيد ب «جدّ أولادي»، فإنّه تزوّج كريمة آية اللّٰه العظمىٰ الشيخ مرتضى الحائري (قدّس سرّه)، و كان هذا الشيخ صهراً لآية اللّٰه العظمىٰ السيّد الحجّة علىٰ كريمته، و لهذا عبّر المصنّف (رحمه اللّٰه) عن آية اللّٰه العظمى المؤسس الشيخ الحائري (قدّس سرّه)، أيضاً ب «جدّ أولادي». و كان تلمُّذُه في الحكمة و الفلسفة على آية اللّٰه العظمىٰ السيّد أبي الحسن الرفيعي القزويني (قدّس سرّه).

هذا لكن جُلّ استفادته كانت من والده السيّد الإمام العلّامة المحقّق في الأخلاق و اللغة و الفقه و الأُصول و المعقول و المنقول و العرفان و السلوك و تربية

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 5

ذوقه السليم في كشف أسرار العلوم و إدراك حقيقة الدين الإسلامي الناصعة و العلاقة الوثيقة بين الدين و السياسة و الوعي الاجتماعي و السياسي، ناهيك عن الفضائل الروحية و النفسية كالزهد و التقوىٰ و الشجاعة و غيرها.

و حضر عند أوّل وروده إلى النجف الأشرف بحوث علمائها المبرّزين كآية اللّٰه العظمىٰ السيّد الحكيم (قدّس سرّه) و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد الشاهرودي (قدّس سرّه) و آية اللّٰه العظمىٰ السيّد الخوئي (قدّس

سرّه) و غيرهم، و كان حضوره حضور نقد و تدقيق و حصيلته رسالته المسمّاة ب «دروس الأعلام و نقدها».

مصنّفاته

عمر قصير في حساب الزمن، و لكنّه كبير في النتائج و الآثار، و كم من أعمار طالت بلا أثر يُذكر أو فائدة تُؤثر.

أيّ قلمٍ كان لشهيدنا العظيم سيّالٍ متدفّقٍ في فنون العلوم المختلفة و الدراسات العلميّة المتنوّعة؛ مُؤلّفات و مُصنّفات كبيرة و رسائل و حواشٍ كثيرة كتبها في قم المقدّسة و بورسا و النجف الأشرف، إلّا أنّه و للأسف قد ضاعت علينا كتبه التي صنّفها في قم المقدّسة حيث قد صادرتها حكومة الشاه العميل، بعد أن أقصته مع والده العظيم إلىٰ تركيا، و لم يبق لنا منها سوىٰ ما صنّفه في النجف الأشرف و بورسا؛ حيث جاءت بها إلى إيران المرأة الصالحة التي كانت تحظى بخدمتهم هناك، و آثرتها علىٰ حوائجها و لوازمها الخاصّة؛ خوفاً من ضياع ما رأته من مشاقّ تحمّلها سيّدنا الشهيد في سنين متمادية في حرّ النجف و ظروفه القاسية في آناء الليل و النهار.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 6

كتبه المفقودة:

1 القواعد الحكمية، و قد ارجع إليها كثيراً من المباحث العقليّة الفلسفيّة بل و المنطقيّة في كتبه.

2 رسالة «لا تعاد»، و هي رسالة مستوعبة مفصّلة.

3 الخلل في الصلاة، و هذا غير ما كتبه في النجف الأشرف المطبوع ضمن تراثه.

4 المختصر النافع في علم الأُصول، كتبه أثناء دورته الأُصوليّة الاولىٰ.

5 رسالة في قاعدة «لا ضرر».

6 رسالة في حديث الرفع.

7 رسالة في العلم الإجمالي، كتبها في «القيطرية» أثناء التبعيد.

8 كتاب الإجارة، و هو مجلّدان.

9 المكاسب المحرّمة، و هو جزء من كتابه الكبير «تحريرات في الفقه».

10 تتمّة كتاب البيع، و فيه الأبحاث الباقية من كتاب البيع المطبوع ضمن تراثه.

11 كتاب الخيارات، و هو المجلّدان الأوّل و الثاني من الخيارات.

12 رسالة في علم

الباري.

13 رسالة في الردّ علىٰ كتاب «الهيئة و الإسلام».

14 رسالة في قضاء الصلوات.

15 الفوائد الرجالية.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 7

16 كتاب الاجتهاد و التقليد، مفصّلة.

17 كتاب الصلاة، و الظاهر أنّه قسم من كتابه الكبير «تحريرات في الفقه»، و قد صرّح بكتابته لبعض مباحثه نحو «صلاة المسافر» و «القضاء عن الولي» و «صلاة الجماعة» و «أوقات الصلوات» و «مكان المصلّي» و «الأذان و الإقامة».

18 رسالة في «السرقفلية».

و له تعليقات كثيرة علىٰ عدّة من الكتب الأدبية و الفقهيّة و الرجاليّة و الفلسفيّة و العرفانيّة و قد صرّح ببعضها في مطاوي كتبه:

منها تعليقته علىٰ «شرح الرضي على الكافية».

و منها حاشيته علىٰ خاتمة «مستدرك الوسائل».

و منها تعليقته علىٰ كتاب «المبدأ و المعاد» لصدر المتألّهين.

كتبه المطبوعة:

اشارة

1 تحريرات في الأُصول.

2 مستند تحرير الوسيلة.

3 تفسير القرآن الكريم.

4 تعليقات على الحكمة المتعالية.

5 تحرير العروة الوثقىٰ.

6 تعليقة علىٰ العروة الوثقىٰ.

7 دروس الأعلام و نقدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 8

8 العوائد و الفوائد.

9 ولاية الفقيه: و هو قطعة من كتاب البيع المفقود بعض أجزائه.

تحريرات في الفقه

10 الطهارة.

11 الواجبات في الصلاة.

12 الخلل في الصلاة.

13 الصوم.

14 كتاب البيع من أوّله إلىٰ مبحث تعاقب الأيدي.

15 كتاب الخيارات و هو المجلّدان الثالث و الرابع.

أخلاقه و عبادته

العوامل الوراثية و البيئيّة و العائليّة لها الأثر الكبير علىٰ شخصيّة الإنسان كلّ إنسان، فهو ابن بيئته و ابن فواعله التربويّة و الوراثية، فلا عجب أن نجد شهيدنا الغالي يعيش قمّة الخلق الكريم و الفضائل الروحية، و النفسية و السلوكية و الكمالات الأخلاقية و العقلية، فقد عاش في بيت من بيوتات العلم و التقىٰ و الزهد و الهدى، تتلألأ لياليه بأنوار التبتّل و الانقطاع إلىٰ اللّٰه المتعال، كما تمتلئ ساعات نهاره بالعلم و الجهاد و معالي الأُمور، بيت يعيش همّ الإسلام و المسلمين بدون فتور أو انقطاع.

لأعجب أن نجد شهيدنا العظيم مجمعاً للفضائل و المكارم و قد كان مربّية بطل العلم و التقوىٰ و الجهاد، و قد تشرَّب من أجوائه التي عاشها بين يديه،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 9

أسمى الكمالات الروحية و المعنوية و أقدس المزايا و السجايا و أجلّ النعوت و أجمل الصفات.

إذا عرفت ذلك تعرف السرّ في حلول هذا الولد البارّ من نفس والده العظيم ذلك الموقع الخاصّ و المقام الرفيع، فكان يُشيد بفضائل ولده قولًا و عملًا، و يُشير إلىٰ مكانته العلمية و المعنويّة، و عُرف عنه (قدّس سرّه) أنّه لم يمدّ رجليه في حضرة ولده إكراماً و تبجيلًا له.

و قد عرف هذا الولد البارّ حقّ والديه، فلم يفعل شيئاً كرهاه، و كان يحترمهما إلىٰ حدّ التقديس، و كان يعلم ما لوالده العظيم من مقام روحي و علمي جليل، و أهداف إلهيّة عالية يعيش همّها بلا فتور ليله و نهاره في صمته و كلامه،

يجاهد في سبيل ربّه جهاداً كبيراً لا يعرف الكلل و لا الملل و لا الخوف و لا الضجر، و كان يُشير في كلّ مناسبة في أحاديثه و كتاباته بمقام والده الكبير الفقيه الحكيم و المجاهد العظيم. و سار الولد علىٰ مسار أبيه و اختطّ خطاه، و تبنّىٰ أهدافه و أمانيه، و جاهد كما جاهد أبوه بإصرار و شجاعة و عزم و ثبات.

و من الصفات الغُرّ لسيّدنا الشهيد أنّه كان شريفاً عفيفاً زاهداً عابداً قريباً من الناس محبوباً لديهم، كريماً محسناً محبّاً لأصدقائه مؤْثِراً للسمر معهم علىٰ سائر المُتع، و ربّما قضىٰ معهم الساعات الطويلة من الليل، ثمّ يُغفي إغفاءة يقوم بعدها لصلاة الليل و التضرّع و الابتهال لربّ العزّة و الجلال، ثمّ يعود بشغف و نشاط إلىٰ بحثه و تدريسه و تأليفه.

و هكذا كان عالماً عابداً مُجدّاً نشطاً، مواظباً على النوافل و الأدعية و الأوراد، ملتزماً بصلاة الجماعة، محتاطاً في تصرّفاته، خصوصاً فيما يتعلّق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 10

ببيت المال إلىٰ أبعد الحدود، و كان زاهداً في دنياه و راغباً في أُخراه.

جهاده السياسي

لا بدّ للمسلم المجاهد من علم بما يجاهد لأجله، و بالمحيط الذي يجاهد فيه، و بالعدوّ الذي يجاهده، كما لا بدّ أن يمتلك الأداة التي يجاهد بها؛ من قوّة مادّية و معنوية، و قبل ذلك أو مع ذلك لا بدّ له من قائد حكيم يؤمن بقيادته إيماناً مطلقاً.

لقد توافرت لسيّدنا الشهيد كلّ هذه المقوّمات التي صنعت منه مجاهداً عظيماً يعيش همّ الإسلام و المسلمين حتّى تكلّلت حياته بالشهادة ذلك الوسام الإلهيّ العظيم.

لقد كان (رحمه اللّٰه) عالماً بالشريعة الإسلامية، الخاتمة التي يجاهد من أجلها و كان مجتهداً فيها أُصولًا و

فروعاً.

و كان يعيش هموم المسلمين عن قرب و تفاعل، و محيطاً بمؤامرات العدوّ على الأُمّة الإسلامية بتفصيل و تتبّع، و كان يمتلك مع ذلك الشجاعة و الإيمان و الأعوان، و كان كلّ ذلك بفضل والده العظيم الذي أحسن تربيته و وفّر له مقوّمات المجاهد الشجاع، و كان (رحمه اللّٰه) يؤمن بقيادة والده العظيم و حكمته إيماناً مطلقاً، و قد غذّاه والده الحكيم منذ نعومة أظفاره بالعلم و التقوىٰ، و أنشأه علىٰ فهم الإسلام الحقيقي الناصع و شموليته و كماله و أصلحيته لقيادة الناس إلىٰ مرفأ الأمن و السلام و السعادة في الدنيا و الآخرة و علّمه منذ أوائل صباه أنّ السياسة جزء لا يتجزّأ من الإسلام؛ سياسة محمّد

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 11

و عليّ صلوات اللّٰه عليهما و آلهما، و ليست سياسة الأبالسة و الطغاة، سياسة الحقّ و العدل و الخير لعموم البشر، و ليس سياسة الخَتْل و الخداع و الظلْم و الضلال.

علّمه و هو صبيّ يافع ذكيّ متفتّح أنّ قيادة الناس و حكم البلاد فرض على عاتق الفقهاء العدول الأكفّاء في عصر الغيبة الكبرى، و لا بدّ للمسلمين أن يُلقوا لهم بالقياد، و أن يذعنوا لهم بالطاعة و الانقياد؛ حتّى يقودوهم لما فيه رضا بارئهم و سعادتهم، و عليهم أن يجاهدوا في سبيل اللّٰه تحت قيادتهم؛ حتى يُرغموا أُنوف الطغاة و ينتصر الإسلام و تكون كلمة اللّٰه هي العليا في الأرض كما في السماء.

لقد كان الشهيد السعيد ترجماناً صادقاً لآراء والده العظيم و معتقداته كما كان ساعده الفتي و مساعده الأمين في جهاده العظيم و نهضته الإسلاميّة المباركة. و يتبيّن لك صدق ما سمعت من خلال مواقفه السياسية الجهادية التي

وقفها، و إليك بعض النماذج المهمّة من تلك المواقف:

1 حيث قامت سلطات الشاه الغاشمة باعتقال الإمام الراحل (قدّس سرّه) لاعتقادها بأنّ عزل القائد عن الأُمّة كافٍ لإخماد الثورة التي ألهبها في نفوس الأحرار و الأخيار، و هنا قام الشهيد السعيد بدوره الفعّال في إلهاب مشاعر الأُمّة و قيادة جماهيرها الغاضبة من أجل تخليص قائدها العظيم من سجون الشاه العميل و تحريره من أيدي أزلامه الخونة.

2 و بعد أن ضاقت السلطات الغاشمة ذَرْعاً بالإمام الراحل و نشاطاته السياسيّة الواعية، و خطاباته الحماسية اللاهبة، و رأت في اعتقاله من قبلُ خطراً مُحدِقاً، عمدت إلىٰ تبعيده عن جماهيره الثائرة مؤمّلة أن تخبو جذوتها

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 12

المتّقِدة، فأقصته إلى تركيا و أخضعته هناك للرقابة التامّة.

فهل ترى سيّدنا الشهيد يقرّ له قرار أمام هذه الفعلة النكراء التي قامت بها السلطات الظالمة و طاغوتها المُتَفرعِن؟! لقد صعّد الشهيد السعيد من نشاطاته الجهادية و جهاده السياسي، فقام النظام الشاهنشاهي الغاشم باعتقاله و زجّه في ظلمات السجون، و تحت ضغط الجماهير المسلمة الغاضبة اضطُرّت سلطات الشاه المقبور إلىٰ الإفراج عنه بعد شهرين فقط. و ما أن شمّ نسيم الحرّيّة حتّى عاد المسلم الثائر إلىٰ نشاطه السياسيّ الفاعل، فكان بحقّ خليفة والده العظيم في قيادة الأُمّة، التي كانت تضطرم غضباً على الظالمين الآثمين بحقّها و بحقّ قائدها الأمين، فلم يجد النظام الطاغوتي الظالم بُدّاً من إقصائه عن وطنه و مَغْناه إلى تركيا حيث نُفي القائد الوالد.

3 و بعد أن حلّ أرض النجف الأشرف مع والده الحكيم و رغم كلّ الضغوط، كان يقوم في ظلّ والده القائد بدوره السياسي و واجبه الشرعي تجاه دينه و أُمّته؛ واكب الأحداث الساخنة

في الساحة السياسية في وطنه الإسلامي الكبير في إيران و العراق و سوريا و لبنان و سواها، و كان نائباً لوالده الإمام في إدارة شؤونه السياسيّة و قيادة الثورة في بلاده من بعيد بطريقة بِكْر و أُسلوب فذّ.

و سينشر المؤتمر المنعقد في الذكرى العشرين لشهادته تفاصيل مواقفه السياسية و نشاطاته الجهادية و دوره الرائد في ثورة الوالد القائد على الطغاة و المستكبرين.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 13

خاتمة حياته و جهاده

لقد أدرك العدوّ الحاقد خطر بقاء هذا المجاهد الثائر بخصائصه الفذّة إلىٰ جنب والده القائد العظيم، فأراد أن يفُتّ بعضد الإرادة الحديدية الصلبة و أن يثلم من العزم الراسخ و الجبل الشامخ و لم يكن يدور في خَلَده أنّ شهادة هذا المجاهد العظيم، ستكون سبباً للقضاء علىٰ عميل الغرب العتيد، و تقويض دعائم الحكم الوطيد لحارس مصالحه الأمين في الشرق الأوسط، كما أوضحنا ذلك من قبل.

لقد كان لاستشهاده (قدّس سرّه) ظلماً و غدراً وقع كبير و أثر بالغ في قلوب المؤمنين كافّة، و لكن ذلك الأثر البالغ يتضاعف علىٰ قلب والده العطوف العارف بخصائص ولده الفقيد، الذي نشأ علىٰ يديه الكريمتين، ولده الذي تربّى في حِجْره، و نشّأه علىٰ خطّه و فكره، و سقاه من نمير روحه و نوره، حتّى عقد آماله الكبار عليه، و لقد بكىٰ عليه بكاءً شديداً، و لكن لم يفتّ في عزمه، بل الهبة مِضاءً و عزماً أكيداً علىٰ محاربة الطغاة و المستكبرين و نصرة المستضعفين.

لقد قضى الشهيد السعيد نحبه في ظروف غامضة عام 1356 هجري شمسي عن عمر ناهز السابعة و الأربعين، فانطوت بذلك صفحة من صفحات الخلود، وَ وُوريَ إلىٰ جنب جدّه العظيم أمير المؤمنين و إمام المتّقين عليه

أفضل الصلوات و التحيّات، و انقضت بذلك حياة حافلة بالمآثر و الأمجاد زاخرة بالفضائل و الجهاد، فسلام عليه يوم ولد، و يوم جاهد فاستشهد، و يوم

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 14

يُبعث حيّاً، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

كلمة حول «تحريرات في الفقه»

الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ؛ قسم من الموسوعة الفقهيّة لآية اللّٰه العلّامة المحقّق السيد مصطفى الخمينيّ «قدّس سرّه الشريف» و قد أسميناه ب «تحريرات في الفقه» أخذاً ممّا ذكره (قدّس سرّه) في أثناء سائر مؤلّفاته.

و قد كتب معظمها في النجف الأشرف، و بعضها في قم المشرّفة، و قليلًا منها في تركيا، و هي تشتمل على كتاب الطهارة، و الصلاة، و الصوم، و المكاسب المحرّمة، و البيع، و الخيارات و الإجارة.

و قد ضاع و للأسف الشديد الكثير من أجزاء الكتاب، و لم نعثر إلّا على ذكر منها في مطاوي كلماته، أو السنة أصدقائه و تلامذته، و ما عثرنا عليه في الوقت الحاضر:

مباحث المياه، و بعض بحوث النجاسات.

و مباحث نيّة الصلاة، و بعض أحكام تكبيرة الإحرام، و عدّة بحوث في الخلل.

و مباحث نيّة الصيام، و بعض المفطرات.

و من أوّل كتاب البيع إلى مسألة تعاقب الأيدي.

و من أوائل بحوث خيار العيب إلى أواخر أحكام الخيار.

و قد قامت مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) بتحقيق تراثه الفقهيّ من التحريرات ضمن تسعة أجزاء، نرجو أن تنال رضا السادة الفضلاء

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 15

و الأعلام.

و لسنا بحاجة إلى التعريف بهذه البحوث، و الّتي هي كجميع بحوثه الفقهيّة و الأُصوليّة و العقليّة و التفسيريّة قد بلغت القمّة من حيث التحقيق و التدقيق و التتبّع، ممّا يوشك أن لا يراها المراجع

في غيرها، و ليس هذا إلّا لما حباه الباري سبحانه من الفهم، و سرعة الحفظ، و النبوغ، و الصفاء الروحانيّ، فكان ممّن جمع اللّٰه تعالى له بين الدنيا و الآخرة، و بين العلم و العمل، و حاز كلّ الكمالات الّتي يحتاجها الفقيه في الاستنباط.

و لا بأس بالإشارة إلى بعض الشواهد الناطقة بصدق ما ادعيناه، أداءً لبعض حقوقه، و كشفاً لما خفي على الخاصّة، فضلًا عن العامّة:

أ كان للشهيد المؤلّف (قدّس سرّه) قلم سيّال في مختلف العلوم الإسلاميّة، و كان مورداً للعناية و اللطف الربّانيّين، فقد كتب جميع تراثه الفكري في مدّة لا تتجاوز الخمسة عشر عاما، و بلغ ما وصلنا من آثاره الثمانية و العشرين مجلّداً، رغم إنّ الضائع هو أكثر من الموجود بأيدينا.

ب كلّ من يراجع إحدىٰ آثاره الثمينة في أيّ العلوم يخال إليه عكوف المؤلّف علىٰ تحقيق هذا الأثر فحسب، و لم يكن له شغل إلّا تنقيح هذه المباحث، مع أنّ تآليفه الفقهيّة كانت متزامنةً مع بحثه الأُصوليّ و التفسيريّ، و متقارنةً مع تعاليقه على الحكمة المتعالية، في الوقت الذي كان يتصدّى فيه لدفع الضغوط الواقعة على الأُمّة الإسلاميّة من قبل طاغوتي إيران و العراق، و يدافع عن حريم ساحة والده العظيم في مقابل بعض الملتفّين حول المراجع العظام.

ج على الرغم من توغّله في الأُصول و العلوم العقليّة، فقد دأب في

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 16

السير على ضوء السنّة الحنيفة، و لم يترك الأحاديث و الروايات المفتى بها و المشهورة لأجل أدنىٰ خدشة، أو خلل أُورد عليها.

د من يراجع مؤلّفاته (قدّس سرّه) يجده مجتهداً مؤسّساً مجدّداً في الكثير من آرائه و استدلالاته، و لكنّه مع ذلك ففتاواه موافقة لما

هو المعروف المشهور، و لم يتخذ فتوى شاذّة، أو فقهاً جديداً، بل صرّح في مواضع من كلماته: بأنّ مخالفة المشهور توهن جواز اتباع مرجع التقليد، فكان ذلك أصلًا اتبعه.

ه رأى أنّ كثرة احتياطات الفقهاء، توجب العسر و الحرج على المقلّدين المنفيّين في الشريعة السهلة السمحة، و أنّ الأصل هو السهولة و السماحة، و تمكّن من الجمع بين الاحتياط و عدم الخروج عن هذا الأصل الأصيل، الأمر الذي لا يتسنّى إلّا للأوحدي من الفقهاء المبدعين و المبتكرين.

و لم يتكلّف (قدّس سرّه) في استخدام الألفاظ، و لم يتفنّن في الإتيان بالعبارات، و تحرّز عن وضع اصطلاحات جديدة توجب صعوبة المطالب العلميّة و تعقيدها، بل سعىٰ إلىٰ بيان آرائه بأقلّ ما يمكن من الألفاظ، و أفنى اللفظ في المعنىٰ، و أوكل الكثير ممّا يلزم شرحه و توضيحه إلى فهم القارئ الفاضل، و لم ينقل من الأقوال و الاستدلالات إلّا محصّلها و مفادها، بل و هذّبها ممّا لا يليق بشأن قائله، و أدّاها ببيان آخر أوضح؛ علىٰ خلاف دأب الكثيرين ممّن جعلوا كتبهم استنساخاً لكتب الآخرين.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 17

عملنا في تحقيق الكتاب

1 مقابلة النسخة المستنسخة مع النسخة الخطّية للكتاب: و هي مسودّة بخطّ المصنّف (رحمه اللّٰه)، و هذه المخطوطة محفوظة مع سائر كتب المصنّف (رحمه اللّٰه) في المكتبة العامّة لآية اللّٰه العظمىٰ المرعشي النجفي (قدّس سرّه)، و نحن بدورنا نشكر سماحة حجّة الإسلام و المسلمين السيّد محمود المرعشي دام عزّه؛ لمساعداته الكثيرة التي قدّمها لنا.

2 تقويم النصّ و تقطيعه و تزيينه بعلائم الترقيم المناسبة: و هو جهد علمي و فنّي يتناسب مع طبيعة الكتاب المحقَّق من ناحية دقّة مطالبه و صعوبتها، و بذلك يستطيع القارئ الكريم

تقدير الجهد المبذول في هذا المجال بالنسبة لهذا الكتاب.

3 عنونة مطالب الكتاب: و حيث إنّ مخطوطة المصنّف الشهيد (قدّس سرّه) مسودّة لم يتناولها ثانية بالتصحيح و التهذيب، و لم يضع العناوين لجميع مطالب الكتاب؛ لذا فقد قمنا بوضع العناوين بحسب الحاجة في المواضع التي لم يعنونها المصنّف (رحمه اللّٰه).

4 تخريج الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة و أقوال العلماء.

و قد استعملنا كلمة «انظر» في الموارد التي لم نجزم بثبوت نسبة الأقوال إلىٰ أصحابها، كما استعملنا كلمة «لاحظ» في موردين:

الأوّل: حيث ينقل المصنّف (رحمه اللّٰه) أقوال العلماء نقلًا حدْسيّا.

الثاني: في الموارد التي لا نعثر علىٰ صاحب القول، و نعثر على

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، المقدمة، ص: 18

الناقل عنه.

5 إرجاعات المصنّف (قدّس سرّه): سواء كانت إلىٰ نفس كتابه سابقاً أو لاحقاً، أو إلىٰ كتبه الأُخرىٰ.

هذا، و قد قمنا بتحقيق هذا الكتاب و سائر كتب المصنّف الشهيد (قدّس سرّه) البالغة (28) مجلّداً، و أنجزناها بجميع مراحل التحقيق من المقابلة و التخريجات البالغة مائة ألف تخريج و التقويم و التقطيع و غيرها في فترة زمنيّة قصيرة جدّاً قياساً مع العمل الضخم المنجز، و قد تمّ بتوفيق اللّٰه عزّ و جلّ حيث أمدّنا بعونه و لطفه، و بجهد مجموعة من الأفاضل باذلين غاية وُسعهم في إخراجه بأحسن وجه أمكنهم.

و في الختام نرفع إلىٰ مقام المؤلّف الشهيد العلّامة (قدّس سرّه) و إلى حضرات الأعلام و الفضلاء اعتذارنا ممّا قد يُعثر عليه من خلل أو زلل في عملنا، و عذرنا في ذلك رغبتنا في إتحاف الملأ العلمي الكريم بمجموعة مصنّفات العلّامة الشهيد (قدّس سرّه) القيّمة، و ذلك بمناسبة الذكرى السنويّة العشرين لشهادته.

و لا يفوتنا في هذا المقام أن نشكر فضيلة الأخ

الجليل الشيخ محمّد حسين ساعي دام عزّه على عظيم جهوده المشكورة التي بذلها في هذا السبيل، أجزل اللّٰه ثوابه و شكر مساعيه.

مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) فرع قم المقدّسة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 1

كتاب الطهارة

اشارة

و هو مشتمل علىٰ مقاصد

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 5

المقصد الأوّل في المياه و أحكامها

اشارة

و فيه مقدّمة، و مباحث، و فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 7

مقدّمة

في تقسيم الماء و معناه

قد تعارف بينهم تقسيم الماء إلى المطلق و المضاف، و هذا التقسيم بلحاظ الأحكام المختلفة الطارية عليه، و ليس المقصود إلّا ذكر أنّ المائعات الخارجيّة؛ بين ما هو الطاهر المطهّر كالماء الخالص، و بين ما هو الطاهر بالذات، و ليس بمطهّر، كالماء المخلوط بغيره من أجزاء المأكولات كالرقّي و البطيخ، و من غيرها كالتراب و نحوه، و كالدبس المائع و الزيت و النفط و العطر و سائر الأعراق المتّخذة من النباتات، من غير كونها من الماء المضاف الاصطلاحيّ، مع أنّها أقرب إلىٰ إطلاق «الماء» عليها من غيرها و لو مجازاً.

فهذا التقسيم ناظر إلىٰ بيان أمر واقعيّ، من غير نظر إلىٰ خصوصيّات اللّغات، من الحقيقة و المجاز.

و لا يلتزم المقسِّم بأنّ الإطلاق قيد الماء المطهّر، مع أنّه لا بدّ منه في حصول القسمة حقيقةً.

و لا يلتزم بأنّ المضاف هنا هو معنى الإضافة التي هي النسبة، بل

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 8

مقصوده معلوم من الخارج.

و لا يلتزم بأنّ ماء البحر و البئر من المضاف أيضاً، فهذا التقسيم صحيح مع الغمض عن هذه الأُمور.

و العجب، أنّ قوماً توهّموا أنّ المقسم هو الجامع بين الحقيقة و المجاز!! «1» مع أنّه ممّا لا معنىٰ له إلّا بأن يقال: إنّ لفظ «الماء» كما هو موضوع للماء الخالص، موضوع للمائع القابل للصدق عليه و على المضاف؛ إمّا بنحو الحقيقة، أو بنحو المجاز، أو بنحو الادعاء بأن يكون المقسِّم مدّعياً أنّ الماء المضاف من الماء حقيقة؛ و أنّ الماء له أفراد، منها الخالص، و منها المخلوط، فعليه يكون التقسيم صحيحاً، و مستلزماً لصدق

«الماء» المقسمي على الأقسام بنعت الحقيقة على الفرضين، أو المجاز على الفرض الثاني.

معنى الماء المطلق و المضاف

ثمّ إنّهم لعدم وقوعهم في مواقف الشبهات في الإشكال، بنوا علىٰ تعريفه: «بأنّه ما يستحقّ أن يطلق عليه اسم «الماء» عرفاً من غير قيد و إضافة» «2».

و كأنّه لو لم يكن هذا التعريف له، يقعون في حيص و بيص، مع أنّ

______________________________

(1) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 109، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 11 و 12، مهذّب الأحكام 1: 123.

(2) شرائع الإسلام 1: 24، إرشاد الأذهان 1: 235، جواهر الكلام 1: 61.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 9

الأمر ليس كذلك، بل المناط علىٰ ما هو الماء، و يكون هو طبيعته، سواء كان إطلاق لفظ «الماء» عليه حقيقة، أو مجازاً و محتاجاً إلى القرينة، أو أُطلق عليه اللّفظ الآخر.

و بالجملة: الأمر سهل، و سيأتي البحث حول الأُصول العمليّة عند الشكّ في الصدق و المصداق إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

فالماء المطلق: هو ما ليس الإطلاق قيده، بل هو الطبيعة المائيّة الخالصة عن الأشياء الأُخر، الموجبة لانقلاب تلك الطبيعة إلىٰ طبيعة أُخرى؛ بحيث تغايرها، أو تكون هي معها.

و الماء المضاف: هو المائع الأعمّ من كونه سيّالًا بالماء، كماء الورد و غيره، أو سيّالًا بذاته، كالزيت و نحوه؛ فإنّ الجامع المزبور هو السيلان و الميعان القابل للصدق عليها أيضاً، فلا تغفل و تدبّر.

و عدم إطلاق لفظة «الماء المضاف» على اللّبن، لا يورث إشكالًا في هذه المسألة، و إلّا يلزم أن يكون ماء الورد من الماء المضاف في العربيّة، دون الفارسيّة؛ لأنّه يسمّى فيها ب «گلاب» مع أنّه أظهر المصاديق القريبة من الماء، حتّى حكي «2» عن الصدوق القول بمطهّريته «3»، فلا ينبغي الخلط

بين ما هو المقصود الأصيل في مثل هذا التقسيم، و بين خصوصيّات اللّغات التي لا بدّ منها لضيق اللّغة و الخناق.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 99 و ما بعدها.

(2) جواهر الكلام 1: 311، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 111 112.

(3) الفقيه 1: 6، الأمالي: 514، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 10

كما لا ينبغي الخلط بين ضرب القواعد الكلّية الشرعيّة التي هي المرجع عند الشكّ، و بين تعريف الماء على أن يكون مرجعاً في الشبهات؛ ضرورة أنّ الشكّ في الماء- سواء كان لأجل الشبهة المفهوميّة، أو المصداقيّة إذا كان له منشأ عقلائيّ، لا يمكن رفعه بهذا التعريف؛ لأنّ مرجع هذا التعريف تشخيص العرف أيضاً، نعم الوسواسيّ يرجع إليهم، فلا تغفل.

في أقسام الماء المطلق و أنّها عشرة

ثمّ إنّ المعروف بين جماعة تقسيم الماء: إلىٰ جارٍ، و محقون، و ماء بئر، و تقسيم المحقون: إلى الكثير، و القليل، و لمّا كان المقسم عندهم ماء الأرض، لم يتعرّضوا لماء المطر «1»، مع أنّ الأمر علىٰ خلافه؛ لأنّه منها أيضاً.

و قد عدل السيّد اليزديّ (رحمه اللّٰه) إلىٰ تقسيمه: بالجاري، و النابع غير الجاري، و البئر، و المطر، و الكرّ، و القليل «2».

و هذا ممّا لا يخفى ما فيه من الإشكالات؛ فإنّه- على الظاهر قسّمه باعتبار الأحكام، فكان ينبغي أن يترك النابع غير الجاري، كما ترك ماء الحمّام.

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 71 و مابعدها، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 26، فصل في المياه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 11

و لو كان بصدد ذكر العناوين المعروفة و إن كانت متّحدة في الأحكام، فما كان وجه لطرح الماء المستعمل في الأحداث

و ماء الحمّام.

و قد عدل عنه السيّد الأصفهانيّ (رحمه اللّٰه)، فترك الكرّ و القليل، فصارت الأقسام خمسة؛ بإضافة الماء الراكد «1»، و الأمر سهل.

و الذي هو التحقيق: ذكر جميع المياه بعناوينها من غير نظر إلى الأحكام؛ لأنّه من الممكن تفاوت آرائهم فيها، فهو الجاري، و النابع الراكد، و البئر، و المطر، و الحمّام، و الكثير، و القليل، و المستعمل في الأحداث.

و إن شئت أضف إليها الماء المشكوك، حتّى تكون هي العشرة الكاملة؛ لأنّ المراد من «المشكوك» أعمّ من الشكّ في خصوصيّات هذه المياه، أو الطهارة و النجاسة، فتدبّر.

______________________________

(1) وسيلة النجاة 1: 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 13

المبحث الأوّل في مطهّرية المياه المطلقة

اشارة

و فيه فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 15

الفصل الأوّل في محتملات عدم مطهّرية ماء البحر
اشارة

لا شبهة في مطهّرية الماء في الجملة، و لا منع من ادّعاء الضرورة عليه، و عليه اتفاق جميع الملل، و أمّا كون جميع أقسامه مطهّرةً من جميع الأحداث و الأخباث، من الضروريّ في الدين- كما يظهر من «الجواهر» «1» و هو صريح بعض آخرين «2» فهو محلّ منع.

و ما توهّموه من: أنّ عبد اللّٰه بن عمر، و عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص، من القائلين بعدم مطهّرية ماء البحر، و هكذا سعيد بن المسيّب «3»، فهو لعدم التدبّر في خصوصيّات كلامهم:

قال الشيخ في «الخلاف»: «مسألة: يجوز التوضّي بماء البحر مع

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 62.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 25، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 4، مهذّب الأحكام 1: 124.

(3) جواهر الكلام 1: 62، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 16

وجود غيره من المياه، و مع عدمه، و به قال جميع الفقهاء. و روى عن عبد اللّٰه بن عمر و عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص أنّهما قالا: التيمّم أحبّ (أعجب) إلينا منه. و قال سعيد بن المسيّب: يجوز التوضّي به مع عدم الماء، و لا يجوز مع وجوده» «1» انتهىٰ.

بيان عدم مطهّرية ماء البحر لأجل الشبهة الموضوعية

و التدبّر في المسألة يورث أنّهم لمكان الشبهة الموضوعيّة، قالوا بذلك، و كأنّ رأيهم في المسألة طوليّة ماء البحر بالنسبة إلى التراب، أو كأنّ هذا رأي الأخير، و رأيَهما طوليّة التراب بالنسبة إلىٰ ماء البحر، أو عرضيّتهما.

و هذا لما كانوا يرون فيه من الأملاح الكثيرة المورثة للشبهة في صدق «الماء» عليه، و لأجل ذلك الاشتباه أفتوا بأنّ الوضوء أوّلًا بالماء، ثمّ بماء البحر، ثمّ بالتراب، أو أفتى الأوّلان

بأنّه أوّلًا بالماء، ثمّ بالتراب أو ماء البحر؛ و ذلك لكلمة «أحبّ» أو «أعجب» في كلماتهم، و لقوله: «يجوز التوضّي بماء البحر مع عدم الماء».

فلو كان ماء البحر عنده ماءً، لكان ينبغي أن يقيّد كلامه؛ حتّى يعلم أنّه يرىٰ ماء البحر ماءً، فيعلم منه أنّه ما كان يجد صدق «الماء» علىٰ ماء البحر، و كانت فتواه في المسألة- و هي ما لو كان فاقد الماء واجد ماء

______________________________

(1) الخلاف 1: 50، و لاحظ أيضاً: المغني، ابن قدامة 1: 8، المحلّىٰ 1: 359، المجموع 1: 91، سنن الترمذي 1: 47.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 17

البحر، فهل يتيمّم، أو يتوضّأ؟ أنّه يتوضّأ، فكأنّه كان يقول بمطهّرية الماء طولًا لا عرضاً؛ و ذلك إذا كان أحد المياه مشتبهاً في الإطلاق، فلاحظ و تدبّر، و الأمر سهل.

بيان عدم المطهّرية لأجل الشبهة الحكميّة

ثمّ إنّ من المحتمل كون فتواهم في المسألة، لأجل الشبهة الحكميّة؛ و ذلك لأنّ المياه عندهم علىٰ قسمين: ماء الأرض، و ماء السماء، فجميع الأنهار و الآبار و المنابع و غيرها من ماء السماء، أو من السماء و لو كان من الثلج و (البرف) و ماء البحر من الأرض، و لا دليل علىٰ مطهّريته في الكتاب، و ما كان عندهم من السنّة شي ء.

و هذا في حدّ نفسه و إن كان غلطاً، إلّا أنّه ليس من الأمر الغريب، بعد ظهور الآيات الآتية في الأُمور الأُخر، أو مطهّرية ماء السماء.

نعم، فتواهم بالطوليّة كانت لأجل الأُمور الأُخر الموجودة عندهم، فلا يعدّ هؤلاء من مخالفي مطهّرية الماء على الفرض الأوّل، و لا من منكري الأمر الضروريّ على الفرض الثاني، بل غاية ما يظهر منهم؛ أنّهم يقولون بمطهّرية بعض المياه في طول المياه الأُخر،

أو في عَرْض التراب.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 18

الفصل الثاني في بيان المقصود من مسائل المياه
اشارة

لا شبهة في أنّ الماء طاهر، و ليس هذا هو المقصود في مسائل المياه، حتّى يذكر عليه الدليل من الكتاب و السنّة، و إلّا يلزم عقد الباب لجميع الأشياء، فهذا ليس مورد الدعوىٰ، كما لا حاجة إلىٰ ذكر الأدلّة علىٰ مطهّرية الماء في الجملة.

فالمقصود في المقام، إثبات مطهّرية جميع المياه، و إثبات أنّ مطهّريتها مشروطة بالطهارة؛ أي يعتبر في كونها مطهّرةً الطهارةُ، و عدمُ كونها نجسةً بالملاقاة كما في القليل، و بتغيّر أوصافها الثلاثة كما في غيره، و إثبات أنّ جميع المياه في عَرْض واحد في تلك الخاصيّة و الإفادة.

توهّم الملازمة بين مطهّرية الماء و طهارته و الجواب عنه

و توهّم: أنّ إثبات المطهّرية يستلزم إثبات الطهارة؛ لعدم معقوليّة التفكيك، أو عدم معهوديّته «1»، في غير محلّه؛ لأنّ الطهارة لو كانت من الأُمور الجعليّة الاعتباريّة- كما اختاره جماعة «2» يمكن أن لا تكون

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 70، جامع المدارك 1: 1 2، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 17.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 248، فوائد الأُصول 4: 401، نهاية الأفكار 4: 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 19

مجعولةً على الماء، و جعل المطهّرية لا يستلزم جعل الطهارة استلزاماً لغويّاً، و إلّا لم يصحّ إطلاقها علىٰ ما لا يصحّ إطلاق اسم «الطاهر» عليه، كالإسلام و النار و الانقلاب و الاستحالة، فإنّها من المطهّرات واقعاً من غير كونها طاهرةً، بل إطلاق «المطهّر» على الغسل و الوضوء و التيمّم، أيضاً من هذا القبيل كما لا يخفىٰ.

و لا ملازمة خارجيّة بينهما؛ لإمكان كون الماء النجس بالدم، مطهّراً للمتنجّس بالبول، فلا بدّ من إقامة الدليل على الشرطيّة المذكورة.

و ما أفاده الفقيه اليزديّ بعد ذكر المياه بقوله: «و كلّ منها مع عدم ملاقاة النجاسة، طاهر مطهّر

من الحدث و الخبث» «1» انتهىٰ، غير ظاهر؛ لأنّ غير القليل يطهّر و لو لاقىٰ النجس، و كونُ المقصود منه المعنى الأعمّ من الملاقاة التي تورث النجاسة بنفسها كما في القليل، أو توجب النجاسة لأجل تغيّر الماء بها في الأوصاف الآتية، لا يجوّز هذا الاستعمال الفاسد قطعاً.

هذا، و إثبات أنّه طاهر غير كافٍ عن إثبات اشتراط مطهّريته بالطهارة، مع أنّه- علىٰ ما أُشير إليه غير محتاج إليه.

فتحصّل: أنّ في المسألة ثلاث دعاوٍ: مطهّرية كلّ ماء، و اشتراطها بالطهارة، و أنّ هذا حكم عَرْضيّ لا طوليّ، خلافاً لجماعة من العامّة «2».

ثمّ بعد ذلك دعويان أُخريان: و هو أنّه مطهّر لكلّ الأحداث، و الأخباث.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 26 فصل في المياه.

(2) تقدّم في الصفحة 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 20

الفصل الثالث فيما يستدلّ به علىٰ مطهّرية المياه
اشارة

و هي الآيات و الروايات:

الآيات المستدلّ بها علىٰ مطهّرية المياه
[الآية الأولى]
اشارة

منها: قوله تعالىٰ في سورة الفرقان وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1».

و الكلام فيه من جهات:

فتارة: من جهة «الإنزال»، و أُخرى: من جهة إفادتها العموم، و ثالثة: في كلمة «الطهور».

و البحث في الجهة الأخيرة:

تارة: يكون في مادّة «الطهارة».

و أُخرى: في هيئة «الطهور».

و ثالثة: في مفاد الآية الكريمة.

و رابعة: فيما ورد في الروايات من استعمال كلمة «الطهور»، الدالّ علىٰ أنّ استعمال الكتاب استعمال خاصّ «2».

______________________________

(1) الفرقان (25): 48.

(2) وسائل الشيعة 1: 133 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 4 و 8 و 9 و 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 21

جهات البحث في مادّة الطهارة

و البحث في المادّة من نواحٍ شتّىٰ؛ لأنّه قد يكون حول أنّ الطهارة و النجاسة من الأُمور الحقيقيّة التي كشف عنها الشرع الأقدس، أو الاعتباريّة المجعولة، أو هي من الأُمور المعلومة العرفيّة، إلّا أنّ الشرع تصرّف فيها توسعةً و تضييقاً.

و قد يكون حول أنّ الطهارة و النجاسة من الضدّين لا ثالث لهما، أو من العدم و الملكة، أو كالعدم و الوجود من السلب و الإيجاب، أو لهما الثالث؛ لما أنّهما اعتباريّان مجعولان، أو تكون الطهارة مجعولة، دونها.

و قد يكون حول أنّ هذه المادّة، تقبل الاشتداد و الضعف بقول مطلق و لو كانتا من الاعتباريّات؛ لأنّ الأُمور الاعتباريّة لا تقبل الاشتداد و الضعف الحقيقيّ، دون الاعتباريّ، فتكون للملكيّة مراتب شديدة و ضعيفة كما صرّح به جماعة «1»، و منهم الفقيه اليزديّ في «ملحقات العروة» «2» أو لا تقبل إلّا على القولين الأوّل و الثالث.

أو يقال: بإمكان فرض التفاضل فيها، إلّا أنّه خلاف الواقع؛ فإنّ اعتبار التزايد و التفاضل يتقوّم بالغرض، فلو وجدنا الثمرة فهو، و إلّا فلا حاجة

______________________________

(1) بلغة الفقيه 2: 70، الإجارة، المحقّق الرشتي: 13/ السطر 34، و لاحظ حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 1: 32/ السطر 20.

(2) لم نعثر عليه في ملحقات العروة الوثقىٰ، لاحظ حاشية المكاسب، قسم الخيارات: 4/ السطر 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 22

إليه، فلا ينبغي الخلط بين الأُمور التكوينيّة و الاعتباريّة، و لا بدّ من التأمّل جدّاً.

هذا، و حيث إنّ الآية قاصرة عن إفادة مطهّرية جميع المياه- و لو قلنا: بأنّ «الطهور» هو المطهّر و أنّ «الإنزال» أعمّ من الإنزال المحسوس فلا وجه للغور في المباحث المشار إليها، و سيأتي في مطاوي المباحث الآتية ما يظهر لك من التحقيق فيها.

عدم دلالة الآية على مطهّرية المياه

و توهّم: أنّها مع إلغاء الخصوصيّة، أو القول بعدم الفصل، تفيد العموم «1»، غير نافع لما سيأتي، بل المتأمّل فيما قبلها و ما بعدها، يطمئنّ بأنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، و لذلك لا بأس بذكرها، فاستمع إليها:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبٰاساً وَ النَّوْمَ سُبٰاتاً وَ جَعَلَ النَّهٰارَ نُشُوراً. وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً. وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبىٰ أَكْثَرُ النّٰاسِ إِلّٰا كُفُوراً «2».

و أنت بعد التدبّر، تعرف أنّها في مقام الاحتجاج على المبدأ الأعلى؛

______________________________

(1) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 111، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 10.

(2) الفرقان (25): 47 50.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 23

و أنّه كما يرسل الرياح فكذا يرسل و ينزّل الماء الطهور؛ لإحياء الأراضي الموات، فالطهارة هنا صفة في الماء صفةً ذاتيّة، من غير نظر إلىٰ مطهّريته للأفراد من

الخبائث و الأحداث.

و بعبارة اخرىٰ: المطهّرية من صفات الماء، و ليست مجعولة عليه و إن أمكن سلبها عنه، كما في الماء النجس، فهي لتلك الجهة قابلة للجعل، بخلاف الطهور، فإنّه من الصفات الطبيعيّة له، فكأنّه أُريد هنا بيان الوصف الطبيعيّ، الذي عليه يترتّب سقي الأراضي و الناس الكثير.

و في قوله أَنٰاسِيَّ كَثِيراً شهادة علىٰ أنّ الماء فيه هو ماء المطر و طائفة من المياه، لا مطلقه، فالآية إمّا أجنبيّة عن مسألتنا، أو قاصرة عن إفادة المقصود بعد ما ورد في ذيلها قطعاً.

هذا مع أنّه لا يفيد العمومين الأخيرين؛ و هو مطهّريته من جميع الأحداث، و الأخباث، فربّما يكون مثل الشمس، فإنّها مطهّرة لغير المنقولات، علىٰ ما تقرّر في محلّه «1».

و ما ذكرناه لا ينافي كون الآية في مقام الامتنان؛ لأنّ الماء المنزل هو الذي فيه الخواصّ الكثيرة المترتّبة عليها، مع أنّها في مقام الهداية و إرشادهم إلى الاعتقاد باللّٰه تعالىٰ و كتبه و رسله، لا المنّة، فإثبات عمومه من تلك الجهة ممنوع جدّاً.

______________________________

(1) لاحظ جواهر الكلام 6: 253 266، العروة الوثقىٰ 1: 129 الثالث من المطهّرات، تحرير الوسيلة 1: 130.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 24

ردّ توّهم عدم دلالة «الطهور» على المطهّرية

و توهّم: أنّه لو كان «الطهور» بمعنى «المطهّر» لا يفيد أيضاً شيئاً؛ لأنّه مطهّر من القذارات العرفيّة، و لا يعهد من النجاسة و الأحداث الشرعيّة في صدر الإسلام، عين و لا أثر «1»، فاسد جدّاً؛ لأنّ قصرها بها يحتاج إلىٰ دليل، فلو عدّ في الإسلام شي ء قذراً و لو في الأعصار المتأخّرة، فهو يطهّر به كسائر الموضوعات المستحدثة.

مع أنّ مسألة الجنابة و النجاسة الشرعيّة بنحو الإجمال، كانتا بين المسلمين، كما يأتي ذيل الآية الثانية.

فتحصّل: أنّ إطالة الكلام

في المقام حول كلمة «الطهور» من حيث المادّة و الهيئة التصوّرية، ثمّ الهيئة التصديقيّة من الآية، ممّا لا حاجة إليه، و كونُها في استعمال الروايات بمعنى المطهّر، لا يبلغ إلىٰ حدّ يورث الاستعمال الخاصّ في لسان الكتاب، حتّى ينقلب من الحقيقة اللّغوية إلى الحقيقة الثانية في محيط التشريع، كما قيل بذلك في كلمة «السهو» «2» فإنّه كثيراً ما استعمل مقام الشكّ، بحيث صار حقيقة فيه في محيط الأخبار.

هذا، و الذي يظهر لي: هو أنّ «الطهور» صفة مشبّهة فيه من المبالغة، و لا تتقوّم المبالغة بالتزايد و التفاضل الواقعيّ، بل هي في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 130.

(2) مرآة العقول 15: 227، الحدائق الناضرة 9: 293، جواهر الكلام 12: 418.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 25

موقف الدعوىٰ تكون مبالغة، و إلّا فهو الوصف، و لذلك يشكل حكمه؛ لاحتمال كونه كذباً جائزاً، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

تقريب الاستدلال بالآية الثانية على المطهّرية
اشارة

و منها: قوله تعالىٰ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدٰامَ «1».

و قد يتوهّم: أنّ الإنزال أعمّ من النزول الحسّي «2»؛ لما ورد في الكتاب ما يتعيّن فيه، مثل قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ «3» و نظائره كثيرة، فلا يختصّ الإتيان بماء المطر من تلك الجهة، بل يعمّ جميع المياه، مع أنّ جميع المياه إلّا ماء البحر- حسب ما يستفاد من الآية «4» و الرواية «5» من ماء المطر، فيتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل «6».

______________________________

(1) الأنفال (8): 11.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 9 10، التنقيح

في شرح العروة الوثقىٰ 1: 18.

(3) الحديد (57): 25.

(4) وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ المؤمنون (23): 18.

(5) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السّلام) في قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ: فهي الأنهار و العيون و الآبار، تفسير القمّي 2: 91.

(6) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 9 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 26

و هذا ممنوع جدّاً؛ لأنّ «الإنزال» ظاهر في المحسوس، و ليست الاستعمالات في الأعمّ بالغة إلىٰ حدّ الهجر و اكتساء المعنى الآخر؛ لما فيها القرائن فلاحظ، و إتمامُ القول في ماء البحر بما مرّ، غيرُ إثبات العموم بالكتاب كما عرفت.

و مثله توهّم: أنّ الآية في مقام الامتنان، و «الماء» فيها نكرة، و لا امتنان معها؛ لأدائه إلىٰ تعطيله في التطهير، فيكون مفادها العموم «1».

و فيه: أنّ الامتنان فيما كان الضيق من قبل صاحب المنّة غيرَ مأنوس، و ليس «الماء» نكرة؛ لأنّ ماء المطر هو القدر المتيقّن من المقصود في الآية، و مجرّد كون الكلمة نكرة لا يفيد شيئاً، و لا يضّر بالمطلوب.

مع أنّ السنّة إذا عيّنت الماء فيها في المطر، يتمّ الامتنان، و لا يستلزم العموم، و قد ورد في الحديث المعتبر عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في خواصّ ماء المطر مذيّلًا فيه، قراءتُه (عليه السّلام) هذه الآية «2»؛ علىٰ وجه يعيّن فيه ذلك «3».

و دعوىٰ: أنّ ماء المطر له مصاديق كثيرة، و هو أيضاً مجهول من تلك الجهة، فلا ثمرة في تلك المنّة، غير مسموعة؛ ضرورة أنّ العرف لا ينتقل ذهنه منها إلى الأفراد، بل يفهم منها نوع الماء.

هذا

مع أنّ المقدّمات السابقة، تفيد عموم المطلوب في ماء المطر، دون غيره كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 19.

(2) الأنفال (8): 11.

(3) الكافي 6: 387/ 2، وسائل الشيعة 25: 266، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المباحة، الباب 22، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 27

دلالة الآية على مطهّرية ماء السماء من جميع الأخباث

ثمّ إنّ كون الماء المذكور مطهّراً لجميع الأخباث و الأحداث- خصوصاً الشرعيّات الاعتباريّة الملتحقة بالعرفيّات النافذة في غاية الإشكال، فلعلّه المطهّر للأنجاس العرفيّة و القذارات، و لموجبات تنفّر الطباع البشريّة؛ من غير نظر إلىٰ هذه المسألة، فتكون أجنبيّة عن الجهة المقصودة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ التحقيق في مسألة الطهارة و النجاسة، أنّهما من الأُمور العرفيّة، و لا دخالة للشرع الأقدس إلّا في إلحاق بعض الأُمور بها، كالخمر و الخنزير و الكافر، و عدم ترتيب الأحكام علىٰ بعض منها، كالنخاعة و نحوها، و إلّا فما هو المستقذر عرفاً المعبّر عندهم عنه ب «النجس» ليس إلّا ما هو عند الشرع نجس و موضوع الأحكام، و ليست كلمات «النجاسة» و «الجنابة» و «الطهارة» من المستحدثات الشرعيّة، بل هي تستعمل عنده فيما يستعمل عندهم.

فعلى هذا، يكون الماء مطهّراً عن مثل البول و المنيّ و العَذِرة، و هي الأنجاس الشرعيّة أيضاً، و تكون من المستقذرات العرفيّة، و يتمّ في الباقي بالحكومة الشرعيّة؛ لأنّ الشرع عبّر عن جميع ما رتّب عليه أحكام النجاسة ب

القذر

و ذلك لنقل العرف منه إلىٰ أحكام القذر الثابتة عندهم؛ من الاجتناب، و تصرَّف أحياناً في كيفيّة الاجتناب و التطهير،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 28

و ذلك في قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «1».

فإنّ المقصود من

القذر

هنا الأعمّ من

القذارات العرفيّة، و ممّا ادّعي أنّه قذر، فإذا كان الماء في الآية مطهّراً للقذارات العرفيّة، يكون مطهّراً لجميع القذارات الشرعيّة أيضاً، فتأمّل جيّداً.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ ماء السماء مطهّر لجميع الأخباث.

دلالة الآية علىٰ مطهّرية ماء السماء من جميع الأحداث

و أمّا كونه مطهّراً من الحدث، فذلك لما ورد في وجه نزول الآية من احتياج أصحاب النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلى الماء في غزوة بدر، و قد سبقهم الكفّار إلى الماء «2»، فوسوس إليهم الشيطان؛ بأنّ الإسلام كيف يصنع بكم من أن تصلّوا مجنبين و محدثين، و عدوّكم على الماء سيقوىٰ عليكم و يقتلكم، فنزلت الآية في تلك الوسوسة و ذلك الموقف، فيكون دالّا علىٰ مطهّرية الماء من الحدث أيضاً، بل المتعارف ابتلاؤهم بالنجاسات المنويّة و البوليّة و الغائطيّة، فتكون هي زائلة أيضاً بها.

اللهمّ إلّا أن يقال: لم يثبت نجاستهم الشرعيّة في عصر الآية، و لذلك ليس من وساوس الشيطان أنّهم يصلّون في الثوب النجس.

أو يقال: إنّ قوله تعالىٰ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ إشارة إلى

______________________________

(1) المقنع: 15، مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 4.

(2) التبيان في تفسير القرآن 5: 86، بحار الأنوار 19: 222.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 29

الجنابة؛ لأنّها منه، و يكون قوله تعالىٰ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» من الخبث، و هذا تطهير من الحدث، و اللّٰه العالم.

الآية تقتضي كون جميع المياه من السماء

فبالجملة: يثبت بهذه الآية مطهّرية ماء السماء لكلّ الأحداث و الأخباث، و مقتضى الآية الأُخرىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ «2» و بعضِ النصوص «3»، أنّ جميع مياه الأرض- غير البحر من السماء، فيثبت مطهّرية جميع المياه لجميعها.

و ليس مفهوم ماء المطر في الكتاب، حتّى يقال: بأنّ ماء البئر مثلًا و ماء الشطّ ليس منه، بل المطهّر هو ماء السماء، و المياه الأُخر منه أيضاً.

و كون ماء البحر أيضاً منه يستلزم بعض

الإشكالات، و التحقيق في محلّه.

و حاصله: أنّه ممّا لا منع منه عقلًا؛ لأنّ التسلسل في المعدّات من الجائز عقلًا و برهاناً، و مقتضى عموم الآية أنّ جميع المياه من السماء حتّى ماء البحر، و عدم وجود أداة العموم في هذه الآية، لا يورث عدم الاستفادة منها عرفاً، فليتدبّر.

و إن شئت قلت: إلغاء الخصوصيّة و مناسبة الحكم و الموضوع و الأولويّة و مفهوم الموافقة و أمثال ذلك، يقضي بأنّ الدليل متكفّل للمعنى

______________________________

(1) الأحزاب (33): 33.

(2) المؤمنون (23): 18.

(3) تقدّم في الصفحة 25، الرقم 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 30

العامّ، و هذا من الدلالة اللّفظية، فتكون الآية عامّة، و هذه التعابير لا تأتي في الآية الأُولىٰ؛ لما عرفت أنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و يحتمل قريباً، عدم تأتّيها هنا أيضاً؛ لأنّ ماء السماء من أظهر مصاديق الماء.

تقريب الاستدلال بالآية الثالثة على مطهّرية جميع المياه

و منها: قوله تعالىٰ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيعلم مطهّرية جميع المياه، إلّا أنّه ليس إلّا من الحدث الأكبر، بل و الأصغر؛ لقوله تعالىٰ قبله أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ «2».

و قد يشكل: بأنّ النكرة في سياق النفي ليست من أداة العموم، فنحتاج إلىٰ مقدّمات الحكمة، و الآية في مقام ترخيص التيمّم فيما لم يكن الماء، و لعلّ المطهّر ليس إلّا الماء الخاصّ.

هذا مع أنّه لا يستفاد منه مطهّرية الماء، و قد مضى لزوم جعل المطهّرية عليه؛ لما سلب هذه الصفة منه في بعض المياه.

و فيه: أنّه لو سلّمنا الحاجة إليها، لكن لنا دعوى عدم انفكاك مثل

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ

سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .. المائدة (5): 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 31

هذه الهيئة عن كون المتكلّم في مقام يرىٰ جميع المياه مطهِّرة، و الشكّ في أنّها لا تفيد المطهّرية من الشكّ في الأمر الواضح؛ ضرورة أنّ المقصود من المَاء في الآية، ليس إلّا التطهّر به، كما قال فَاطَّهَّرُوا فهذا من لوازمه القطعيّة، و العموم من لوازمه العرفيّة.

هذا تمام الكلام في الآيات الثلاث، إلّا أنّ تمام المدّعىٰ- و هو مطهّرية جميع المياه لجميع الأحداث و الأخباث غير ثابت بها، و إلغاء الخصوصيّة عن الأحداث لفهم المطهّرية للأخباث، كإلغائها لفهم المطهّرية لماء البئر من الآية السابقة، كما لا يخفىٰ.

المآثير المستدلّ بها علىٰ أنّ المياه مطهِّرة
اشارة

قد عرفت: أنّ المقصود ليس إثبات طهارة الماء في نفسه؛ لأنّه ليس من الأمر المهمّ، و لا معنىٰ له؛ للزوم عقد البحث لجميع أجناس العالم و طبائعه، بل المهمّ إثبات مطهّريتها لجميع الأحداث و الأخباث، و من الأخباث جميع المتنجّسات، حتّى يرجع إلىٰ ذلك العموم اللّفظي في مواقف الشبهة.

و توهّم: أنّه لا ثمرة فيه؛ لقيام الإجماعات و الضرورة عليها «1»، غير تمام؛ لإمكان التمسّك بإطلاق ذلك العموم لو شكّ في كيفيّة التطهّر من المرّة و المرّتين و غيرها.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى الاستصحاب التعدّد، و يجوز الاتكال عليه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 110 111.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 32

بترك الإتيان بالقيود في الكلام، و لكنّه محلّ منع.

و العجب، أنّ القوم يصرّون علىٰ إثبات طهارة الماء، مستدلّين بروايات تدلّ عليها!! و كأنّهم ظنّوا أنّ إثبات الطهارة ملازم لإثبات المطهّرية، و هو في محلّ المنع؛ لأنّ المطهّرية من الصفات

المجعولة، لإمكان سلبها عنها، كما في المنجَّس من الماء القليل، بل في المستعمل في الاستنجاء يكون الماء طاهراً غير مطهِّر، و المقصود ليس أنّه جعل المطهّرية للماء، بل بقاؤها عليه بعد ثبوتها العرفيّ، و عدمُ ردعه عنها يكفي لنا، فكونه طاهراً لا يستلزم ذلك، كما أنّ كونه مطهِّراً ليس كذلك، كما مضى تفصيله.

عدم دلالة المآثير المشتملة علىٰ كلمة «طهور» على المطهّرية

فبالجملة: قد وردت روايات مشتملة علىٰ كلمة ال

طهور

مثل معتبرة جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)- في حديث قال

إنّ اللّٰه جعل التراب طهوراً، كما جعل الماء طهوراً «1».

في حديث آخر من أحاديث الوضوء: «إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يقول عند النظر إلى الماء: الحمد للّٰه الذي جعل الماء طهوراً، و لم يجعله نجساً «2».

______________________________

(1) الفقيه 1: 60/ 223، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 52/ 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 16، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 33

و في ثالث

طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبعاً «1».

و هكذا.

فإنّ هذه الكلمة حسب القواعد، أمرها دائر بين كونها صفة مشبّهة، أو مبالغة، و حيث إنّ الاولىٰ غير مناسبة للقرائن في مواضع الاستعمال، تتعيّن الثانية.

و معنى المبالغة، إمّا يرجع إلى الصفة الذاتيّة في الماء، فهو ليس من المبالغة المصطلح عليها، و إمّا يرجع إلى الادعاء المحتاج إلى المصحّح.

فإن كان الجعل تكوينيّاً، يتعيّن الأوّل، و إن كان إنشائيّاً أو إخباراً عن أمر مُنشأ، يتعيّن الثاني.

و لعلّ الظاهر هو الثاني، و المصحّح له في التراب هو المطهّرية للغير، و لكنّ المصحّح في الماء يحتمل فيه ذلك، و يحتمل كونه لأجل

عدم انفعاله، أو هما معاً، و مقتضى السياق اتحادهما، و الجمود يقتضي خلافه كما لا يخفى، فيكون الدليل من تلك الجهة مجملًا.

و العجب من قوم، توهّموا في بعض المواقف المشابِهَة، لزومَ أعميّة الفرض مثلًا؛ لئلّا تلزم اللّغوية!! و كأنّهم لم يسمعوا في الأدلّة دليلًا مجملًا، حتّى يكون هذا منه.

و ممّا يشهد علىٰ أنّ كلمة «طهور» تستعمل في المآثير من غير إرادة المطهِّرية بالمعنى المقصود منها، ما رواه المفيد في «المقنعة» عن الباقر (عليه السّلام)

______________________________

(1) عوالي اللآلي 4: 49/ 173، مستدرك الوسائل 2: 603، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 45، الحديث 4، مع اختلاف.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 34

قال

أفطر على الحلو، فإن لم تجده فأفطر على الماء؛ فإنّ الماء طهور «1».

بل قوله (عليه السّلام)

و لم يجعله نجساً «2»

ربّما يشهد علىٰ أنّ المقصود من ال «طهور» هناك، ليس المطهِّرية بالمعنى المقصود، فلا تغفل.

بيان الاستدلال بحديث: «الماء يطهِّر و لا يطهَّر»

و سيأتي بيان حول استفادة العموم من الطائفة الأُخرىٰ من الروايات؛ و هي ممّا تكون ناطقة بأنّ

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

و قد ورد هذا المضمون مرسلًا بإرسال الصدوق، مسنداً إلى الإمام (عليه السّلام) في «الفقيه» «3» و مسنداً في «الكافي» بإسناده عن النَّوْفلي، عن السَّكُوني «4»، و مرفوعاً في «المحاسن» «5» فالرواية معتبرة علىٰ مذهبنا؛ لأنّ النوفليّ و السكونيّ عامّيان معروفان بالمتانة؛ علىٰ ما يظهر من رواياتهم في الأبواب المختلفة، و كون إبراهيم بن هاشم في السند أيضاً لا يورث شيئاً.

______________________________

(1) المقنعة: 317، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 10.

(2) تهذيب الأحكام 1: 52/ 153، وسائل الشيعة 1: 401، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 16، الحديث 1.

(3) الفقيه 1: 6/ 2،

وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 3.

(4) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

(5) المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 35

و غاية ما يمكن أن يقال: هو أنّ حذف المتعلّق دليل العموم؛ فإنّه بالنسبة إلىٰ القذارات العرفيّة معلوم تطهيره، و الشرع ألحق النجاسات المجعولة السياسيّة و غيرها بها؛ بتعبيره عنها بال

قذر

كما في كثير من المآثير، فهو مطهِّر لجميع الأخباث و المتنجّسات بها، و حيث يعبّر في مسألة زوال الأحداث عن مطهّرية الماء- كما في الكتاب «1» يعلم أنّه من تلك الجهة له العموم أيضاً، فحذف المتعلّق من الشرع الأقدس، دليل علىٰ مطهّريته للكلّ؛ بشهادة ما عرفت، و مقتضى الإطلاق أنّ نفس طبيعة الماء تكون كذلك، فكأنّه جعل المطهّرية من لوازمها.

محتملات جملة «و لا يطهَّر»

هذا مع قطع النظر عن جملة

و لا يطهَّر

و فيها احتمالات:

من كونها ناظرة إلىٰ أنّ الماء لا يَنجُس حتّى يطهَّر، فتكون في مقابل أدلّة انفعال الماء القليل.

و من كونها ناظرة إلىٰ أنّه غير قابل للتطهير مقابل ما دلّ عليه، فتكون النتيجة لزومَ المزج؛ بإفناء موضوع النجاسة، كما هو خيرة جماعة «2».

و من كونها ناظرة إلىٰ أنّه لا يطهَّر بغيره، فيكون قابلًا للتطهير بنفسه.

و من كونها ناظرة إلىٰ تأكيد الجملة الأُولىٰ، و سريان مطهِّريته في

______________________________

(1) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ .. الأنفال (8): 11.

(2) منتهى المطلب 1: 6/ السطر 30، ذكرى الشيعة: 9/ السطر 32.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 36

جميع

الأشياء من غير النظر إلىٰ حكم الماء بالنسبة إلى الطهارة و كيفيّة تطهيره و نجاسته، و كأنّه لوحظ الماء بطبيعته في طرف؛ و سائر الأشياء القابلة للتطهير به في الطرف الآخر، فقال

الماء يطهِّر و لا يطهَّر.

و كونها قاصداً إثبات عدم تطهُّره بغيره، في غاية الاستهجان؛ لعدم وجه لتوهّم أنّ الماء يطهّر بملاقاة الكتاب، و القرطاس، و القلم، و الدواة، فيتعيّن غير الاحتمال الثالث، فتأمّل.

هذا، و لكنّ الإنصاف كونها بصدد الإطلاق، و من جهة حذف المتعلّق في مقام إفادة العموم في محلّ الإشكال، بل النظر فيها إلىٰ أنّه مطهِّر، في قبال سائر الأشياء التي ليست بمطهِّرات إلّا بعض منها، فافهم و تدبّر.

عدم الفرق بين ماء البحر و سائر المياه في المطهرية

و ممّا ذكرناه يظهر: أنّ ماء البحر ليس في طول سائر المياه؛ إمّا لتلك العمومات، أو لعدم الدليل عليه، بل قضيّة السيرة مطهّرية جميع المياه، و عدمُ ردع الشرع عنها يكفي، و إمضاء بعض المياه لا يدلّ علىٰ ردعه عن بعض، فلم يتصرّف الشرع في تلك الجهة.

نعم، الحق بالقذارات العرفيّة القابلة للتطهير بالماء، سلسلة القذارات الشرعيّة موضوعاً، فيعلم حكمها.

و أيضاً: الحق بالقذارات العرفيّة و الشرعيّة، القذارات المعنويّة الزائلة بالماء مع الكيفيّة الخاصّة.

فلا جديد له في هذه المسألة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 37

نعم قد تصرّف في عموم مطهِّرية الماء؛ بإخراج الماء المتنجّس، مع أنّ العرف لا يراه نجساً إلّا في بعض الفروض.

هذا مع أنّه قد وردت روايات خاصّة في ماء البحر ناطقة بجواز التوضّي به، و أنّه

الطهور «1»

بل في رواية «دعائم الإسلام» عن عليّ (عليه السّلام) أنّه قال

من لم يطهِّره البحر فلا طهور له «2».

الروايات الظاهرة في أنَّ «الطهور» ما لا يقبل النجاسة

ثمّ إنّ هنا روايات أُخر، ربّما تكون ظاهرة في أنّ المراد من

الطهور

ما لا يقبل النجاسة؛ لما فيه العصمة و القوّة «3»، فتكون هي دالّة علىٰ أنّ وجه المبالغة هو ذا، دون المطهِّرية للغير، مثل قوله (عليه السّلام)

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجِّسه شي ء «4»

و بهذا المضمون كثير في المآثير، فدعوى أنّ الماء طهور، لا تصحّ إلّا مع المصحّح، و هو هنا- بقرينة قوله

لا ينجّسه شي ء

هو أنّه لا ينفعل؛ لما فيه الصفة المانعة عنه.

الروايات الظاهرة في المطهّرية و بيان وجه الخدشة فيها

و بعض روايات أُخر، تشهد على الأعمّية في جهة الدعوىٰ؛ و أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 136، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 2.

(2) دعائم الإسلام 1: 111.

(3) وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 2.

(4) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 38

المتكلّم لاحظ الجهات الكثيرة في دعواه أنّه

الطهور

مثل صحيحة ابن فرقد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول، قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسّع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض، و جعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون «1».

فإنّها بمقتضى اشتمالها علىٰ هذه التوسعة، كالنصّ في أنّ الماء عند اللّٰه موجب للوَسِعَة؛ من عدم قبوله النجاسة، و من مطهّريته لجميع الأحداث و الأخباث.

و لعمري، إنّ استفادة العموم من هذه الجملة، بمكان من الإمكان جدّاً. نعم، هذه الرواية لمكان اشتمالها علىٰ ما لا يساعده العقل، يشكل اعتبارها، علىٰ ما تقرّر في محلّه، و الالتزام بالتفكيك بين الفقرات أيضاً مشكل؛ لأنّ سند اعتبار الخبر الواحد بناءُ العقلاء، و هو

قاصر عن شمول هذه المواضع، فالرواية مشكلة جدّاً.

و هكذا ما عن «إرشاد القلوب» بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) «2»، فإنّها في الدلالة أقوى، و لكنّها في السند أضعف، و انجبار السند بالشهرة غير العمليّة، عندنا ممنوع.

______________________________

(1) الفقيه 1: 9/ 13، تهذيب الأحكام 1: 356/ 1064، وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 4.

(2) إرشاد القلوب 2: 200. مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 39

المبحث الثاني في الماء المضاف

اشارة

و فيه فصول

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 41

الفصل الأوّل حول التقسيم إلى المطلق و المضاف

قد مضى تعريف الماء المضاف، و قد عرفت أنّ المقصود منه ليس الذي يضاف إليه كلمة «الماء» ك «ماء البطّيخ» و «الرمّان» حتّى يقال: من المضاف ماء الحوض و الكيزان، بل و ماء الوجه، أو يقال: بأنّ ماء الورد من المضاف في العربيّ، و ليس منه في الفارسيّ و غيره .. و هكذا.

بل المقصود بيان أنّ الماء منه ما هو الخالص، و منه ما هو اختلط بشي ء كالتراب أو الموادّ الأُخر، كمادّة الرقّي و الورد و غيره.

و حيث إنّ تقسيم «المبسوط» الماء إلى المطلق و المضاف «1»، ليس من التقسيم المستوعب، مع لزوم كونه كذلك في العلوم، فالأولىٰ أن يقال:

المائع إمّا ما يطلق عليه لفظة «الماء» علىٰ نعت الحقيقة و سائر مرادفاته، أو ما لا يطلق عليه هذه اللّفظة، سواء أُطلق عليه مجازاً، أو

______________________________

(1) المبسوط 1: 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 42

لا يطلق عليه رأساً.

فالأوّل: طاهر و مطهّر من جميع الأحداث و الأخباث.

و الثاني: طاهر، و ليس كذلك.

الفصل الثاني عدم جعل النجاسة لا يستلزم جعل الطهارة
اشارة

لا شبهة و لا بحث في أنّ المائعات المضافة، طاهرة بذاتها، و لا نحتاج في هذه المسألة إلى الدليل، فالضرورة قاضية بأنّها ليست من الأعيان النجسة.

نعم، إذا كانت الطهارة منقسمة: إلى الطهارة العرفيّة، و الشرعيّة المجعولة، فكون غير الأعيان النجسة و الملاقيات معها طاهرة، يحتاج إلى الجعل، و إلّا فهي خارجة عنهما.

مثلًا: المستقذرات العرفيّة إذا لم يجعلها الشارع نجسةً، فهي ليست طاهرة؛ لعدم كونها طاهرةً عرفاً، و لا جعلها الشارع طاهرة في بدو طلوع الإسلام.

و ترتيبُ آثار الطهارة علىٰ شي ء، لا يستلزم الجعل؛ لأنّها الآثار الأعمّ، خصوصاً فيما كان القذر بطبعه، كالأبوال الطاهرة.

كما أنّ ترتيب آثار النجس لا يلازمه؛ لما ذكر، فإنّ النهي

عن الأكل و الشرب و التصرّف، لا يلازم النجاسة بالضرورة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 43

بل تجويز الأكل و الشرب للمياه المضافة و سائر الأشياء، ربّما يكون لعدم كونها نجسة، لا لأجل كونها طاهرة، فإثبات طهارة جميع الأشياء- و منها المياه المضافة ممّا لا حاجة إليه، بل المدار في الأحكام على النجاسة و عدمها.

نعم، الأشياء الطاهرة عرفاً القابلة لجعل النجاسة عليها، تكون طاهرة شرعاً؛ لإمضاء الشرع إيّاها، فتكون هي طاهرة شرعاً أيضاً، و لا منع من جمع الطهارة العرفيّة و الشرعيّة؛ لأنّ آثار الطهارة الشرعيّة لا تترتّب على العرفيّة.

بيان الملازمة بين نفي النجاسة و جعل الطهارة

و يمكن دعوى: أنّ سكوت الشرع، يورث انجعال الطهارة الشرعيّة؛ إذا كانت هي محتاجاً إليها، و أمّا إذا كان نفي النجاسة الشرعيّة، كافياً لإيفاء تمام الغرض، فلا يستكشف الطهارة الشرعيّة من المضيّ و عدم الردع، فلا تغفل.

فتحصّل: أنّ أحكام النجس كما تسلب بجعل الطهارة علىٰ شي ء، تكون هي مسلوبة بعدم جعل شي ء؛ لا الطهارة، و لا النجاسة، كما لا يخفىٰ.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ: الجهة المبحوث عنها هنا، الأعمّ من المياه المضافة، بل هي كسائر الجوامد الطاهرة غير المجعول لها النجاسة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 44

توهّم و دفع

و توهّم: أنّ هذا البيان ينعكس بالنسبة إلى النجاسة، فيقال: الطهارة مجعولة، و عند انتفائها يترتّب أحكام النجاسة، فاسد جدّاً؛ ضرورة أنّ الشريعة اعتبرت نجاسة الأشياء الكثيرة، كالكفّار و الكلاب و الخنازير و غيرها، و عدّها قذراً و نجساً، و هكذا ملاقي هذه الأُمور اعتبر نجساً؛ يترتّب آثار القذارات العرفيّة عليه، و لا يعهد هذا في سائر الأشياء، و لا دليل لفظيّ متعرّض لجعل الطهارة الواقعيّة لها.

قاعدة الطهارة لا تفي بجعل الطهارة الواقعيّة للأشياء

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ عموم قاعدة الطهارة، تقضي بمجعوليّتها لكلّ الأشياء، و لا تنافي بين شمولها للظاهريّة و الواقعيّة، و لكنّه ممنوع ثبوتاً.

و لو فرضنا إمكانه، فكون الجملة الواحدة ظاهرة فيهما معاً، غير تامّ، و لا ريب في ظهورها- بمناسبة الغاية في جعل الطهارة للمشكوك، و لا يلزم من جعلها على المشكوك، جعلُها على الواقع قبله، أو التزامه بها و ارتضاؤه كما لا يخفىٰ؛ ضرورة أنّ الشكّ في طهارة شي ء و نجاسته، لا يعقل مع كون جميع الأشياء طاهراً، و هكذا لو كان الجميع نجساً.

و أمّا لزوم كون طائفة منها طاهراً فهو ممنوع؛ لأنّه إذا لم يجعل الشرع طائفة منها نجساً، فإنّه يستلزم الشكّ في نجاسة شي ء و عدمها، فيجعل على المشكوك الطهارة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 45

الطهارة و النجاسة من الأوصاف العرفية بل الخارجية

هذا كلّه على القول: بأنّهما من المجعولات الشرعيّة، و حيث إنّ الحقّ أنّهما من الأوصاف العرفيّة، بل و الخارجيّة للأشياء، و لا تصرّف للشرع فيها إلّا سعةً و ضيقاً؛ بإلحاق بعض القذارات بالطيّبات و بالعكس، فلا يكون شي ء إلّا و هو طاهر أو قذر بحسب الواقع، و لا واسطة بينهما.

و يترتّب على القول بمجعوليّتهما، مفاسدُ كثيرة لا خير في التعرّض لها.

الفصل الثالث في عدم مطهّرية المضاف و سائر المائعات
اشاره

لا شبهة عندنا في عدم مطهّرية المياه المضافة و المائعات طرّاً للحدث، و قد خالف من مخالفينا الأصمّ و ابن أبي ليلىٰ، فقالا بجواز التوضّي بمطلق المائعات «1»، و لعلّهما لا يقولان به في الحدث الأكبر، فتصحّ دعوى اتفاق المسلمين علىٰ عدم مطهّريته للحدث الأكبر، و من أصحابنا الصدوق، فجوّز الوضوء بماء الورد «2».

______________________________

(1) الخلاف 1: 55، المجموع 1: 93/ السطر 2.

(2) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 46

و به قال أصحاب الحديث «1»، و هم بمنزلة الأخباريّين منّا، و عن الكاشانيّ الميل إليه «2».

و قال أبو حنيفة بجواز التوضّي بنبيذ التمر إذا كان مطبوخاً، عند عدم الماء، و هو قول أبي يوسف «3».

و قال محمّد: «يتوضّأ به و لا يتيمّم» «4».

و قال الأوزاعيّ: «يجوز التوضّي بسائر الأنبذة» «5».

فهؤلاء المخالفون، لم ينكروا حصر المطهّرية بالماء مع وجوده، نعم قالوا بالترتيب، كما قلنا به.

نعم، إنّا لا نقول بمطهّريتها مطلقاً، و هم يقولون بها حال الضرورة، و لعلّه هو قول ابن عقيل منّا أيضاً، فإنّه- علىٰ ما روي عنه قال: «فلا يجوز استعمال المضاف عند وجود غيره، و جاز في حال الضرورة عند عدم غيره» «6» انتهىٰ.

و الذي يظهر لنا: أنّ سائر المائعات ليست مطهّرة للأحداث؛ لا في

عَرْض الماء المطلق، و لا في عرض التراب، و لا بينهما.

______________________________

(1) لاحظ الخلاف 1: 55.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 47.

(3) الخلاف 1: 56، انظر المبسوط، السرخسي 1: 88/ السطر 12.

(4) الخلاف 1: 56، المبسوط، السرخسي 1: 88/ السطر 11، المجموع 1: 93/ السطر 15.

(5) الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93/ السطر 19، المبسوط، السرخسي: 89/ السطر 1.

(6) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 47

التمسّك بالاستصحاب لإثبات عدم المطهّرية

و قبل الخوض فيما يدلّ علىٰ مرامنا، نشير إلىٰ مقتضى الأصل في المسألة؛ و هو الاستصحاب الحاكم ببقاء الحدث و الخبث، أو الحاكم بعدم تحقّق الطهارة التي هي شرط الصلاة و غيرها؛ بناءً علىٰ أن يقال: بعدم الأثر للاستصحاب الأوّل.

و لك دعوى: أنّ الواجب ليس إلّا الوضوء و الغسل، و لا شي ء وراءهما حتّى يتمسّك بالاستصحاب؛ وجوديّاً كان، أو عدميّاً.

نعم، لو شكّ في صدق «الغسل» مع ماء الورد و غيره، فمقتضى الأصل هو الاحتياط و الإتيان بالمصداق المعلوم؛ لتماميّة الحجّة من قبله عليه، و لا يجوز الاكتفاء بالمشكوك، كما لا يخفىٰ.

و توهّم: أنّ مطهّرية المياه و المائعات عرفيّةٌ، خصوصاً بعضها بالنسبة إلىٰ القذارات العرفيّة و الأنجاس الشرعيّة، فلنا المطالبة بدليل يمنع من مطهّريتها، و إمضاءُ مطهّرية المياه المطلقة لا يورث ردعهم عن مطهّرية ماء الورد مثلًا قطعاً.

لا يقتضي إلّا مطهّريتها في الجملة، و هذا في الحقيقة دليل علىٰ خلاف الأصل المحرّر تأييداً لفتاوى الصدوق و غيره.

فبالجملة: قضيّة الأصل هو أنّ مطهّرية المياه و غيرها، تحتاج إلىٰ الدليل، و هي ثابتة في الماء المطلق و التراب، و في غيرهما لا بدّ من إقامة الأدلّة النافية و المثبتة، و مقتضى الأصل عند الشكّ عدمها، كما عرفت.

كتاب الطهارة

(للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 48

الفصل الرابع في الآيات المستدلّ بها علىٰ أنّ الماء المضاف و سائر المائعات، ليست من المطهّرات
اشارة

منها قوله تعالىٰ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1».

و قوله تعالىٰ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «2».

بتقريب: أنّهما في مقام الامتنان، علىٰ ما صُرّح به في الآية الأُولىٰ «3»، و قضيّة الامتنان ذلك.

و فيه ما لا يخفىٰ؛ لأنّ مقتضى الامتنان هو التوسعة، لا التضييق، و عدم ذكر سائر المائعات لأغراض أُخر.

و إن شئت قلت: إنّه منّ علينا في جعل المطهّرية، لا في جعلها في الماء؛ فإنّه امتنان على الماء لا علينا، فتدبّر.

الاستدلال بآية التيمّم علىٰ عدم مطهّرية المائعات و جوابه

و منها: قوله تعالىٰ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «4».

و كيفيّة الاستدلال به حتّى يتمّ جميع المدّعىٰ؛ هو أنّ الصدر يقضي

______________________________

(1) الفرقان (25): 48.

(2) الأنفال (8): 11.

(3) جامع المقاصد 1: 123.

(4) النساء (4): 43.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 49

بأنّ ما ليس بماء، لا دخالة له في انتقال الحكم من الطهارة المائيّة إلى الترابية، و كلمة «الفاء» تدلّ علىٰ أنّ التوضّي بسائر المائعات- في طول الماء المطلق غير جائز، و الهيئة في الذيل تقضي بالتعينيّة، فكون مائع في عَرْض التيمّم مطهِّراً، ممنوع بها أيضاً، فبها يثبت أنّ سائر المائعات ليس مطهِّراً؛ لا في عَرْض المياه، و لا في طولها، و لا في عرض التيمّم، و لا في طوله.

و إن شئت قلت: هذه الآية بصدد بيان وظيفة المكلّفين في هذه الواقعة، فجعلها الماء و التراب طهورين لا غيرهما، يشهد علىٰ أنّ الغير ليس مطهّراً، و إلّا لكان عليه البيان التامّ بحدودها.

و أنت خبير بما فيه؛ ضرورة أنّ النكرة في سياق النفي، ليست من أداة العموم، فلعلّ الآية ناظرة في مقام آخر، كما هو الظاهر، فتكون دالّة علىٰ أنّ من كان علىٰ سفر و كذا و كذا،

فلم يجد الماء- أي ما يطهِّره فعليه التراب، فذكر الماء لأنّه من مصاديق المطهِّر عنده و من أوضح المصاديق، فلا شهادة لها علىٰ أنّ الماء المضاف ليس مطهِّراً.

و الإنصاف: أنّها في مقام قيود انتقال الحكم من المائيّة إلى الترابيّة، لا في مقام بيان ذات القيود و حدودها.

نعم، ظاهر كلمة «الفاء» نفي الواسطة بين الماء و التراب، فدعوى أنّه إن لم يجد الماء فليتوضّأ بالمضاف، و إذا لم يجد المضاف فليتيمّم «1»، مسموعة جدّاً؛ لاقتضاء «الفاء» و لذلك لو ورد جواز التوضّي بماء الورد، فإنّه لا يرى التعارض بينه و بين الآية الشريفة، بخلاف الفرض الثاني،

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 22.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 50

فإنّه يعارضها قطعاً.

و أمّا نفي كونها مطهّراً في عَرْض التيمّم بها، ففي غاية السقوط؛ ضرورة أنّ الهيئة فيها لا تدعو إلّا إلى المادّة، و كونُها واجباً تعيينيّاً غيريّاً ليس من دلالتهما، بل ذلك لاقتضاء الأصل العقلائيّ، و لو دلّت علىٰ نفي مطهّريتها لكانت هي معارضة مع ما يدلّ علىٰ مطهّرية ماء الورد فرضاً مع أنّه لا يعدّ معارضاً و لو بدواً، فما اشتهر بينهم من دلالتها على المدّعىٰ «1»، غير قابل للتصديق.

و العجب من الفقهاء رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم؛ من تمسّكهم بالكتاب من غير المراجعة إليه!! فنسبوا إليه تعالىٰ ما ليس فيه؛ و هو «و إن لم تجدوا» «2» فإنّ الآية في المسألة ما ذكرناها.

الفصل الخامس في المآثير المستدلّ بها علىٰ عموم المدّعىٰ
اشارة

و هي علىٰ طائفتين:

الطائفة الأُولىٰ: ما تضمّن جملةً تدلّ علىٰ حصر المطهّر في الماء و التراب
اشارة

، مثل رواية أبي بصير المرويّة في «التهذيب» عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): عن الرجل يكون معه اللّبن، أ يتوضّأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 5، مدارك الأحكام 1: 110، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 29.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 51

قال

لا، إنّما هو الماء و الصعيد «1»

و في بعض نسخ «الوسائل»

أو الصعيد.

و يشكل الاعتماد عليها؛ لما في سندها من محمّد بن عيسىٰ، مع أنّ تمييز أبي بصير هنا مشكل، و إن لا يبعد كونه مردّداً بين المراديّ و الأسديّ، و هما ثقتان.

و روايةِ عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض الصادقين قال

إذا كان الرجل لا يقدر على الماء، و هو يقدر على اللّبن، فلا يتوضّأ باللّبن؛ إنّما هو الماء أو التيمّم ..

الحديث «2».

و في اعتبارها من حيث إرسالها إشكال، و دعوىٰ أنّ الصادقَين هما الصادق و الكاظم (عليهما السّلام) «3» غير تامّة؛ لأنّه من المتأخّرين عنهما، و الاحتمال كافٍ لإرسالها، أو لكونها في حكم الإرسال.

و توهّم: أنّ ظاهر المتن يورث أنّ القائل هو الإمام (عليه السّلام)، ممّا لا يمكن الركون إليه.

نعم، بناءً علىٰ ما هو المعروف في أصحاب الإجماع، تكون الرواية معتبرة؛ لأنّ المرسِل منهم، و لكن في صحّة البناء إشكال، فالروايتان- من حيث السند غير تامّتين.

و دعوىٰ انجبار السندين بالشهرة القطعيّة، بل و الإجماعات

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 51

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 188/ 540، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة،

أبواب الماء المضاف، الباب 1، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

(3) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأوّل: 27.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 52

الكثيرة، غير مسموعة؛ لأنّ الشهرة الجابرة هي الشهرة العمليّة، و هي هنا غير ممكن تحصيلها، و مجرّد التطابق في الفتوىٰ و إن كان يكفي في بعض المسائل، و لكنّه هنا غير كافٍ؛ لاحتمال تلقّيهم هذه المسألة من المسلّمات التي لا حاجة فيها إلى الرواية و الآية؛ فإنّ عموم الابتلاء بالماء يوجب وضوح المسألة و أحكامها، خصوصاً مثل هذا الحكم، فلا جابر لمثلهما. هذا كله حال سندهما.

وجه دلالة الروايتين علىٰ نفي المطهّرية

و أمّا دلالتها، فالمشهور أنّها نافية لمطهِّرية سائر المياه المضافة و المائعات؛ لإفادتها الحصر بكلمة

إنّما.

و الذي ظهر لي في محلّه: أنّ كلمة

إنّما

لا تورث إلّا تأكيد الحكم في المدخول «1»، مثل قوله تعالىٰ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «2» فإنّه لا يرىٰ عند العرف تعارضها مع تنجّس المرتد مثلًا، و مثل قوله تعالىٰ إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ «3» .. و هكذا، فما أفادوه: «من إفادتها الحصر» في محلّ منع جدّاً.

و إرجاع كلمة «إنّما» إلىٰ «إن» النافية و الاستثناء، ليس من دأب المحصّلين و المحقّقين، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 185.

(2) التوبة (9): 28.

(3) التغابن (64): 15.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 53

دلالة الروايتين علىٰ نفي مطهّرية اللّبن

نعم، بعد النظر إلىٰ صدر الرواية؛ و أنّ السائل توهّم جواز التوضّي باللّبن، يعلم أنّ كلمة

إنّما

جي ء بها لرفع هذا الوهم؛ و إثباتِ مطهّرية الماء و التراب، من غير النظر إلى الحصر الكلّي، فهو دليل نفي مطهّرية اللّبن فقط.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقصود السائل هو الأعمّ، و ذكر «اللّبن» من باب المثال، و لكنّه مشكل إثباته فتدبّر.

وجوه أُخر للدلالة على عدم مطهّرية المائعات

و لك دعوى استفادة العموم من الإتيان بالمطهّر الترابيّ في عَرْض المطهّر المائيّ، فإنّه لو كان شي ء آخر مطهّراً، لكان أن يذكر هو، لا ما هو في طول الماء.

و يمكن الاستدلال على المقصود بها بتقريب: أنّ التقسيم قاطع للشركة، فإنّ كلمة

أو

توجب أنّ ما يتوضّأ به بين الماء و التراب، و لا شريك لهما، و لذلك لو ورد الشريك لهما يعدّ عند العرف معارضاً، فليتدبّر جيّداً.

أو دعوى: أنّ كلمة

إنّما

هنا للتعليل، و ظاهرها انحصار العلّية في الماء و التراب «1».

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 54

و فيه: أنّ التعليل بالأمر المتعبّد به قبيح، و قد تقرّر لزوم كون العلّة من المرتكزات العرفيّة أو المدركات العقليّة، و إلّا فلا يحسن في الكلام.

و الاستدلال «1» بما في «الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السّلام)» من قوله بعد ذكر المياه المضافة

و كلّ ذلك لا يجوز استعمالها، إلّا الماء القُراح، أو التراب «2»

غير تامّ؛ لما حرّرنا في تعاليقنا على الفائدة الثانية من خاتمة «المستدرك» من عدم تماميّة وجوه حجّيته، فلاحظ «3».

الطائفة الثانية: من المآثير المستدلّ بها علىٰ عموم عدم المطهّرية

ما استدلّ به الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللّٰه) «4»، و هي روايات فاقد الماء الآمرة بالتيمّم، مثل معتبرة زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) «5»، و صحيحة الحلبيّ «6» و داود الرِّقّي «7» و غيرهما «8»، فإنّ الظاهر هنا- بترك الاستفصال عن حال الرجل المسافر- عدم مطهّرية شي ء آخر؛ و أنّه يدور مدار الماء، و عند فقده

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 398.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 92.

(3) تعليقات المؤلّف (قدّس سرّه) على المستدرك (مفقودة).

(4) مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 9.

(5) الكافي 3: 63/ 2، وسائل الشيعة 3: 341، كتاب

الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 1، الحديث 1.

(6) الفقيه 1: 57/ 213، وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 1.

(7) الكافي 3: 64/ 6، وسائل الشيعة 3: 342، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 1.

(8) وسائل الشيعة 3: 343، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 55

التراب، و لا ثالث وراءهما.

و يشكل أوّلًا: بأنّ مفروض الكلام هو المسافر، و المتعارف في حقّه، فقدانُه المياه المضافة و لو كانت عنده بعض المائعات فرضاً؛ ممّا يحتاج إليه في السفر، فلعلّ سكوته (عليه السّلام) عن التعرّض لذلك؛ لعدم وجوده في مفروض المسألة.

و ثانياً: لا يثبت بها تمام المدّعىٰ؛ و هو نفي المطهّرية عنها في جميع المراحل حتّى في عَرْض التراب، كما لا يخفىٰ.

و دَفعُ الإشكال الأوّل: بأنّ السائل مثلُ زرارة و الحلبيّ و الرِّقّي، الذين هم كانوا يفرضون المسائل، و يطلبون الجواب من المعصوم (عليه السّلام)، فعليه لا بدّ من الجواب المشتمل علىٰ جميع الجهات في المقام، لا يوجب اندفاع الشبهة الثانية.

فتحصّل: أنّ الاستدلال بالكتاب و السنّة، لا يورث إلّا بعض المقصود، و لا دليل لفظيّ علىٰ عموم المطلوب، كما هو المرام في المقام.

الفصل السادس فيما يستدلّ به علىٰ أنّ المياه المضافة مطهِّرة من الحدث

و هو إطلاق مادّة «الاغتسال» القابلة للصدق على الطهارة الحاصلة بالمضافات.

نعم، لا يتحقّق الغُسل بمطلق المائعات، حتّى يلزم التعارض بين ما

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 56

يدلّ علىٰ مطهّريته، و ما يدلّ علىٰ عدم مطهّريته.

و بعبارة اخرىٰ: لو سلّمنا دلالة الآية و الرواية علىٰ نفي مطهّرية سائر المائعات، و لكنّها قابلة للتخصيص و التقييد، فلو صحّ الغُسل بماء مضاف و مائع- كالأعراق المتّخذة من النباتات فإطلاق أدلّتها يخصّص و يقيّد بالآيتين

الآمرتين بالاغتسال و الغُسل.

فقوله تعالىٰ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «1» و قوله تعالىٰ فَاغْسِلُوا «2» مقدّم علىٰ تلك الأدلّة و إن كانت النسبة عموماً من وجه؛ و ذلك لأنّ من موجبات تقدّم أحد العامّين من وجه على الآخر، هو أن يكون الدليلان في مورد التصادق، مختلفي الظهور، فيكون أحدهما أظهر من الآخر، و فيما نحن فيه الأمر كذلك كما لا يخفىٰ.

و دعوىٰ: أنّ ذيل الآيتين يشهد علىٰ أنّ المقصود من «الغُسل» ما هو الحاصل بالماء «3»، غير مسموعة؛ لاحتمال كون الصدر- و هو إطلاق المادّة قرينةً علىٰ أنّ الماء المذكور في الذيل من باب أحد مصاديق المطهّر، بل هو كذلك، فتدبّر.

و إن شئت قلت: فيما لو دار الأمر بين كون الصدر قرينة على الذيل و بالعكس، يتعيّن الأوّل، خصوصاً فيما نحن فيه، و ما اشتهر من التمسّك بالانصراف في هذه المواقف، لا يرجع إلى المحصّل، فعليه يتعيّن تجويز

______________________________

(1) النساء (4): 43.

(2) المائدة (5): 6.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 34.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 57

كون جميع المياه المضافة التي يحصل بها الغسل لغة و عرفاً، مطهّرة للحدث، بل و للخبث علىٰ ما يأتي تفصيل البحث فيه.

و ما يظهر من بعض كتب اللّغة؛ من تقييد الغسل بالماء «1»؛ حتّى يكون الموضوع له أخصّ، غير قابل للتصديق؛ لقيام التبادر علىٰ خلافه.

الوجه في عدم مطهّرية المضاف من الحدث

و الإنصاف: أنّه بعد اللتيّا و التي، أنّ قضيّة الصناعة عدم مطهّرية غير الماء؛ لأنّ النسبة بين الدليلين عموم من وجه، و لا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر، و ما أشرنا إليه غير تامّ هنا، بل ما تعرّض لعدم مطهّرية غير الماء بلسانه، مقدّم علىٰ ما تعرّض للأمر بالاغتسال؛ لأنّه تعرّض لحدود موضوع

الآخر.

نعم لو قلنا: بعدم الدليل علىٰ نفي المطهّرية عن غير الماء، فالعمل بإطلاق المادّة جائز، و لكن الضرورة و بداهة الحكم عند المشهور مخالفه.

و يمكن دعوى: أنّ الأوامر المتعلقة بالغسل و إن كانت أعمّ، و لكن في طائفة من الروايات ورد التقييد بالماء «2»، و هذا دليل علىٰ أخصّية الموضوع في تلك المطلقات؛ لأنّ الإتيان بالقيد الغالب في مثل المقام،

______________________________

(1) المفردات في غريب القرآن: 360، أقرب الموارد 2: 872.

(2) وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3 و ما بعده.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 58

شاهد علىٰ قيديّته، فتأمّل جيّداً.

و إذا ثبت الحكم في الجملة، فيسري إلىٰ سائر المواقف؛ للزوم خرق الإجماع المركّب، فلاحظ و تدبّر.

الفصل السابع في عدم مطهّرية المضاف عند الضرورة

اشارة

قال الحسن بن عليّ بن أبي عقيل المعروف ب «الحذّاء» و «النعمانيّ»: «ما سقط في الماء ممّا ليس بنجس و لا محرّم، فغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، حتّى أُضيف إليه مثل «ماء الورد» و «ماء الزَّعْفَران» و «ماء الخَلوق» و «ماء الحِمِّص» و «ماء العُصْفُر» فلا يجوز استعماله عند وجود غيره، و جاز في حال الضرورة عند عدم غيره» «1» انتهىٰ.

و ظاهر كلامه: أنّ مطلق المضاف مطهّر من الحدث و الخبث عند فقد الماء المطلق، و لا يظهر منه أنّه يقول: بتعيّن الطهارة المضافيّة بعد المائيّة، أو يقول: بالتخيير بينها و بين الترابيّة.

و الظاهر أنّه أراد من قوله

محرَّم

اختلاطَ الماء بالمغصوب و نحوه؛ ممّا يورث الإشكال في صحّة الغسل و الوضوء.

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 59

الاستدلال على المطهّريّة عند الضرورة و جوابه

و يشهد له مضافاً إلىٰ قاعدة الميسور، ما رواه عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض الصادقين (عليهما السّلام) قال: إذا كان الرجل لا يقدر على الماء، و هو يقدر على اللّبن، فلا يتوضّأ باللّبن؛ إنّما هو الماء أو التيمّم، فإن لم يقدر على الماء و كان نبيذ، فإنّي سمعت حَرِيزاً يذكر في حديث: أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قد توضّأ بنبيذ، و لم يقدر على الماء «1».

و تقريب الاستدلال واضح، و لكنّ الحديث- من جهة الإرسال، و لأجل جهة الصدور، و لإعراض المشهور، و لعدم متانة المتن مخدوش جدّاً؛ فإنّ لفظة «الصادقين» ليست ظاهرة في الأئمّة أو واحد من الاثنين منهم، فهي في حكم المرسلة.

و لعلّ عبد اللّٰه بن المغيرة لغرض انتقالنا إلى الخدشة في الحكم، أتى بهذه الجملة، و إلّا فإنّ المتعارف في هذه

الاستعمالات مواقف التقيّة، و الحكم موافق لمذهب أبي حنيفة «2» الذي هو أشهرهم، و كانت فتواه في عصر الرواية مشهورة، حسب التأريخ و العصر فتدبّر.

و ما نسب إليه؛ من أنّه كان رجع من فتواه إلى المنع عن التوضّي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

(2) المغني، ابن قدامة 1: 9/ السطر 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 60

به «1»، و هو مختار سائر الفقهاء «2»، و إن فرضنا صحّته، و لكنّه لا يورث الإشكال في حملها على التقيّة؛ لأنّ فتواه الاولىٰ كانت شاهرةً، مع أنّ في النسبة تأمّلًا.

بل نفس هذه الرواية، و خصوص ما ثبت عندهم من رواية ابن مسعود عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «3»، يدلّان علىٰ ذهابه إلى الجواز، و سائر الفقهاء- لأجل الشبهة الموضوعيّة منعوا عن التوضّي به، كما هو الوارد في رواياتنا، فقد روىٰ سَماعة بن مِهْران، عن الكلبيّ النسّابة، روايةً مفصّلة مشتملة علىٰ قصّة النبيذ الذي توضّأ به النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)؛ و أنّه كان من الماء المطلق «4»، فتكون رواية عبد اللّٰه بن المغيرة، ناظرة إلىٰ ذلك؛ و هو الوضوء بالنبيذ الكذائيّ عند عدم وجدانه الماء الصافي و الخالص.

هذا مع أنّ ذيل الحديث من عبد اللّٰه علىٰ احتمال قويّ، أو من الإمام (عليه السّلام) فرضاً، إلّا أنّه أومأ إلىٰ ما فيه بقوله (عليه السّلام): «في حديث» مع أنّ حَريزاً لا يحكي الحديث إلّا سماعاً من سائر الناس، فالاتكال علىٰ مثله- بعد إعراض المشهور عنه غير جائز قطعاً.

و توهّم: أنّ الحمل على التقيّة يختصّ بمورد التعارض، و ما

نحن فيه ليس كذلك؛ لإمكان الجمع العقلائيّ بالتقييد، كتوهّم أنّ الشهرة من

______________________________

(1) المجموع 1: 93/ السطر 17.

(2) المغني، ابن قدامة 1: 9/ السطر 9.

(3) سنن ابن ماجة 1: 135.

(4) الكافي 1: 348/ 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 61

المرجّحات في مقام التكاذب، و التفصيل يطلب من «تحريراتنا في الأُصول» «1» و حديث التمسّك بالقاعدة المشار إليها «2»، لا يرجع إلىٰ محصّل، كما لا يخفى.

و ما رواه الصدوق «3» علىٰ فرض كونه رواية، شاهد علىٰ أنّ النبيذ الذي توضّأ به النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، لم يخرج من كونه ماءً، فعليه يجوز ذلك عندنا، و لا يختصّ الحكم بالماء المطروح فيه التمرات.

ثمّ إنّه لو سلّمنا السند و الدلالة، فلنا دعوى أنّه من الأحكام المختصّة بالنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و لا دليل علىٰ حصرها، علىٰ ما تقرّر في محلّه «4» فتأمّل.

الفصل الثامن في عدم مطهّرية ماء الورد من الحدث

اشارة

قال الصدوق في «الأمالي» و «الفقيه» و «الهداية»: «يجوز الوضوء بماء الورد و غسل الجنابة» «5».

و نسب إلىٰ الكاشاني الميل إليه «6»، بل حكي عنه الفتوىٰ

______________________________

(1) ممّا يؤسف له عدم إنهاء الكتاب إلى مباحث التعادل و الترجيح.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 54/ السطر 22.

(3) الفقيه 1: 11 بعض الحديث 20.

(4) لاحظ جواهر الكلام 29: 129.

(5) الأمالي: 514، الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

(6) الحدائق الناضرة 1: 397.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 62

به «1»، و هو محلّ منع؛ لصراحة كلامه في «المفاتيح» و «الوافي» «2» في أنّه شُبهةٌ في إضافته؛ و لدعوىٰ أنّه من المطلق جوّز التوضّي

به، و عليه يمكن حمل كلام الصدوق، بل و حمل كلام أصحاب الحديث القائلين بجوازه، بل و حمل الرواية الآتية، و لكنه ليس بمهمّ في البحث.

التمسّك بخبر يونس علىٰ مطهّرية ماء الورد من الحدث

و الذي هو المهمّ: هو أنّه هل يجوز التوضّي بماء الورد و لو كان مضافاً أم لا؟

فمقتضىٰ ما عرفت منّا هو الثاني، و قضيّة رواية يونس، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة. قال

لا بأس بذلك

و إطلاقِها هو الأوّل.

و لا يخفىٰ: أنّ كونها مستند «الفقيه» محلّ منع؛ لأنّ ظاهره تجويز غُسل الجنابة به، دون الأغسال الأُخر، بل من المحتمل قويّاً أنّ قوله: «يغتسل» هو الغَسل من النجاسة، لا الحدث، و إلّا كان ينبغي أن يأتي بكلمة «أو» و عليه تكون الرواية من الأدلّة علىٰ جواز رفع الخبث بماء الورد، و بعد إلغاء الخصوصيّة و حمله علىٰ المثال، يظهر الحكم في سائر المياه المضافة، و نشير إليها في المبحث الآتي.

ثمّ إنّ مقتضىٰ إطلاق الرواية، جواز التوضّي بكلّ ما يعدّ ماء الورد،

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 31.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 47، الوافي 6: 325.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 63

سواء كان من الماء المطلق أو ماءً مشكوكاً إطلاقه، أو مضافاً، فالرواية علىٰ خلاف القاعدة في الفرضين الأخيرين، فتأمّل جدّاً.

و قد يظهر من بعضٍ اختيار الصدوق الأوّل ذلك أيضاً، و لكنّه غيرَ موجود في الكتب المعدّة لنقل فتوى الأعلام.

بيان وجوه الخدشة في خبر يونس

فبالجملة: هذه الرواية من حيث السند مخدوشة؛ لما فيه أشخاص، مثل عليّ بن محمّد المشترك بين الثقة و الضعيف، و سهل بن زياد غير معتبر عندي، و قد ضعّفه النجاشيّ و غيره «1»، و محمّد بن عيسىٰ عن يونس الذي قيل في حقه: «إنّه غير معتمد في رواياته عنه» «2» و هذا أيضاً شاهد علىٰ أنّ مستند فتوى الصدوق، ليس هذه الرواية.

و فيها من جهة

الصدور أيضاً إشكال؛ لما مضى الإيماء إليه.

و لعلّ ماء الورد الجائز التوضّي به، من المطلق في عصر صدور الرواية؛ لعدم المياه الغليظة، بل غاية ما كان عندهم الماء الملقى فيه بعض الورد، كالماء الملقى فيه التمرة و التمرات، فإطلاقها غير معلوم؛ لأنّ من المحتمل- قويّاً أن يكون ترك الاستفصال؛ للاتكاء على التعارف، و لا أقلّ من الشك؛ ضرورة أنّ الإطلاق الجائي من قبل ترك الاستفصال، لا يثبت إلّا بعد إحراز ما ذكر، فتدبّر.

______________________________

(1) رجال النجاشي: 185/ 490، الفهرست، الشيخ الطوسي: 80.

(2) لاحظ رجال النجاشي: 333/ 896.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 64

فالرواية من الجهات الثلاث، غير نقيّة، بل إعراض المشهور عنها و عدم كونها مستند الصدوق ظاهراً، يضربها على الجدار.

هذا مضافاً إلىٰ معارضته مع «الفقه الرضويّ» النافي بالصراحة جوازَ التطهّر بماء الورد «1».

و توهّم: أنّ النسبة بين الرواية و مفهوم الحصر المستفاد من الكتاب، عموم من وجه «2»، ناشئ عن الغفلة؛ فإنّ النسبة عموم مطلق.

نعم لو قلنا: بأنّ الرواية ناظرة إلىٰ إثبات مطهّرية ماء الورد للحدث و الخبث، تكون النسبة عموماً من وجه.

و لك دعوى: أنّ الحصر لا يستفاد من الكريمة قطعاً، كما أشرنا إليه، و غاية ما في الباب استفادته من الرواية، و هي تفيد انحصار المطهّرية للحدث و الخبث بالماء، فتكون النسبة بين الرواية و مفهوم الحصر، عموماً مطلقاً أيضاً.

الفصل التاسع في عدم مطهّرية المضاف من الخبث

اشارة

المشهور عدم مطهّريته للخبث أيضاً، و ما ترى في «الروض» من دعوى الإجماع «3»، و هكذا في «الجواهر» و غيره «4»، من قلّة التدبّر في

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 92.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 34.

(3) روض الجنان: 133/ السطر الأخير.

(4) جواهر الكلام 1: 315، مجمع الفائدة

و البرهان 1: 249.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 65

كلمات القوم، علىٰ ما سيأتي بعض الكلام فيها.

تحديد الجهة المبحوث عنها في المقام

و قبل الخوض في المسألة، لا بدّ من الإشارة إلى الجهة المبحوث عنها؛ و هو أنّ الشي ء إذا تنجّس، فهل يطهر بمطلق الاصطكاك و لو بالجامدات، أو لا يطهر إلّا بالمائع، أو المضاف، أو الماء المطلق؟

و أمّا البحث حول أنّ الشي ء لا ينجس أصلًا، بل اللّازم الاجتناب عن النجس بوجوده أينما كان، سواء كان قائماً بنفسه، أو قائماً بالغير عرفاً، فهو خارج عن هذا المقام، و سيأتي البحث عنه في مباحث النجاسات «1».

و المخالف في تلك المسألة هو الفيض، حيث توهّم أنّ أجزاء النجس كأجزاء ما لا يؤكل «2»، فكما هي مانعة عن الصلاة، و إذا زالت تصحّ الصلاة مع الثوب، كذلك تلك الأجزاء النجسة، و لا يعقل حمل المتنجّس علىٰ شي ء إلّا مع وجود المنجِّس، و الوساطةُ في الثبوت ممّا لا دليل عليها، بل الظاهر من الأدلّة هي الوساطة في العُروض، فإذا زالت أجزاء النجس فقد طهر الشي ء، و عليه يلزم سقوط الاستصحاب و الأصل المحرّر سابقاً؛ لأنّه لا يقين بتنجّس الشي ء، حتّى يشكّ في زوالها بالمضاف و غيره.

فبالجملة: لا ينبغي الخلط بين المسألتين، و تلك المسألة تعْرض لموضوع هذه المسألة؛ و هي أنّه إذا تنجّس الشي ء بالسراية، فهل يحتاج

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 283 و ما بعدها.

(2) مفاتيح الشرائع 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 66

في تطهيره إلىٰ مزيل خاصّ، أو إلىٰ عنوان «الغسل» أم لا؟

و لا يخفىٰ: أنّه لا ملازمة بين كون الشي ء متنجّساً، و كون المزيل أمراً مخصوصاً، بل يمكن الجمع بين اختيار تنجّس الشي ء، و إمكانِ تطهيره بكلّ

شي ء.

نعم، في مثل ما لو زالت الأجزاء النجسة بالهواء و الشمس، فإنّه لا يطهّر المتنجّس، بل لا بدّ من القول باعتبار الاصطكاك الخارجيّ و المسّ و لو بالثوب.

و أمّا القول بتنجّس الشي ء، و القول بإمكان تطهيره بكلّ شي ء و لو بتلك الأُمور المشار إليها- بل و لو بانعدام تلك الأجزاء فهو يرجع إلىٰ إنكار التنجّس المقصود في تلك المسألة، كما لا يخفىٰ.

القول بمطهّرية المضاف ليس شاذاً، و لا مهجوراً

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ المسألة ذات قولين معروفين، و ليس السيّد المرتضىٰ و شيخه المفيد، وحيدين في مرامهما؛ و ذلك لدعوى السيّد الإجماع في «الناصريّات» «1» و لقول الشيخ في «الخلاف»: «و هو مذهب أكثر علمائنا» «2» و مثله كلام السيّد في «الغنية» «3» و العلّامة في «التذكرة» «4».

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(2) الخلاف 1: 59.

(3) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 490/ السطر 26.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 67

و لقول «المختلف»: «و هو المشهور» «1» و لنصّ «السرائر» في نسبته إلى السيّد و جماعة من أصحابنا «2».

و لقول المفيد، حيث نقل المحقّق عنه نسبته إلى المذهب «3»، بل و مثله السيّد في غير «الناصريّات».

و لما تحرّر منّا في محلّه: أنّ كثيراً من الأعاظم السابقين أصحاب الكتب و الفتوىٰ، مهملين في كتب التراجم و الفهارس، بل في عصرنا- مع هذه السعة و الوسائل للاطلاع يسقط تراجم كثير من الأعلام، و لذلك استشكلنا في حجّية الشهرة صغرويّاً «4».

فالنسبة إلىٰ الشهرة و الإجماع، و دعوى الشذوذ؛ و أنّ القول بمطهّرية المضاف مهجور، خالٍ من التحقيق.

نعم، هو المهجور بما لا يوجب إشكالًا في المسألة؛ فإنّ ذهاب المتأخّرين إلىٰ أمر، لا يورث لنا شيئاً.

فتوهّم: أنّ كلام «السرائر» و

غيره خالٍ من التحقيق، نشأ من عدم الاطلاع علىٰ أوضاع السابقين و أحوالهم، أ فما سمعت أنّ الشيخ منتجب الدين جمع في «فهرسته» جماعة من العلماء أصحاب التصانيف، مع أنّه سقط- حسبما أقرّ به السيّد الأُستاذ البروجرديّ من قلمه جماعة،

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

(2) السرائر 1: 59.

(3) المعتبر 1: 82.

(4) تحريرات في الأُصول 6: 403.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 68

و أنهاهم إلىٰ قريب من سبعين «1»؟! فمنه يعلم أنّ الأمر ليس كما زعمه القوم في هذه المسألة، فتدبّر.

فعليه تكون المسألة روائيّة محضة، فإن دلّت الروايات علىٰ مذهبهما فهو، أو علىٰ مذهب ثالث فهو المأخوذ، و لا حجّة في قبالها من تلك المنقولات و المحصّلات المنقولة، فالبحث في المقام يتمّ في ضمن أُمور:

الأوّل: في اشتراط التطهير بالغسل بالماء
اشارة

هل يعتبر التطهير بالمائع، أو يكفي التراب مثلًا، أو غيره؛ بأنّ يكون اللّازم الاصطكاك بشي ء و لو كان جامداً؟

فيه وجهان، و الذي لا ريب فيه- حسب الأقوال و الروايات هو الأوّل.

و ربّما يخطر بالبال توهّم؛ رجوع الثاني إلىٰ إنكار تنجّس الشي ء، و لكنّك أحطت بما فيه؛ فإنّه- علىٰ هذا القول يجب الاصطكاك و إن لم يكن مزيلًا لشي ء لزوال جميع الأجزاء النجسة، بخلاف القول بعدم تنجّس الشي ء، كما هو الظاهر.

وجه عدم اشتراط الغسل و جوابه

و الوجه المعتمد عليه هنا، هو أنّ المقصود من الشرع ليس إلّا تنظيف الشي ء عرفاً، و هي تحصل بالجامد أيضاً، فلو تلوّثت الظروف، فكما

______________________________

(1) لاحظ مقدّمة جامع الرواة الصفحة «ج».

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 69

تنظف بالماء و (الألكل) و غيرهما ممّا يشابههما، كذلك تنظف بالثياب، كما هو المتعارف اليوم في الأسواق، و كما يكون استعمال الماء في مورد القطع بزوال الأجزاء القذرة، أمراً تعبّدياً، كذلك استعمال الثوب، فالماء في الرواية مذكور لغلبة الاستعمال، و هكذا الغسل؛ للمتعارف، و الذي هو المقصود هو التطهير و التنظيف المأمور به في الكتاب وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ «1».

و توهّم: أنّ التطهير مخصوص من حيث اللّغة بالغسل، فاسد جدّاً؛ ضرورة استعمالها في الأعمّ، فيتعيّن عليه هذا القول الثالث في المسألة.

و لكن الالتزام به- بعد إجمال الآية الشريفة، علىٰ ما يأتي بعض البحث حولها، و عدمِ معروفيّة الحكم بين الملّة الإسلاميّة، مع كثرة الابتلاء به غير ممكن جدّاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّها ليست مجملة؛ ضرورة أنّ حذف المتعلّق دليل العموم، و ما ورد من: «أنّ المقصود من التطهير التقصير» «2» أو «أنّ المقصود منه رفع الثياب و تشميرها» «3» لا بدّ و أن يرجع إلىٰ معنى التطهير،

______________________________

(1) المدّثّر

(74): 4.

(2) كنت عند أبي جعفر (عليه السّلام) إذ دخل عليه أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال أبو جعفر (عليه السّلام): يا بنيّ أ لا تطهّر قميصك؟ فذهب فظننّا أنّ ثوبه قد أصابه شي ء فرجع فقال: إنّه هكذا فقلنا: جعلنا اللّٰه فداك ما لقميصه؟ قال: كان قميصه طويلًا و أمرته أن يقصِّر إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ».

الكافي 6: 457/ 10.

(3) عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قوله تعالىٰ «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ» قال: فشمّر.

الكافي 6: 455/ 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 70

و يكون من مصاديقه علىٰ ما تقرّر منّا في كيفيّة تفسير الأخبار من الآيات، خصوصاً بعد عدم ورود التطهير بالمعنى المفسّر به لغةً.

المختار في معنى قوله تعالىٰ وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ

و الذي يظهر لي: أنّ الثياب المنجرّة على الأرض، كانت موجبة لنقل النجاسات و الكثافات، و تنجِّسه بالقاذورات، و كانت موجبة للتفخيم و التكبّر و المفاخرة و الطمطراق فأُمروا بالتطهير؛ للزوم تقصيرها عادة، فتقصيرها به لأجل تنجّسه بعدم التشمير، و ما ورد في الروايتين يرجع إلىٰ معنى واحد أيضاً، فبذلك يحصل الطهارة، و يلزم عدم تنجّسه الذي هو أيضاً من الطهارة، و لو لم يكن الأمر كما ذكر يلزم الاستعمال الغلط، إلّا بالالتزام بأنّ من معاني «التطهير» التقصير، و هو بلا حجّة.

و ربّما يخطر بالبال: أنّ المراد من الآية تطهير النفس من الأدناس و الأنجاس و الأرجاس، و هي كناية معروفة بين العرف و العرب، و يعرب عنه كتب اللّغة فراجع «1»، و قولُه (عليه السّلام)

فسدلت دونها ثوباً

«2» ف «الثوب» و «الثياب» من الكنايات، كما في الفارسيّة، و عليه تسقط الآية عن صحّة الاستدلال بها بعد هذا الاحتمال القويّ جدّاً.

و توهّم التنافي بين مفاد

الروايات الواردة في ذيلها و هذا المعنى الكنائيّ، ممنوع، بل ظاهر بعضها يدلّ علىٰ ما أُشير إليه، فراجع.

______________________________

(1) المفردات في غريب القرآن: 308، أقرب الموارد 1: 719.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 71

فتحصّل: أنّ هذه الآية أجنبيّة عن المسألة «1»، و هكذا عن مختار السيّد و المفيد في المسألة الآتية.

لزوم تقييد الآية بالغسل بالماء علىٰ فرض إطلاقها

و لو سلّمنا إطلاقها و دلالتها علىٰ هذه المسألة، فمقتضىٰ ما تحرّر في محلّه في المثبتات، حملُ المقيّد أيضاً إذا كان القيد في المقيّد ظاهراً في المفهوم، و كان الحكم و المطلوب واحداً «2»، فعليه يحمل إطلاق الآية على المقيّدات، و سيأتي بعض البحث فيه «3».

و لو سلّمنا صحّة حمل المقيّدات على المتعارف؛ و أنّ القيد فيها من القيود غير الاحترازيّة، نظير آية الربيبة «4»، فالالتزام بهذا الحكم مشكل؛ لما سمعت منّا أنّ هذه الأحكام الكثير ابتلاء الناس بها، لا يحتاج ثبوتها إلى الرواية و إطلاقها، بل لا بدّ من اشتهارها بين الناس في جميع

______________________________

(1) و مثلها قوله تعالىٰ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (أ).

و قوله تعالىٰ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (ب).

و تقريب الاستدلال بهما بعد حذف المتعلّق معلوم، و لا يرد عليهما ما يتوجّه إلى الاولىٰ، بل لهما العموم دونها، فإذا كان التطهّر محبوباً، فطهارته ممضاة في الشريعة، فتدبّر جيّداً. [منه (قدّس سرّه)] (أ) البقرة (2): 222.

(ب) التوبة (9): 108.

(2) تحريرات في الأُصول 5: 492 493.

(3) يأتي في الصفحة 74 75.

(4) النساء (4): 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 72

الأعصار و الأمصار.

و توهّم: أنّ الماء ممّا كثر في البلاد، فلا يلزم ما ذكر، مدفوع بأنّ الأعصار الماضية لا

تقاس بهذه الأعصار، فافهم و تدبّر.

و قد مضى أنّ قضيّة الأُصول العمليّة، لزوم التطهير بما هو القدر المتيقّن و هو الماء المطلق «1».

الاستدلال علىٰ مطهّرية المسح و الغسل بالبزاق

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال لهذا المرام، بما رواه الصدوق بإسناده المعتبر، عن حكم بن حكيم ابن أخي خلّاد: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال له: أبول فلا أُصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول، فأمسحه بالحائط و بالتراب، ثمّ تعرق يدي، فأمسح به وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي.

قال

لا بأس به «2».

فإنّ الظاهر منه أنّ الراوي ظنّ طهارة يده بالمسح، و كفاية التراب المطهّر من الحدث و من الخبث في ولوغ الكلب، فأجابه الإمام بما سمعت. و كونها دليلًا علىٰ عدم منجّسية المتنجّس، بعيد.

نعم، ظاهرها أنّه مطهّر من الخبث البوليّ عند عدم القدرة على

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 47.

(2) الفقيه 1: 40/ 158، وسائل الشيعة 3: 401، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 6، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 73

الماء، فيكون قولًا آخر في المسألة، إلّا أنّ ذكر عدم إصابة الماء لا يدلّ علىٰ شي ء، كما لا يخفىٰ.

و لك الاستدلال بمآثير وردت في مسألة الغسل بالبُزاق «1»، بناءً علىٰ أنّ الغسل العرفيّ لا يحصل به، فهو في حكم الجامد، فكما يلغى الخصوصيّات في مذهب المشهور- لكلّية الحكم كذلك هي ملغاة هنا، و سيوافيك تمام البحث حولها من قريب.

الثاني: في عدم مطهّرية المضاف و سائر المائعات
اشارة

المنسوب إلى المفيد و تلميذه السيّد و جماعة من معاصري ابن إدريس، جوازُ التطهير بمطلق المائعات «2».

و الذي يظهر لي بعد التدبّر في كلام السيّد صدراً و ذيلًا المحكيّ عن «الناصريّات» و «شرح المسائل الخلافيّة» هو أنّه من المخالفين في تلك المسألة، كالفيض الكاشانيّ «3»، و أنّه اتخذ المسألة من المفيد أستاذه، فإنّهما هنا واحد، و إفتاؤه بجواز التطهير بالمسح في الأجسام الصيقليّة دون غيرها، ليس إلّا لأجل

عدم قوله بالسراية، و أنّه مع كون الجسم صقيلًا يتمكّن من إزالة الأجزاء النجسة دون غيرها؛ لأنّ الأجزاء

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.

(2) مفتاح الكرامة 1: 59/ السطر 10، لاحظ الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(3) مفاتيح الشرائع 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 74

الصغيرة تدخل الأجواف من الجسم، و هي لا تزول إلّا بالماء و مثله، فعليه لا مخالف في هذه المسألة إلّا توهّماً.

نعم، إطلاق فتوى ابن أبي عقيل «1»، يورث مخالفته طوليّاً لا عَرْضيّاً، كما مرّ تفصيله «2».

أدلّة مطهّرية المائعات و نقدها
اشارة

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ لهذا القول- بعد ما عرفت حال الإجماع و الآيات الثلاث بنصوص و إطلاقات.

و قبل الإشارة إليهما، لا بدّ من الإيماء إلىٰ نكتة، و هو أنّ من المحتمل اختيار السيّد في تلك المسألة تنجّسَ الأشياء و سرايةَ النجاسة إليها، و اختياره في هذه المسألة مطهّرية غير المائعات أيضاً، و لنا اختياره و إن كان من إحداث القول الثالث كما مضى سبيله.

و لذلك نستدلّ بالآيتين السابقتين- أيضاً لعموم هذا القول، و لا يتوجّه إليهما الإشكالات المتوجّهة إلى الآية الأُولىٰ، و لا وجه لدعوىٰ ورودهما في التطهير بالماء في الاستنجاء، أو الحدث فقط؛ لأنّ الروايات لا توجب حصر العموم في مفادها، كما لا يخفىٰ.

فلو فرضنا قصورهما عن إثبات مطهّرية الجوامد في الجملة، فلا شبهة في دلالتهما علىٰ مطهّرية المائعات بمقتضى الصناعة، فكما مَن تطهَّر

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 10/ السطر 26.

(2) تقدّم في الصفحة 58، الفصل السابع.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 75

بالأحجار موردُ حبّ اللّٰه تعالىٰ، و نتيجته جواز الصلاة و الطواف و غيرهما، كذلك مَن تطهَّر مِن نجاسة

الدم مثلًا بالتراب و هكذا.

نعم، بناءً علىٰ ما يأتي من استفادة مطهّرية المياه المطلقة فقط من الروايات، يمكن تقييد الآية و تخصيصها.

الروايات الدالة على مطهّرية المائعات و الجواب عنها

إذا عرفت ذلك فالنصوص كثيرة:

منها: رواية يونس، عن أبي الحسن (عليه السّلام) الماضية قال: قلت له: الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة.

قال

لا بأس بذلك «1».

فإنّها تدلّ علىٰ إزالة الخبث بالمضاف، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة سريان الحكم إلىٰ كلّ مائع.

و منها: النصوص الواردة في نفي البأس عن غسل الدم بالبُصاق «2»، و هي نقيّة السند، تامّة الدلالة.

و توهّم إمكان حملها على التقيّة غير تامّ؛ ضرورة أنّ قوله (عليه السّلام)

لا يغسل بالبصاق غير الدم

لا يقبل الحمل على التقيّة، بل حصره خلاف التقيّة.

______________________________

(1) الكافي 3: 73/ 12، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 76

نعم، إعراض المشهور- علىٰ إشكال يوجب وهنها، و كثرةُ الابتلاء بمثل ذلك و عدمُ وضوح الحكم، تكفي لفساد هذا الرأي.

و منها: ما مرّ في الأمر الأوّل من رواية حكم بن حكيم، فإنّها ذات وجوه و احتمالات، و منها: دلالتها علىٰ طهارة اليد النجسة- بالبول بالعرق الذي هو لا يقصر من البصاق، فتكون من أدلّة السيّد علىٰ حصول الطهارة بمطلق المائعات.

و لعمري، إنّ هذه المسائل الرائجة، لا تثبت بمثل هذه النصوص، خصوصاً بعد إعراض المشهور عنها، و لا سيّما بعد موافقتها مع الفتوى المعروفة عن العامّة القائلين بجواز التطهير بالمائعات «1»، فلا ينبغي التأمّل في فساد هذا الرأي أيضاً.

كلام صاحب الجواهر و نقده

و أمّا ما في «الجواهر»: من الاستدلال على السيّد و من يحذو حذوه، بالإجماع علىٰ نجاسة المائعات بملاقات النجاسة «2»، فتكون الروايات خلاف ما ذهب إليه المشهور أيضاً في تنجّس المضاف، فهو غير تامّ؛ ضرورة أنّ قضيّة الجمع بين

الأخبار- بعد قصور الإجماعات في هذه المسائل عن إفادة شي ء هو القول بتنجّس المائع بورود النجس عليه لا العكس، فلو ورد المائع الطاهر على النجس فهو يورث طهارته، و هذا هو

______________________________

(1) الخلاف 1: 59، المبسوط، السرخسي 1: 96.

(2) جواهر الكلام 1: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 77

المناسب للاعتبار، كما لا يخفى.

تقريب التمسّك بالمطلقات لإثبات مطهّرية المائعات

و أمّا التمسّك بالمطلقات، فيتمّ- علىٰ فرض صدق «الغسل» بمطلق المائع، و علىٰ فرض الإطلاق للأوامر الباعثة إلى الغسل في أبواب النجاسات البالغة حدّا لا يحصى بحمل القيد في المقيّدات على الغالب، و بتكذيب دعوى انصرافها إلى الغسل بالماء، فحينئذٍ يتمّ القول بمطهّرية المياه المضافة، خصوصاً بعد عدم الدليل علىٰ حصر المطهّرية بالماء في المقام، و استفادة الحصر في البول لا يورث الحصر الكلّي؛ لاختصاصه بأحكام خاصّة.

بل الظاهر من قوله (عليه السّلام) في أبواب الخلوة

و لا يجزي من البول إلّا الماء «1»

أنّ غير البول يطهّر بغير الماء، و إلّا يلزم التقييد المستهجن.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه في قبال قوله (عليه السّلام) في الرواية

يجزي من الغائط المسح بالأحجار

فلا دلالة له إلّا علىٰ أنّ الغائط أعمّ، دون البول.

و ما أفاده «الجواهر»: «من إهمال المطلقات طرّاً» «2» غير قابل للتصديق؛ فإنّ لسان تلك الروايات مختلف، و في طائفة منها يكون الحذف

______________________________

(1) عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: يجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلّا الماء.

تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 6.

(2) جواهر الكلام 1: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 78

قرينة الإطلاق.

نعم، كثير منها ليس في مقام إفادة كيفيّة الغسل، بل ربّما

تكون ظاهرة في إفادة النجاسة؛ بإيجاب الغسل، من دون النظر إلىٰ ما يغسل به.

و ما أفاده القوم: «من أنّ الماء في طائفة من الروايات جي ء لإفادة المفهوم و الاحتراز» «1» خالٍ عن التحصيل؛ ضرورة أنّ ورود القيد مورد الغالب لو كان له محلّ و مورد فهو هنا، فإنّ الماء الكثير الرائج و المطهّر إلّا على المتعارف القليل المئونة للصرف و غير ذلك، لا يذكر في الكلام إلّا للتعارف و كثرة الانس به.

و توهّم: أنّ ذكره مع هذه الشواهد، دليل علىٰ أنّ المتكلّم يريد الاحتراز به، غير ناهض علىٰ ما يفهم العرف من هذه القيود.

و العجب من الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللّٰه)، حيث ظنّ أنّ قضيّة القواعد حملها علىٰ القيديّة إذا شكّ في أنّه وارد مورد الغالب!! «2» و ذلك لأنّ الرجوع إلىٰ تلك القاعدة، يتمّ في مورد الشكّ و الاحتمال غير المستند، دون الشكّ المستقرّ و الاحتمال العقلائيّ، و قد تقرّر في حمل الكلام على المطلق: أنّ مع وجود ما يصلح للقرينية، لا يمكن ذلك الحمل؛ لعدم مساعدة العقلاء معه «3»، فلا تغفل.

نعم دعوى الانصراف قويّة جدّاً.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 42.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 55/ السطر الأخير.

(3) تحريرات في الأُصول 5: 350 351.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 79

إبطال التمسّك بالمطلقات

و الذي يسهّل الأمر: هو أنّ جميع هذه المطلقات و تلك العمومات التي أسّسناها في المسألة من الكتاب و السنّة، لا تفيد شيئاً، بل كلّما ازدادت قوّة الدليل علىٰ مطهّرية المائعات، يعلم ضعف هذا المرام و فساد هذا الرأي؛ لأنّه لو كان هذا من المذهب، لما خفي علىٰ أرباب الأُصول الأوّلية و الثانويّة و أصحاب الكتب المدوّنة في الفتوىٰ من السابقين و

اللّاحقين، بل يشهر كالشمس في رابعة النهار.

فالحقّ انحصار المطهّر بالمياه المطلقة، كما هو المشهور المعلوم من المذهب، فلا حاجة إلىٰ تحرير الأمر الثالث؛ في أنّ الأدلّة قائمة علىٰ مطهّرية المياه، بعد بطلان ما يقتضي مطهّرية غير المياه من سائر المائعات، فلاحظ و تدبّر.

الفصل العاشر في انفعال المائعات مطلقاً و لو كانت كثيرة، إلّا الماء المطلق إذا كان كرّاً

اشارة

أمّا البحث في الماء المطلق و قليله و كثيره، فسيأتي من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 80

و أمّا في غيره، فالمشهور بين الأصحاب- بل المجمع عليه «1» و هو المعروف في المخالفين «2»، انفعال المياه المضافة و جميع المائعات.

و نسب إلىٰ جماعة منهم عدمه «3»، و هو المنسوب إلى السيّد المرتضىٰ «4»؛ لأنّه يقول بمطهّريتها، و إطلاقه يقتضي طهارة النجس الوارد على المضاف المورود.

و فيه: إمكان المنع، و الأمر سهل.

و الذي هو المقصود في المقام، إيجاب الاجتناب عن ملاقي الأنجاس؛ سواء قلنا بالسراية، أو لم نقل.

نعم، قضيّة فهم العرف هي السراية، و لكنّه ممنوع في موارد مع وجوب الاجتناب فيها؛ ضرورة أنّ القذارات الشرعيّة لا تسري إلى الملاقيات عرفاً، فلا بدّ من إقامة الدليل.

مقتضى الأصل العملي في المقام

فبالجملة: مقتضى الأصل عدم وجوب الاجتناب عن الملاقيات، كما صرح به «الجواهر» (رحمه اللّٰه) «1».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 33، منتهى المطلب 1: 22/ السطر 1، ذكرى الشيعة 1: 7/ السطر الأخير، جواهر الكلام 1: 322.

(2) المجموع 1: 125/ السطر 5.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 33، المغني، ابن قدامة 1: 29، الشرح الكبير 1: 31 32.

(4) الخلاف 1: 59، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219/ السطر 3.

(1) جواهر الكلام 1: 135.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 81

و لا وجه لما قد يتوهّم؛ من أنّ جعل النجاسة للأعيان النجسة، يستلزم قهراً وجوب الاجتناب؛ لأنّ السراية من تبعات النجاسة في مرتكز العرف و المتشرّعة، بداهة أنّ ذلك ليس إلّا لأجل الأدلّة الشرعيّة، و للشرع تجويز ارتكاب ملاقي النجاسة، كما قيل به في الوسائط الكثيرة «1»، فلا إشكال على الأصل المذكور، كما يظهر من الشيخ الأنصاريّ (رحمه

اللّٰه) في «كتاب الطهارة» «2».

نعم، لا بدّ من الدليل للخروج عن مقتضاه؛ من الإجماع و العقل، أو الكتاب و السنّة.

أدلّة تنجّس المائعات
اشارة

و ما يمكن أن يستدلّ به عليه أُمور:

الأمر الأوّل: التمسّك بذيل العرف

قد تقرّر في محلّه وجوب الاجتناب عن القذر و النجس «3»، و هما من العناوين العرفيّة، فكما يجب الاجتناب عن الأعيان النجسة القذرة العرفيّة، يجب الاجتناب عن ملاقياتها؛ لصدق الاسم عليها، فلو وقعت العَذِرة في إناء من اللّبن، يعدّ اللّبن قذراً، فيجب الاجتناب عنه؛ لقوله (عليه السّلام)

______________________________

(1) تحرير الوسيلة 1: 123، المسألة 9.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

(3) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 156 158، جواهر الكلام 6: 89.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 82

كلّ شي ء طاهِر حتّى تعلم أنّه قذر «1»

فإنّه يعلم منه لزوم الاجتناب عنه.

نعم، في غير القذرات العرفيّة تحتاج إلى الدليل، فمثل الكافر يلحق بالقذارات العرفيّة، دون ملاقيه، إلّا من جهة لزوم خرق الإجماع؛ لاستلزامه التفصيل الذي لا يقول به أحد.

و فيه منع واضح؛ لأنّه ليس من الإجماع المعتبر بعد وجود النصوص في المسألة، فبهذا البيان يثبت السراية في الجملة.

و غير خفيّ: أنّ معنى السراية، هو إحداث التكليف الآخر غير التكليف المتوجّه أوّلًا بالأصل، كما أنّ معناها ليس السراية التكوينيّة، حتّى يلزم وجود الأجزاء من الشي ء الملاقى إلى الملاقي بالكسر، و لذلك لا نبالي بها مطلقاً فتدبّر.

إن قلت: لا بدّ من الالتزام بالسراية، حتّى يشمل الدليل الواحد نجاسة الملاقى و الملاقي، فما دام لم يكن اللّبن قذراً لا يشمله الأدلّة العامّة، و هذا هو النجاسة الاكتسابيّة قبال الذاتيّة.

قلت: نعم، إلّا أنّ الجهة المبحوث عنها أعمّ، و لا يتقوّم بذلك.

و بعبارة اخرىٰ: الاستدلال بهذا الوجه، لا يمكن إلّا بالالتزام بالسراية و النجاسة الاكتسابيّة، حتّى تأتي الأدلّة المتكفّلة لأحكامها هنا، و لكن نحن في موقف إثبات وجوب الاجتناب عن ملاقيات الأنجاس و إن لم تكن

قذرة عرفاً، و لا تكون النجاسة مسرية، فما يظهر من القوم؛ من تقوّم

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات و الأواني، الباب 30، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 83

المسألة بالسراية «1»، في غير محلّه.

نعم، في مورد السراية يكون هذا التقرير أيضاً، دليلًا علىٰ لزوم الاجتناب عن الملاقي؛ بلغ ما بلغ.

الأمر الثاني: الأدلّة اللفظية
اشارة

قد تقرّر في الماء القليل، أنّ الأدلّة اللّفظيّة- بعمومها قاضية بأنّ ملاقاة النجاسة تقتضي السراية، و أيضاً تكون الكرّية مانعة عن الانفعال؛ و ذلك لامتناع كون الماء في أصل طبيعته، محكومَ الحكمين المتضادّين؛ و هما الانفعال، و اللّاانفعال، فيكون في الموضوعين قيدان وجوديّان أو غيرهما؛ و هما القلّة، و الكثرة.

و لا يعقل كون القلّة موجبة للانفعال؛ لأنّها أمر عدميّ، و لاحظ له حتّى يكون له هذه الشأنيّة، فتكون الكثرة مانعة، و حيث هي منحصرة بالكرّية، فجميع ملاقيات الأنجاس تنجس قهراً؛ لتماميّة المقتضي، و عدمِ المانع.

و لو شكّ في مورد، يكون من الشكّ في التخصيص، و الأصل عدمه.

و توهّم: أنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ممنوع؛ لأنّ المفروض استفادة حصر المانع بالكرّية في الماء المطلق، فلا وجه لدعوىٰ أنّ المقتضي محرز، دون المانع فيما نحن فيه، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 114.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 84

مناقشة الدليل السابق

أقول: هذا ما قد أشار إليه الشيخ الأعظم «1»، و قد أتممناه بتقرير منّا، و بهذا البيان يقال بنجاسة المضاف الملاقى و لو كان كثيراً.

و لكنّه لو سلّمنا جميع ما قد أفاده من الاستفادة في تلك المسألة، لا يتمّ الدليل هنا، و لا في الكثير:

أمّا في الكثير؛ فلأنّ الانفعال و التأثّر في القليل- في الجملة أمر عرفيّ يدركه العقلاء، و في غيره لا بدّ من الالتزام بكشف الشرع، و الأدلّةُ عنه قاصرة، أو الالتزام بالتعبّد بالسراية، فهو كذلك، و لا داعي إلى التعبّد في الموضوع بعد إعمال التعبّد في الحكم بالاجتناب.

و أمّا في القليل من المضاف، فلا يتمّ الدليل فيه أيضاً؛ لأنّ المستكشف هناك

أُمور ثلاثة: اقتضاء الملاقاة للسراية، و قابليّة الماء للانفعال حسب الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل، و مانعيّة الكرّية عن الانفعال، و الأمر الأوّل و الثالث في المضاف موجودان و محرزان، دون الثاني؛ لأنّه أوّل الكلام، فالاستدلال به هنا مصادرة كما هو الواضح، و إثبات قابليّة المياه المضافة للنجاسة بأدلّتها الخاصّة «2»، خروج عن هذا الدليل كما لا يخفى.

و قد يستدلّ على المطلوب بالأولويّة؛ فإنّ الماء القليل إذا كان

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 85

ينفعل، فالمضاف بطريق أولىٰ، أو الإجماعاتِ المنقولة و الشهرات المحصّلة المحقّقة «1».

و أنت خبير: بقصورهما عن إثبات أمر في المقام.

بل لك الإشكال في الوجه الأوّل أيضاً: بأنّ ثبوت الصغرىٰ- و هي القذارة المكتسبة لا يكفي بدون الكبرى الكلّية، و لا دليل علىٰ أنّ كل قذر يجب الاجتناب عنه إلّا ما خرج بالدليل، و قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر «2»

لا يورث الكلّية و الإطلاق.

إلّا أن يقال: بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي الإطلاق، إلّا إذا دلّ الدليل، كما في بعض القذرات العرفيّة.

أو يقال: بأنّ بناء العقلاء على الاجتناب عن القذرات، و عدمُ الردع كافٍ لاستكشاف اللّزوم الشرعيّ، فتأمّل جيّداً.

و أمّا توهّم: أنّ القذر و النظيف في محيط الشرع، غيرهما في محيط العرف بالضرورة، فهو ممنوع؛ لما تقرّر منّا في محلّه أنّ الشرع لم يأتِ بأمر جديد في هذه المسائل، بل أتى بالقوانين الإصلاحيّة سعةً و ضيقاً «3».

الأمر الثالث: الآيات

و هي التي يمكن الاستدلال بها على لزوم الاجتناب عن ملاقيات النجس، و منها المائعات و المياه المضافة، مثل قوله تعالىٰ

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322.

(2)

تهذيب الأحكام 1: 285/ 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.

(3) تحريرات في الأُصول 1: 183 186.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 86

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1».

و قد استدلّ به السيّد في «الغنية» في مسألة انفعال الماء القليل «2»، و لا وجه للاختصاص.

و منها: قوله تعالىٰ في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «3».

و قد استدلّ به جماعة في مسألة حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة «4»، و لا وجه للخصوصيّة بعد تحقّق صغراهما في الملاقيات بالسراية و الاكتساب؛ لغةً و عرفاً و طبعاً و وجداناً.

و منها: قوله تعالىٰ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ «5».

و قد استدلّ به جماعة في المسألة السابقة «6»، و الأمر كما مضى، و وجه التقريب في الكلّ واحد و واضح.

و هكذا قوله تعالىٰ في سوره المائدة يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ «7».

______________________________

(1) المدّثّر (74): 5.

(2) الغنية، ضمن الينابيع الفقهيّة 2: 379.

(3) المائدة (5): 90.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مستند الشيعة 2: 395، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 11/ السطر 8.

(5) الأعراف (7): 157.

(6) لاحظ الام 1: 241، المحلّى بالآثار 6: 65، المجموع 9: 35.

(7) المائدة (5): 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 87

فإنّ قضيّة المفهوم ممنوعيّة الخبائث، و منها المياه المضافة الملاقية للأنجاس و المكتسبة للقذارة بها، و توهّم انصراف تلك الآيات إلى النجاسات الأصليّة دون الاكتسابيّة، لا يرجع إلىٰ محصّل.

نعم، هي أخصّ من المدّعىٰ؛ لعدم حصول القذارة في جميع الملاقيات كما عرفت.

و لا يخفىٰ: أنّه لا منع من التفصيل بين

الملاقيات، كما فصّل كثير من المعاصرين في الوسائط الكثيرة «1»، فكما أنّهم التزموا به هناك؛ لعدم تحقّق صغرى الكبرى الكلّية الزاجرة عن الأقذار، لقصور السراية عرفاً، و لعدم النصّ خصوصاً إلّا في ثلاث وسائط مثلًا، كذلك لنا التفصيل بين ملاقي النجس الذي يعدّ عرفاً مصداق النجس و القذر، و بين ما لا يعدّ، بعد ثبوت قصور النصوص الخاصّة عن إيجاب الاجتناب على النعت الكلّي.

هذا، و لكنك خبير: بقصور هذه الآيات عن إثبات الحكم و لو في الجملة فيما نحن، و قد تعرّضنا لها في المكاسب المحرّمة «2»، و أنّها هنالك لا تنفع شيئاً، فضلًا عن هذه المسألة.

الأمر الرابع: المآثير الكثيرة
اشارة

و هي واردة في الموضوعات المختلفة المشار إليها في كتب الأصحاب.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 173، المسألة 11، تحرير الوسيلة 1: 123، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 2: 221.

(2) كتاب المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه (مفقود).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 88

مثل ما ورد في نجاسة السمن و الزيت و شبهه «1»؛ بالتفصيل بين الجامد و المائع، فإنّه يعلم منه أنّ الأمر دائر بينهما، و لا خصوصيّة للمذكورات.

و منها: ما ورد في إيجاب إراقة المرق الذي وجدت فيه الفأرة و ماتت «2»، فإنّه يعلم منها أنّ الوجه انفعال الماء المضاف، دون الأمر الآخر، خصوصاً بعد الأمر بأكل اللّحم بعد تطهيره و غسله، و احتمال كون ذلك لرفع المرض الجائي من الفأرة، بعيد عن منساق الأخبار.

و منها: ما ورد في سؤر اليهود و النصارى «3»، فإنّ إطلاقاتها تشمل المضاف و كلّ مائع، و هكذا ما ورد في سؤر الكلب «4» و الخنزير «5» و النواصب «6»، فإنّ له من الإطلاق ما يشمل المقام، خصوصاً بعد مناسبة الحكم

و الموضوع، و أعمّية لغة «السؤر» لكلّ ما باشره جسم الحيوان.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

(2) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(3) الكافي 3: 11/ 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 225/ 644، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 3.

(5) تهذيب الأحكام 1: 261/ 760، وسائل الشيعة 1: 225، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 2.

(6) الكافي 3: 11/ 6، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 89

و منها: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدَّنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ، أو ماء كامخ، أو زيتون؟

قال

إذا غسل فلا بأس «1».

فبالجملة: المتتبّع في النصوص و الروايات، يطمئنّ بأنّ الأمر في الملاقي للأنجاس، ما ذهب إليه المشهور و الأصحاب كلّا.

شبهة الجمود على الموارد السابقة و جوابها

و لو كنت في شبهة من التجاوز عن هذه الموارد إلىٰ موارد أُخر، و من الأخذ بتلك الإطلاقات- كما لا يبعد جدّاً؛ فإنّ شرب الكلب و الخنزير من الإناء، كالنصّ في أنّ المشروب هو الماء، كما يشهد به رواية عمّار الساباطيّ في الأسآر «2»، و لو أُريد من الاستدلال بها إلغاء الخصوصيّة، فهو خروج عن هذا الأمر، و قد مضى البحث عنه- و من عدم تماميّة أعمّية كلمة «السؤر» لغةً؛ فإنّ الظاهر من «أقرب الموارد» هو بقيّة الماء في الإناء، بل قال: «ثمّ أستعير لبقيّة

الطعام و غيره» «3» تكون المسألة بلا دليل.

و العجب من «الحدائق» «1» حيث تجاوز عن مورد موثّقة

______________________________

(1) الكافي 6: 427/ 1، وسائل الشيعة 3: 494، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 51، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3.

(3) أقرب الموارد 1: 486.

(1) الحدائق الناضرة 1: 392.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 90

السَّكوني «1»، و لم يتجاوز عن مورد صحيحة زرارة!! «2» مع أنّ الملاك واحد فتأمّل.

هذا، و لكنّ الإنصاف: أنّ العرف لا يجد في هذه المواضيع خصوصيّة، و لو صحّ في مورد إلغاء الخصوصيّة، فهو هنا قطعاً.

الروايات المعارضة لمّا دلّ على التنجّس و الجواب عنها

ثمّ إنّ في المسألة ما يعارضها، مثل ما رواه الكلينيّ، بإسناده عن سعيد الأعرج، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الفأرة و الكلب، يقع في السمن و الزيت، ثمّ يخرج منه حيّاً.

قال

لا بأس بأكله «3».

فإنّه بعد إلغاء الخصوصيّة منها، يشكل الحكم بالنجاسة في جميع الموارد.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الموضوع في تلك الروايات، هي الفأرة الميّتة، و الميتة من كلّ شي ء، و التجاوز هناك- لو أمكن فهو ينحصر في مورد الملاقى- بالفتح و كيفيّة الملاقاة، دون الملاقي، فتلك الأخبار كانت في حدّ ذاتها، قاصرةً عن إثبات تنجّس المرق بوقوع سائر النجاسات

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

(3) الكافي 6: 261/ 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 91

فيه، و بعد ملاحظة هذه الرواية يفصّل بين الميتة و غيرها؛ من

الكلب الخارج حيّاً.

و لكنّه بعدُ تبقى المعارضة بينها و بين ما يدلّ علىٰ نجاسة سؤر الأعيان النجسة.

و هي تندفع: بأنّ معنى «السؤر» ليس مطلق المباشر كما أُشير إليه، فعلى هذا يحدث في المسألة قول جديد؛ حسب الجمع بين الروايات، فتدبّر.

و الذي يسهّل الخطب، عدم حجّية هذه الرواية؛ لإعراض المشهور عنها، مع أنّ في سندها إشكالًا، مع أنّ في بعض النسخ ليس لفظة «الكلب» «1» فعليه يتمّ المطلوب بمقتضى الروايات و إلغاء الخصوصيّة من المورد، و بفهم العرف أنّ الشرع لمكان نجاسة الميتة، منع عن استعمال الملاقى، فيشترك معها سائر النجاسات، فتأمّل جيّداً.

وجه آخر لتنجّس مطلق المائعات

و ممّا يشهد علىٰ نجاسة المياه المضافة و سائر المائعات، إطلاق الرطوبة الواردة في الأحاديث التي هي السبب للسراية، و هي الأعمّ، و لمّا كانت النجاسة تسري إلى الجسم بها، فلا بدّ أوّلًا من نجاستها، و حيث إنّ نجاسة الجوامد مورد الاتفاق، و عليها الروايات الكثيرة، فيعلم أنّ المائعات أيضاً تنجس إلّا ما خرج بالنصّ، كالكرّ من الماء، فافهم و تدبّر.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 9: 86/ 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 92

الفصل الحادي عشر في الفروع المذكورة في المسألة

فمنها: نجاسة المضاف و إن كثر
اشارة

المشهور بين المتعرّضين، نجاسةُ الكثير كالقليل، و اختصاصُ أدلّة الكرّ بالمياه، و ظاهر تعابيرهم عدم الفرق بين أفراد الكثير، فلو فرضنا الاوقيانوس من المضاف، فإنّه ينجس بملاقاة رأس الإبرة النجس.

اللهمّ إلّا أن يقال: بانصراف كلماتهم عنها «1»، فيكون الإجماعات المحكيّة و الشهرات المحقّقة بإطلاقها، شاملةً لغير الأفراد الخارجة عن العادة.

و يظهر من «الجواهر» «2» و جماعة «3»، كفايةُ هذه الإجماعات- بعد إطلاق معقدها في حكم المسألة، و قد عرفت عدم الاعتداد بها في أمثال هذه المسائل، كما نصّ عليه الأصحاب (رحمهم اللّٰه).

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 9.

(2) جواهر الكلام 1: 322.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 56/ السطر 22، جامع المدارك 1: 19، دليل العروة الوثقىٰ 1: 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 93

بيان مقتضى الأصل في المقام

و قد يقال: إنّ المسألة دائرة مدار أنّ الأصل نجاسة الشي ء بالملاقاة، أو العكس «1»، و قد مضى بعض الكلام فيه على الوجه الصحيح «2».

و أمّا تفسير الأصل؛ بأنّ قضيّة النجاسة سرايتها إلى الملاقيات «3»، حتّى يلزم كونها علّة لنقل النجاسة إلى الأطراف، فيكون الماء المستعمل في الاستنجاء مثلًا، طاهراً بالتخصيص، فهو غير راجع إلىٰ محصّل؛ فإنّ مسائل النجاسات الشرعيّة، ليست غير ما عليه الارتكازات العرفيّة، فالنجاسة و إن تسري إلى الملاقيات، و تنتقل بأمواج المياه إلى الأطراف، و لكن ذلك ليس إلّا ذوقاً خالصاً من الدليل؛ لعدم إمكان الالتزام بالموارد المختلف فيها أهل الذوق، فربّما يجد بعضهم السراية، و ربّما لا يجد بعضهم ذلك، فيكون الحكم منوطاً بهم كما في الشبهات الموضوعيّة.

و بعبارة اخرىٰ: يلزم رجوع هذه المسألة إلىٰ تلك المسائل، و هذا غير تامّ حسب ما يؤدّي إليه نظر الفقيه، فالأصل المحرّر في المسألة، هو عدم وجوب الاجتناب عن

الملاقيات إلّا ما خرج بالدليل.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 322.

(2) تقدّم في الصفحة 80 81.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة: 18/ السطر 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 94

التمسّك بقاعدة المقتضى و عدم المانع و جوابه

و في الكثير ربّما يذكر أدلّة غير ما أُشير إليها، و منها: أنّ المستفاد من أدلّة النجاسات، سرايتها إلى الملاقيات حسب الاقتضاء لا العلّية، و المستفاد من أدلّة الكرّ انحصار المانعيّة بالكرّ من الماء، فعليه يلزم انفعال الكثير، إلّا إذا دلّ الدليل علىٰ خلافه.

و أمّا تقريبه: بأنّ الكرّية من الماء مانعة، و فيما نحن فيه يلزم انفعال الكثير «1»، فهو غير مفيد؛ لأنّه مع الشكّ في المانع لا يمكن الحكم بالنجاسة.

و يتوجّه إلىٰ أصل البرهان: أنّ المقدّمتين غير كافيتين؛ لأنّ من الشرائط قابليّة المعلول للتأثّر، و هي في الماء ثابتة بمقتضىٰ أدلّة انفعال الماء القليل، فعليه يمكن إتمام البرهان بأنّ مقتضى الأدلّة في المقام أيضاً، انفعال الماء المضاف في الجملة، فالحكم في الكثير قطعيّ بناءً علىٰ تماميّة هذه المقدّمات.

و لكنّك تعلم: أنّ إثبات الانحصار للكرّية بل أنّها مانعة عن الانفعال، في غاية الإشكال؛ للزوم كون الكثرة القليلة من الكرّ يسيراً، غيرَ مانع من تنجّس الماء، و إذا بلغت كرّاً تمنع و لو كان النجس الوارد عليه منّاً من البول مثلًا، و هذا أمر فاحش فساده.

فتحصّل: أنّ السراية ليست علّة، و لا مقتضياً، بل هي نكتة التشريع

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 95

الكلّي، فلو دلّ دليل على الحكم فهو، و إلّا فالأصل متّبع.

التمسّك بتنجيس المتنجّس مطلقاً لإثبات تنجس المضاف الكثير
اشارة

و ممّا يمكن الاستدلال به على المقصود، هو أنّ الجامد ينجس بالرطوبة، فلو لاقىٰ أطرافها برطوبة واردة على الموضع الأوّل المتنجّس، يتنجّس الموضع الثاني و هكذا، و حيث إنّ المتنجّس منجّس على الإطلاق، فيمكن تنجيس الجامد كلّه بهذه الطريقة «1».

و من هنا يعلم نجاسة الكثير و لو بلغ ما بلغ؛ لأنّ الموضع الأوّل ينجس، فإن

قلت بنجاسة ذلك الموضع، فلا بدّ من اختيار نجاسة الكلّ؛ للوجه المذكور، و الاستبعاد لذلك ليس أكثر من الاستبعاد لتنجّس العالم بنجاسة واحدة؛ لعدم انقطاع الحكم، فالنجس من هذا الطرف من العالم، ينتقل في الجوامد إلى الطرف الآخر منه، فكيف لا ينتقل في المائعات؟! و إذا كان حكم العرف في مقدار من الماء معلوماً، و ما زاد عليه صار مشكوكاً، فالشرع القائل بأنّ ملاقي المتنجّس ينجس مطلقاً، يرفع الشكّ، فإن قلنا في تلك المسألة بما يتراءىٰ من المشهور، فالكثير من المضاف ينجس، و إلّا فلا، فتدبّر.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الحكم هناك في الأشياء الكثيرة المختلفة في الوجود، و لا يعقل الملاقاة مكرّراً بين الشي ء و نفسه، فلا يحكم بنجاسة الكثير، فليتدبّر.

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 56/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 96

التمسّك بالمآثير و الجواب عنه

ثمّ إنّه قد يتمسّك في المسألة بروايات خاصّة؛ ظنّاً أنّها بإطلاقها تدلّ علىٰ نجاسة الكثير «1»، و الذي يظهر لي قصورها:

و أمّا ما ورد في سؤر النصارى و اليهود «2»، و ما ورد في المرق و الزيت و السمن و شبهها «3»، فعدم إطلاقها بمكان من الوضوح.

نعم، هنا روايتان ربّما يستدلّ بهما عليها:

أُولاهما: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

ليس بفضل السّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا يشرب سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه «4».

فإنّها بمقتضىٰ إطلاق الجملة الأُولىٰ، و ظهورِ الذيل في الماء الكثير، تدلّ علىٰ نجاسة المضاف الكثير.

و فيه: أنّ الشرب ظاهر في الماء، و إلّا فللمستثنىٰ أيضاً إطلاق؛ لأنّه لو فرضنا الحوض من اللّبن، فإنّه أيضاً لا ينجس.

و العجب أنّ المستدلّ يتخيّل في روايات القدر

المطبوخ فيه اللّحم

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

(2) الكافي 3: 11/ 5، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة 1: 205 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 97

إطلاقها؛ بدعوىٰ القدور الكبيرة المستعملة في الأعراس «1»، و لم ينتقل هنا إلىٰ ذلك!! و لعمري، إنّ الحبّ للأمر يُعمي و يُصمّ.

هذا مع أنّ الظاهر منها لزوم كون الحوض غير المنفعل كبيراً، مع أنّه خلاف الأخبار في مسألة الكرّ، و حملها على الكرّ غير صحيح جدّاً، فعليه يشكل العمل بهذه الرواية؛ لإعراض الأصحاب عنها، فافهم.

ثانيتهما: صحيحة زرارة «2»، فإنّها أدارت الأمر في نجاسة الملاقي بين الجمود و الميعان، فيعلم علّية الميعان، و لأجله تجاوز الأصحاب عن موردها، فيحكم بنجاسة الكثير؛ لميعانه.

و فيه: أنّ الميعان نكتة سراية النجاسة، و هي ممنوعة في الكبير.

خاتمة المطاف في تنجّس المضاف الكثير

فعلى هذا تكون الأدلّة الاجتهاديّة، قاصرةً عن إثبات الحكم، و قضيّة الأُصول العمليّة طهارته استصحاباً، و أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب و قاعدة الطهارة و الحلّ.

و لو قيل: بأنّ القاعدتين لا تجريان في الشبهات الحكميّة.

قلنا: في غيرهما الكفاية، بل هو الحاكم عليهما، مع أنّ المسألة

______________________________

(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 52 53.

(2) عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها و ما يليها، و كل ما بقي، و إن كان ذائباً فلا تأكله، و استصبح به، و الزيت مثل ذلك.

تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب

الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 98

- في وجه من الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ وجه النجاسة هي السراية، و هي مشكوكة في الكثير، فلا تغفل.

و منها: عدم تنجّس الملاقى سواء علا أم سفل

لو لاقى العالي النجس أو بالعكس، فهل ينجس الجميع، أو لا ينجس مطلقاً، أو يفصّل فينجّس السافل في الأوّل، دون العالي في الثاني؟ فيه وجوه بل أقوال.

و التحقيق: عدم النجاسة مطلقاً؛ لتعدد الموضوع عرفاً، فإنّ الموجود في الإناء ساكن، و الخارج من فم الإبريق متحرّك، و هما لا يعقل وحدتهما عرفاً إلّا في بعض الفروض.

و ممّا ذكرنا يظهر حال المتساوي السطوح، إذا كانت متعدّدات عرفاً، و إن كان بينها الاتصال الضعيف، و حديث السراية لا يرجع إلىٰ كون الحكم منوطاً بها، بعد ما عرفت حالها؛ ضرورة أنّ من المحتمل كون الوجه في الحكم بالاجتناب عن المائع، كونه واحداً، بخلاف الجامد، فإنّه ينقسم- مع الرطوبة إلى القسمين: اليابس، و الرطب، فيتعدّد الموضوع، فافهم و تدبّر جيّداً.

و هكذا يعلم حال المضاف الجاري، فإنّه لا ينجس بعضه ببعض إذا كانت المسافة بعيدة، و لا سيّما بالنسبة إلى العالي، و ضرورة الحكم في الماء القليل تقضي بأنّ العالي لا ينجس، و لمّا كانت السراية من الأُمور السريعة، لا البطيئة، و لا الرقيقة، فيمكن عليها أيضاً دعوى طهارة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 99

الداني لو تلاقىٰ مع العالي؛ بشرط جرّ اليد من تحت الإبريق فوراً.

فتحصّل: أنّ الالتزام بالسراية بالمعنى المقصود؛ و هو حصول مصداق النجس من دون قيام أجزاء النجاسة بالملاقى، و الالتزامَ بعلّية السراية، أو اقتضاءِ النجاسة للسراية، و كونِ الحكم منوطاً بها في الأوّل، أو كونِ القاعدة تقتضي النجاسة عند الملاقاة إلّا

مع الدليل، حتّى يلزم كون المائع المردّد بين المضاف و المطلق، أو المردّد بين القليل و الكثير نجساً، في حيّز المنع، و ما يذكر دليلًا عليها غير ناهض؛ لتحمّله الاحتمالات الأُخر، فتدبّر.

و منها: أحكام تردّد المائع بين المطلق و المضاف
اشارة

لو تردّد المائع بين المطلق و المضاف، يتصوّر صور؛ لأنّه:

تارة: يكون منشأ التردّد الشبهة الموضوعيّة.

و أُخرى: مفهوميّة.

و ثالثة: هما معاً.

و لعلّ ما ورد في كلام الشيخ الأعظم من «الشبهة الصدقيّة» «1» إشارة إلىٰ ذلك.

و على التقدير الأوّل تارة: حالته السابقة هو الإطلاق.

و أُخرى: هي الإضافة.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 67.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 100

و ثالثة: لا تكون له الحالة السابقة.

و رابعة: تكون له الحالتان المتواردتان، و الكلام في الأخير يأتي في المباحث الآتية المناسبة معها.

اختار الكلّ في الفرض الأوّل جريان الاستصحاب الموضوعيّ، و هكذا في الفرض الثاني، و فيهما بحث؛ ضرورة أنّ الإطلاق ليس من قيود الموضوع في أدلّة مطهّرية الماء، و هكذا الإضافة، فما هو الموضوع هو الماء.

ثمّ إنّ الإطلاق و التقييد، من الأوصاف المنوّعة و الموجبة لتحوّل الموضوع، فكما لو شكّ في أنّ الكلب صار ملحاً لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب؛ لأنّ الوحدة المعتبرة في الموضوع في القضيّتين المتيقّنة و المشكوكة، غير محرزة، كذلك الأمر هنا، فعليه لا يمكن- وجداناً أن يقال: «هذا كان كذا» لأنّه ربّما يكون إشارة إلىٰ ما هو المباين مع السابق، فلا تغفل.

و من هنا يتّجه سقوط جريان الاستصحاب الحكميّ؛ لأنّ الجامع المأخوذ في الاستصحاب الشخصيّ، لا يورث وحدة القضيّتين مثلًا، فكما لا معنىٰ لأن يقال: «هذا الجسم كان نجساً» في المثال المشار إليه؛ لأنّ مصاديقه متبادلة الهويّة، كذلك لا يصحّ أن يقال: «هذا المائع كان مطهّراً» لأنّه المفهوم الجنسيّ.

فجريان الأصلين الموضوعيّ و الحكميّ،

مشكل جدّاً، و دعوىٰ أنّ الإطلاق و الإضافة من العوارض الشخصيّة- كالعلم و الجهل «1» فاسدة بالضرورة.

و ممّا ينبّهك علىٰ تعدّد الموضوع عرفاً، ذهابهم إلىٰ طهارة المائع

______________________________

(1) لاحظ دليل العروة الوثقىٰ 1: 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 101

المتبدّل من الخمريّة إلى الخلّية و بالعكس، فافهم جيّداً.

ثمّ إنّ مفهوم «الإضافة» و «الماء المضاف» ليس موضوعاً في الأدلّة حتّى يستصحب، بل المستفاد من الأدلّة قضيّة موجبة معدولة المحمول؛ و هي: «أنّ المائع غير الماء، لا يطهّر» و اصطياد الموضوع الكلّي المعلوم من الموارد الجزئيّة، في غاية الإشكال، فعليه يمكن أن يقال: بعدم جريان الأصل الموضوعيّ في هذه المسألة، خصوصاً لتلك الجهة، كما لا يخفىٰ.

التردّد بين المطلق و المضاف مع عدم الحالة السابقة

و أمّا في الفرض الثالث، فالمشهور بين المتعرّضين عدم ترتيب أحكام الماء المطلق، و عدم انفعاله بملاقاة النجس؛ لاحتمال كونه ماءً مطلقاً، بعد مفروغيّة كونه كثيراً و كرّاً.

نعم، إذا كان قليلًا ينفعل، إلّا علىٰ القول بعدم انفعال القليل، كما إذا كان كثيراً مفرطاً لا ينفعل؛ بناءً علىٰ ما مرّ من عدم انفعال الكثير المضاف.

و قد خالفهم جماعة، كالشيخ الأنصاريّ (قدّس سرّه) و غيره، و قالوا بالانفعال «1»؛ و ذلك لأنّ قضيّة الأدلّة اقتضاء النجاسة للسراية عند الملاقاة، و إذا شكّ في وجود المانع، تكون تلك الأدلّة مرجعاً؛ لأصالة عدم التخصيص.

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 298 و 300، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 102

و فيه: أنّه لو فرضنا تماميّته، يفيد إذا كان الشبهة حكميّة، و أمّا فيما كانت الشبهة موضوعيّة- و هو أنّ الكرّية معلوم مانعيّتها، و مشكوك وجودها فلا يكون المرجع تلك العمومات؛ للزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فحصول

الأثر لا يعقل إلّا بعد المقتضي و عدم المانع، و إذا شكّ في الثاني يشكّ في النجاسة؛ لأنّ الملاقاة مقتضية، و ليست علّة.

و دعوىٰ: أنّ بناء العقلاء على الاعتناء بالمقتضي عند الشكّ في المانع «1»، غير ثابتة.

و لك دعوى: أنّ الالتزام بالطهارة الظاهريّة، لا يورث التخصيص، حتّى يتمسّك بأصالة عدمه؛ لأنّ مرتبة الحكم الواقعيّ محفوظة مع الحكم الظاهريّ، فعليه يلزم القول بطهارته و لو قلنا بصحّة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فلا تغفل.

الاستدلال على النجاسة و جوابه

و قد يستدلّ علىٰ النجاسة: بأنّ المستفاد من الأدلّة، أنّ كلّ مائع ينجس بالملاقاة إلّا الكرّ من الماء، و ظاهره أنّ العنوان الخارج أمر وجوديّ معلّق عليه الحكم، و في تلك المواضع يستظهر من الدليل أنّ الشرط و المعلّق عليه هو الأمر الإحرازيّ، كما في مسألة حرمة النظر إلىٰ الأجنبيّة، فإنّها ترتفع بالمماثلة و المحرّمية الإحرازيّة، لا الواقعيّة، فعليه كما إذا شكّ في الكرّية، يبنىٰ على النجاسة، كذلك إذا شكّ في

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 75/ السطر 22.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 103

المائيّة؛ لأنّ المعتصم هو الماء الكرّ «1».

و فيه: أنّه لو سلّمنا جميع المقدّمات، لا يمكن الالتزام؛ لأنّ الإحراز- سواء كان جزء الموضوع، أو تمام الموضوع يكون دخيلًا في التنجّس، فيلزم تنجّس المائع غير المحرز بالملاقاة و إن تبيّن بعدها أنّه كرّ من الماء، فيعلم منه أنّه لو كان المستفاد من الأدلّة ما ذكرتم، فلا بدّ من حمل المستثنىٰ على الأمر الواقعيّ، مع أنّ هذا العموم ممنوع، و هكذا يمنع كون الخارج معنىٰ إحرازيّاً.

نعم، لا بأس بالالتزام بذلك لو اقتضى الدليل في مورد، كما هو الظاهر.

التمسّك باستصحاب العدم الأزلي على النجاسة و ما فيه

ثمّ إنّ هاهنا طريقاً ثالثاً؛ و هو أنّ قضيّة استصحاب العدم الأزليّ، إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العامّ؛ و هو عموم دليل الانفعال، و لا يعارضه استصحاب عدم كونه مضافاً؛ لعدم إثباته أنّه ماء «2».

و فيه: بعد المنع من جريان الأُصول في الأعدام الأزليّة إلّا في صورة، و ما نحن فيه ليس منها، و القائل بجريانه فيها غافل عن الشبهة في المسألة، و إلّا فهي غير قابلة للاندفاع- لأنّه في هذه المسألة غير تامّ؛ لأنّ المائيّة من الماهيّات، و ليست من أوصاف الموضوع كالقرشيّة

و القابليّة، فلا يمكن أن يقال: «هذا كان غير ماء» لاحتمال كونه ماءً، بخلافه

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 62.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 104

في القرشيّة.

و لأنّ العامّ المشار إليه ليس عنوان «غير الماء ينفعل» لأنّه قابل للصدق على المجرّدات و سائر الأشياء غير ما يتنجّس أيضاً، فما هو الموضوع هو «المائع غير الماء» و إحراز بعض الموضوع المركّب بالوجدان، و بعضه بالأصل، لا يوجب إحراز ما هو الموضوع؛ و هو المعنى الحرفيّ و التقيّد الواقع في الكلام.

و لو فرضنا أنّ العموم المستفاد من الأدلّة، هو «أنّ غير الماء ينفعل» فلنا دعوى أنّ الموضوع المستفاد منها في مقابله هو «أنّ غير المضاد و ما يلحق به حكماً، لا ينفعل» فيكون الأصلان متعارضين، كما لا يخفىٰ.

فالحقّ في المسألة: هو عدم انفعال المائع المردّد، و لا دليل علىٰ تماميّة قاعدة المقتضي و المانع؛ بأن يقال: إنّ بناء العقلاء علىٰ عدم الاعتناء بالشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي، فيحكم بانفعال الملاقى، فلا تغفل. هذا كلّه في الشبهات الموضوعيّة.

حكم المائع المردّد عند الشك في الشبهة الحكمية

و أمّا في الشبهات المفهوميّة، فجريان الأُصول الموضوعيّة و الحكميّة فيها محلّ بحث، و التفصيل في الأُصول «1».

و لو سلّمنا جريان الموضوعيّة كما هو ليس ببعيد إلّا في بعض الفروض، ففي جريان الحكميّة هنا إشكال آخر؛ و هو أنّ التعبّد بأنّ ما هو

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 542.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 105

الموجود في الخارج مطهّر، لا يثمر؛ لأنّ التعبّد بالسبب بما هو السبب، لا يثبت المسبّب إلّا عقلًا، و هو من الأصل المثبت.

و لو كان مصبّ الاستصحاب الحكميّ قضيّة تعليقيّة، و هو «أنّه

كان إذا يتوضّأ بهذا الشي ء الخارجيّ، كان وضوؤه صحيحاً» فهو في حدّ ذاته ممّا لا بأس به، إلّا أنّه من التعليقيّات الاختراعيّة، لا الشرعيّة.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 105

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المستصحب قضيّة منجّزة، و هو «أنّ الوضوء به كان صحيحاً».

و يمكن دعوى: أنّ استصحاب المطهّرية من الأُصول الموضوعيّة؛ لأنّ قضيّة مرسلة عبد اللّٰه بن المغيرة

إنّما هو الماء أو التيمّم «1»

هو أنّ المطهّر و ما يتوضّأ به هو الماء، فبهذا الأصل يعلم أنّه الماء تعبدّاً، و إذا كان هو الماء فيندرج في الكبرى الشرعيّة، كما في الأُصول الموضوعيّة، فافهم و تدبّر جيّداً.

حكم التردّد في الشبهة المفهومية

ثمّ إنّ المائع المردّد في الشبهة المفهوميّة، قد يكون معلوماً عدم إضافته، و مشكوكاً مائيّته، فإنّه حينئذٍ تجري الأُصول الحكميّة المنجّزة و المعلّقة، و لا يقع التعارض بينهما؛ لعدم اختلاف حكمهما.

و يمكن دعوى: أنّ الأُصول الجارية في الفرض كلّها منجّزة؛ لأنّ ما

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 106

هو المعلوم سابقاً؛ أنّه كان غير منفعل، فيستصحب، و علىٰ هذا كما يمكن التفصيل في المسألة، فيقال بجريان الأُصول المنجّزة، دون المعلّقة؛ لشبهة في كبراها، يمكن عكس ذلك؛ لأنّ المنجّزة مثبتة، دونها لعدم تماميّة تلك الشبهة، و هذا التفصيل- بعد إمكان التفكيك بين الأحكام ممّا لا بأس به.

و قد لا يكون معلوماً عدم إضافته، فإنّه حينئذٍ لا تجري الأُصول الموضوعيّة؛ لعدم إحراز الاتحاد المعتبر في جريانها علىٰ

ما تقرّر تقريبه. هذا تمام الكلام في الشبهة المفهوميّة من مفهوم «الماء».

و أمّا مفهوم «المضاف» فلا أثر له؛ لعدم كونه موضوعاً في الأدلّة، و استصحاب عناوين ذاتيّة من المضاف لا ينفع، فينحصر الأصل بالحكميّ، و حينئذٍ يلزم التعارض بين التنجيزيّ و التعليقيّ، و قد تقرّر تقدّم الثاني على الأوّل في محلّه «1».

لزوم التيمّم والتوضّؤ عند تردّد المائع

ثمّ إنّه فيما لم يعلم حال المائع، يجب عليه التوضّي به و التيمّم؛ لما تقرّر من لزوم الاحتياط في الشكّ في القدرة و العلم الإجمالي بوجوب أحدهما، إذا لم تكن له الحالة السابقة، أو كانت حالته السابقة وجدان الماء، فإنّه لا ينفع الأصل الموضوعيّ؛ لعدم انكشاف حال المائع به.

______________________________

(1) لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 554، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 143.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 107

نعم، إذا كانت حالته السابقة فقد الماء، فالأصل جارٍ، و ينحلّ به العلم المذكور، و التفصيل يطلب من محلّه «2».

و يحتمل تعيّن التيمّم عليه في جميع الصور؛ لما ورد من الأمر بإهراق الماء «1» فيما هو من قبيل المفروض في المقام، فليتدبّر.

الفصل الثاني عشر كيفيّة تطهير المضاف و المائعات النجسة
اشارة

و التي هي المبحوث عنها في المقام، هو إثبات قابليّتها للطهارة في الجملة؛ أي أنّ المائع و المضاف- بما هو مضاف لا يسلب عنه تلك القابليّة بالتنجّس كالجامد.

و أمّا أنّ كلّ مائع و مضاف يمكن تطهيره، فهو غير مقصود؛ لما يمكن استلزامه الإشكال من الجهات الأُخر المانعة من قبوله الطهارة، الخارجة عن ذات المائع، و اللاحقة ببعض مصاديقها، و خَلْطُ الأصحاب أوقعهم في اعتبار بعض القيود في المسألة؛ من الزيادة على الكرّية، أو إلقاء النجس عليه لا العكس .. و هكذا «2».

______________________________

(2) تحريرات في الأُصول 7: 466 471.

(1) وسائل الشيعة 1: 151 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 14، وسائل الشيعة 3: 345، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 4، الحديث 1.

(2) جواهر الكلام 1: 323.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 108

وجه قابلية المضاف للتطهير و الجواب عنه

و غاية ما يمكن أن يقال في المقام لسلب القابليّة: أنّ المطهّر هنا إمّا هو الانقلاب، فهو لا يفيد؛ لما تقرّر في محلّه من اختصاصه- للنصّ بموضع.

و إمّا هو الاستحالة، فقد مرّ الكلام في أنّها ليست في مثل المقام من الاستحالة في الصور النوعيّة، و لو كانت يعدّ المعاد عين الأوّل في نظر العرف، و يكون من إعادة المعدوم عرفاً.

و إمّا هو الاستهلاك في الماء المطلق المعتصم؛ بأن تلاقي الأجزاء المنتشرة المتصغّرة الكرّ و الجاري، فإذا عادت- فرضاً يكون طاهراً.

و هذا غير البول المنتشر، فإنّه إذا كان في الماء، فلا حكم للشرع عليه لما لا يرىٰ عرفاً، و لكنّه لو عادت أجزاؤه هو، تعدّ «بولًا» و تشمله أدلّة نجاسته.

فبالجملة: ما دام هي في الكرّ فلا موضوع حتّى يكون له حكم، و تظهر الثمرة في حال العود، و

لذلك انتشار الأجزاء في الهواء و الماء الكثير المضاف، مثل انتشارها في المطلق الكثير؛ في انعدام الموضوع و انسلاب الحكم قهراً.

فعليه يقال: بحصول الطهارة لتلك الأجزاء بملاقاتها للماء المطلق، بخلاف أجزاء البول، فالاستهلاك ليس من المطهّرات كما توهّم، بل الاستهلاك طريق حصول طهارة المضاف، فيكون المائع قابلًا له بالضرورة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 109

و يشكل ذلك أيضاً: بأنّ المائع النجس إن كان غير مضاف، فهو لو كان قابلًا للتطهير، فكان ينبغي الإشارة إليه في النصوص؛ حتّى لا يلزم الاختلاف في الاقتصاد، و لا يلزم التبذير و الإسراف؛ فإنّ إهراق السمن و الزيت و إحراقه، دليل علىٰ عدم القابليّة في نظر الشرع.

و إن كان مضافاً كالمرق، فهو أيضاً يهراق حسب النصّ «1» و الفتوىٰ «2».

و في غيره، فحصول الطهارة بعد كون جميع الأجزاء الظاهريّة و الباطنيّة نجسة، يتقوّم على القول بإمكان تطهير الصابون و البقولات التي صار باطنها نجساً، و قد منع كثير منهم عنه «3»؛ لأنّ سراية النجاسة إلى الباطن قليلة المئونة، بخلاف الطهارة؛ فإنّها متقوّمة بلقاء الكرّ و الجاري، دون الرطوبات النافذة.

فالجزء الصغير من المضاف لا بدّ أن ينقسم، و يكون ذا جهات ستّ، و له الباطن و الظاهر، و طهارة ظاهره لا تكفي عن باطنه، فكيف يطهر عقلًا؟! بل العرف يجد من النصوص المشار إليها، عدمَ قابليّة الذائب، من غير فرق بين ما هو الدسم و غيره، خصوصاً إذا فرضنا انتشار الزيت في الماء الحارّ المغليّ.

و لو كان المقصود طهارة المضاف حال الاستهلاك، فهو مثل البول،

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

(2) صراط النجاة، المسألة 113، الطهارة، الشيخ الأنصاري

1: 299.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 113، فصل في المطهّرات، المسألة 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 110

من غير فرق بين الأشياء المستهلك فيه.

بل لو كان آنُ استهلاكه و ملاقاته واحداً، فلا يشترط كون المستهلك فيه ماءً كثيراً، أو مضافاً كثيراً، كما فرض السيّد في قطرة الخمر الملقاة في الخلّ، و ظنّ إمكانه «1»، فراجع.

قابلية المضاف للتطهير في الجملة

هذا، و لكنّه مع ذلك كلّه، التجاوز عن مورد النصوص إلىٰ سائر المواضيع، غير صحيح؛ لأنّ فيها الدسومة المانعة عن قبول الطهارة، مع أنّ الأمر بالإهراق و الإحراق ليس إرشاداً إلىٰ أنّ تطهيره غير ممكن، بل ربّما كان ذلك لأجل استلزامه تحمّل المشاقّ، مع صرف مقدار من المال.

و توهّم نجاسة الباطن في المقام- كما في الأمثلة المشار إليها غير تامّ؛ لأنّ ما هو من الأجزاء نجس يطهر، و ما من الأجزاء بالقوّة لا ينجس عرفاً، حتّى يحتاج إلى التطهير، و لا أقلّ من الشكّ، فتدبّر.

فتحصّل: أنّ المضاف قابل للتطهير في الجملة.

و لك دعوى طهارة بعض الأصناف منها في صورة الاستحالة الحقيقيّة، كما لو صار اللّبن نفطاً، و دعوىٰ سراية النجاسة من موضع النجس إلى المستحال إليه، تتمّ علىٰ بعض المباني، و هذا لا ينافي الجهة المبحوث عنها في المقام.

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 134، فصل في المطهّرات، المسألة 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 111

تنبيه

المحكيّ «1» عن بعض كتب العلّامة عليه الرحمة، طهارة الماء المضاف بمجرّد الاتصال بالمطلق «2»، و إليه ذهب جماعة في القليل من المطلق «3»، و لو تمّ الدليل هناك فلا فارق عند العرف بين الموضوعين، و حيث إنّ المسألة هناك محلّ شبهة، فالأمر هنا أشكل، مع أنّ في صحّة الإسناد تأمّلًا جدّاً.

فرع: في أنّ المضاف قد لا يكون طاهراً و لا نجساً

لو حصل الاستهلاك و الإضافة دفعة، كما لو كانت الإضافة من قِبَل الأمر الآخر، فمقتضىٰ ما تحرّر منّا- من أنّ الاستهلاك ليس من المطهّرات، و لا الاستهلاك بالماء موجباً للطهارة، بل الاستهلاك طريق لإصابة الأجزاء بالكرّ و لو كانت الأجزاء مستهلكة بالأمر الآخر «4» عدم كون هذا الماء المضاف طاهراً، و لا نجساً، إذا نظرنا إليه بما هو المركّب:

أمّا أنّه ليس بطاهر؛ لأنّه صفة معلولة للماء المطلق، فلا بدّ من حفظ وجوده للتأثير، و لإزالة الخبث عن الأجزاء المنتشرة، و حيث هو كان

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 308.

(2) منتهى المطلب 1: 22/ السطر 6.

(3) المبسوط 1: 7، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 24.

(4) تقدّم في الصفحة 108.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 112

مضافاً في رتبة الاستهلاك، فلا يكون مطهّراً، و لا تلك الأجزاء النجسة طاهرة.

و أمّا أنّه ليس بنجس؛ فلأنّه أمر معلول للماء الملقى، و هو لا يبقىٰ للتأثير؛ ضرورة أنّه حال الإلقاء قد لقي المطلق، و هو لا يتأثّر منه، و حال الاستهلاك ليس بشي ء عرفاً حتّى يكون مؤثّراً في المضاف، فعليه حكمه الواقعيّ في هذا النظر عدم الطهارة و النجاسة، و في نظر آخر هي الطهارة كما لا يخفىٰ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 113

المبحث الثالث أنّه لو تغيّر الماء المطلق بالنجاسة ينجس

اشارة

و البحث في هذه المسألة يقع من جهات

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 115

الجهة الاولىٰ في احتمال عدم تنجّس الماء المعتصم بمجرّد التغيّر
اشاره

هل ينجس الماء المعتصم بمجرّد التغيّر المستند إلى النجاسة أم لا؟ فيه وجهان.

ما ذهب إليه الملّة و الشريعة هو الأوّل، مع اختلاف في بعض الخصوصيّات، مثل كونها غالبة و غيره.

و ما نحتمله في المسألة هو الثاني؛ و أنّ الماء المطلق ما دام لم يصر مضافاً لا ينجس.

أدلّة تنجّس المعتصم إذا تغيّر

و ذلك لأنّ ما يدلّ على مقصودهم هو أنّ النصوص الصحيحة

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 116

و الموثّقة الواردة في المسألة «1»، تدلّ علىٰ أنّ الماء إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجس، فلا يتوضّأ منه، و لا يشرب، و هذا هو من الأحكام الملازمة لاعتبار النجاسة، مع أنّ التغيّر أعمّ من الإضافة، بل لا تحصل الإضافة بذلك؛ لما مرّ أنّها غير حقيقة الماء.

هذا مع أنّ قضيّة النبويّ المنجبر

خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه

اعتبار النجاسة «2».

و هو أيضاً قضيّة ذيل رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام).

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء «3».

ما يتوجّه على القول بالنجاسة

أقول: يتوجّه إليها:

أوّلًا: أنّ نفي الحكمين أعمّ من اعتبار النجاسة: أمّا الثاني فهو واضح؛ لأنّه إذا كان من الخبائث يحرم الشرب.

و أمّا الأوّل، فلما سيأتي من صحيحة الحلبيّ، الصريحة في أنّ الماء الآجن- و هو المتغيّر في الطعم و الريح يتوضّأ منه إذا لم يكن ماءٌ صافٍ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(2) المعتبر 1: 40، عوالي اللآلي 1: 76/ 154 و 2: 15/ 29.

(3) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 117

و ثانياً: أنّ الماء المضاف ليس المضاف التكوينيّ، بل الماء المضاف ما لا يعدّ في نظر العرف ماءً؛ لانسلاب أوصافه الذاتيّة، ضرورة أنّ شيئيّة الشي ء بخواصّه، و صورته العرفيّة، و آثاره

البارزة، فكثيراً ما يتّفق أن يصير الماء بالنجس، متغيّراً إلىٰ حدّ الإضافة، فعليه يمكن الخروج عن إطلاق التغيّر بالدليل و الشاهد.

و ثالثاً: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ. فقال

إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه «1»

تدلّ علىٰ أنّ المقصود من «التغيّر» هو الإضافة، و إلّا يلزم إمّا الالتزام بنجاسة الأبوال من الدوابّ، و هو خلاف المشهور.

أو الحمل على التقيّة، و هو في مورد لم يمكن الجمع العرفيّ.

أو حمل الهيئة على الكراهة، و هو خلاف الأصل أوّلًا، و ثانياً يلزم التفكيك في الصدر و الذيل؛ لأنّه إذا تغيّر بالدم ينجس، فيلزم التفكيك في الهيئة، و هو خلاف الفهم العرفيّ.

فمقتضى الجمع حمل «التغيّر» على الإضافة، فيكون الحديث مقيّداً لسائر المطلقات الواردة.

و رابعاً: قضيّة صحيحة الحلبيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

في الماء

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 118

الآجن يتوضّأ منه، إلّا أن تجد ماءً غيره فتنزّه منه «1»

هو أنّ النواهي عن الشرب و الوضوء، مخصوصة بما إذا لم يكن الماء الصافي، و لا وجه لحمل

الآجن

على المتغيّر من قبل نفسه بعد إطلاقه، و لا سيّما بعد الأمر بالتنزّه عنه، فيعلم أنّ الآجن بالنجاسة لا ينجس لمّا أمر بالتوضّي به.

فالنتيجة: هو أنّ الشرع المقدّس لم يأتِ في هذه المسألة- من جهة النجاسة شيئاً جديداً، بل الأخبار في المسألة ناظرة إلىٰ أنّ المطلق إذا صار مضافاً، ينجس في المقام قهراً للملاقاة، أو

ينجس إذا كانت الإضافة مستندة إلى النجس و إن لم يكن اللّقاء.

نعم، قضيّة الأخبار أمر آخر؛ و هو وجوب الاجتناب عن الماء غير الصافي في الشرب و الوضوء، أو الغسل أيضاً، و هذا ممّا لا بأس بالالتزام به بعد عدم حجّية رأيهم و فهمهم، فتدبّر.

ثمّ إنّ مقتضى النبويّ و العلويّ المعتبر

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

«2» عدم قابليّة الماء للتنجّس؛ لأنّ الموضوع في القضيّتين أمر واحد، و التصرّف فيه بلا وجه، فمفاده «أنّه لا ينجس حتّى يطهر، و لو تنجّس- فرضاً فهو لا يطهر إلّا بانسلاب الموضوع بالاستهلاك».

بل قضيّة بعض المرسلات الآتية بل و غيرها، أنّ مجرّد التغيّر في أحد الأوصاف غير كافٍ، و التغيّر في جميعها مع الغلبة، يدرجه في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 217/ 626، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 2.

(2) المحاسن: 570/ 4، الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6 و 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 119

المضاف قهراً، أو يلحقه به؛ لموافقة الذوق، و مساعدة الحكم و الموضوع.

و خامساً: أنّ النبويّ المشار إليه مورد الخدشة، و قد طعنه صاحب «الحدائق» نهايته «1»، مع أنّ في دلالته إشكالًا، بل هو- فرضاً من المطلقات المحمولة على التغيّر إلىٰ حدّ الإضافة، و فيه من المحتملات أن يقرأ الفعل في المستثنىٰ مجهولًا؛ أي «إلّا الماء المتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه، فإنّه ينجّسه الشي ء» و ظاهر الفعل المجهول هنا هو التغيّر بنفسه أو بشي ء طاهر، كما لا يخفىٰ.

و رواية زرارة «2» غير نقيّة السند؛ لما فيه عليّ بن حديد، مع اشتمالها على اشتراط الغلبة الذي

لا يقول به المشهور.

فاستفادة النجاسة للماء المتغيّر لونه أو غيره، من تلك المآثير مشكل، و الإجماعات المحكيّة و المحصلات المدّعاة «3»، لا تفيد شيئاً بعد وضوح مستند المجمعين، و ما في «المنتهي»: «و هو قول من يحفظ عنه العلم» «4» يشهد علىٰ أنّ المخالفين أيضاً يوافقونهم، و عليه ينحصر المخالف بالكاتب، و يجب حينئذٍ الاحتياط.

فذلكة الموقف ثمّ إنّه لو سلّمنا قصور رواية أبي بصير لما في سندها

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 305.

(2) تقدّم في الصفحة 116، الهامش 3.

(3) مدارك الأحكام 1: 28، رياض المسائل 1: 2/ السطر 26، جواهر الكلام 1: 75، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 82، مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 6.

(4) منتهى المطلب 1: 5/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 120

محمّد بن عيسىٰ بن عبيد «1»، و فيه بحث طويل الذيل- فلا وجه لتقييد المطلقات.

أو قلنا: بأنّها و غيرها متوافقان، و لا دليل علىٰ وحدة الحكم، فتبقى المطلقات بحالها.

أو صدّقنا أحد المحامل الأُخر حولها، فكفاية هذه المآثير لاعتبار النجاسة- بعد صراحة صحيحة الحلبيّ في خلافه ممنوعة جدّاً.

بل لنا أن نقول: بأنّ النسبة بين صحيحة الحلبيّ و غيرها، عموم مطلق؛ لتوافقهما فيما كان الموجود ماءان: أحدهما المتغيّر، و الآخر: النقيع، و اختلافهما فيما لم يكن الماء النقيع، و مقتضى إطلاق الصحيحة جواز التوضّي، و قضيّة غيرها- بالنصّ مثلًا عدم جوازه، فيقدّم غيرها عليها.

و لكنّه مع ذلك، لا شهادة في تلك الأخبار على اعتبار الشرع نجاسة المتغيّر، و مجرّد اجتناب العرف في مواقف خاصّة، لا يفي لاعتبار القذارة التي هي موضوع الأحكام الخاصّة؛ فإنّ تحريم الشرب يمكن أن يكون لأجل الضرر و الخباثة، و تحريم الوضوء لأجل اشتراط كون الماء فيه

صافياً، كما يظهر من بعض الأخبار «2»، و يساعده بعض المطلقات الأُخر، ففي

______________________________

(1) محمّد بن عيسى بن عبيد يقطيني ضعيف، استثناه أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة و قال: لا أروي ما يختصّ برواياته ..

رجال الطوسي: 422/ 10.

(2) محمّد بن عليّ بن الحسين قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ، لأنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) قد توضّأ به، و كان ذلك ماء قد نبذت فيه تميرات و كان صافياً فوقها، فتوضّأ به.

وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 121

مرسلة الصدوق قال: و قال الرضا (عليه السّلام)

ليس يكره من قرب و لا بعد بئر

يعني قريبة من الكنيف

يغتسل منها و يتوضّأ ما لم يتغيّر الماء «1».

فبالجملة: استفادة الموضوع من الحكم الأعمّ، تنحصر بما إذا ساعدها الاعتبار، و هو هنا ممنوع بعد وجود القرائن.

الاستدلال علىٰ عدم نجاسة المتغيّر المعتصم

و ممّا يدلّ علىٰ ما أفدناه، ما روي عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال

الماء لا ينجّسه شي ء «2».

فمنه يعلم أنّ المستثنىٰ في الروايات منقطع، و هذا شاهد علىٰ أنّ المقصود من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

أيضاً ما شرحناه و قوّيناه.

دلالة موثقة سماعة علىٰ إرادة القذارة لا النجاسة:

و ممّا يدلّ علىٰ أنّ هذه الروايات، ليست في مقام إفادة النجاسة، بل نفس القذارة العرفيّة توجب المنع من التوضّي و الشرب، موثّقةُ سَماعة، عن أبي بصير قال: سألته عن كرٍّ من ماء، مررت به و أنا في سفر، قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان.

قال

لا توضّأ منه و لا تشرب منه «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14.

(2) عوالي اللآلي 1: 76/ 153، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

(3) تهذيب الأحكام 1: 40/ 110، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 122

و لا وجه لحملها علىٰ خلاف ظاهرها، بعد اتحادها مع غيرها في الحكم، بل مقتضى الصناعة عدم نجاسة المتغيّر بالنجس إذا كان ماء؛ لأنّه- حسب النبويّ و العلويّ لا ينجس، و يكون عمومه قرينة علىٰ عدم اعتبار النجاسة فيما نحن فيه.

نعم، في القليل نلتزم بها؛ للنصّ، علىٰ إشكال يأتي من ذي قبل «1».

و بعبارة اخرىٰ: يدور الأمر بين التخصيص و التخصّص، و الثاني متعيّن إذا ساعده الذوق و الفهم السليم.

و المحصول: أنّ ما هو مستند المشهور، طائفتان من المأثور:

إحداهما: ما كانت متعرّضة للحكم.

و ثانيتهما: ما هي ناطقة بالموضوع.

و الأولى قد عرفت أنّها

قاصرة عن إثباتها اعتبار النجاسة، و الثانية ما هي قاصرة سنداً و دلالة.

التمسّك بالنبويّ و جوابه

و لو قيل: بأنّ النبويّ المشهور بين الفريقين مع استناد المجمعين إليه فهماً- لقصور الطائفة الأُولىٰ، و لنقل مثل ابن إدريس: «أنّه متّفق علىٰ روايته» «2» و للحكاية عن ابن عقيل: «أنّه متواتر عن الصادق، عن

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 254.

(2) السرائر 1: 64.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 123

آبائه (عليهم السّلام)» «1» منجبر قطعاً سنداً، و ظاهره أنّه الاستثناء المتّصل؛ و أنّ الموصول هو النجس، و يؤيّده رواية زرارة المتعرّضة لاعتبار النجاسة «2».

قلنا: نعم، إلّا أنّه لا يفيد المطلوب؛ ضرورة أنّ مقتضى القواعد في الاستثناء عن المنفيّ، ثبوت نقيض الحكم في المستثنىٰ على الوجه المذكور في المستثنىٰ منه، فعليه لا بدّ و أن يصحّ أن يقال بعد جملة المستثنىٰ: «فإنّه ينجّسه شي ء» مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو نجس حسب ما أفتىٰ به المشهور، فيعلم منه أنّ الموصول هو «الماء» و الاستثناء متّصل فرضاً، و لكن الفعل بني على المجهول؛ أي «إلّا الماء المتغيّر لونه أو ريحه أو طعمه، فإنّه ينجّسه النجس».

و بعبارة اخرىٰ: الماء المتغيّر في أحد أوصافه، الموجب لتنفّر الطباع نوعاً، ينجس بملاقاة النجس، كما يكون القليل كذلك، فعليه يكون النبويّ غير مربوط بما نحن فيه، و لعلّه في المضمون أخصّ من الأدلّة المتضمّنة لاعتصام الكرّ و غيره، و لا بأس بالالتزام به بعد قوّة احتمال الانجبار، فتدبّر.

بطلان التمسّك بصحيحة زرارة على النجاسة

و دعوىٰ دلالة صحيحة زرارة على النجاسة «3» بعد ما عرفت، غير مسموعة؛

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 19.

(2) تقدّم في الصفحة 116، الهامش 3.

(3) الحدائق الناضرة 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 76.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 124

لأنّ قوله (عليه السّلام)

إلّا أن يجي ء له ريح

تغلب علىٰ ريح الماء «1»

ظاهر في أنّ الريح مستند إلىٰ غير النجاسة، فإنّه حينئذٍ ينجّسه الشي ء، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

مع أنّها مشتملة علىٰ ما لا يقول به الإماميّة، و حملها على التقيّة- كما قيل «2» غير تامّ؛ لأنّه بنصّه خلافها، كما لا يخفىٰ.

و لنا دعوى دلالة صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول

لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر، إلّا أن ينتن، فإن نتن غسل الثوب، و أعاد الصلاة، و نزحت البئر «3».

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال بقاعدة الطهارة، علىٰ نجاسة جميع المستقذرات العرفيّة إلّا ما دلّ علىٰ خلافه، و التغيّر بالنجاسة من الأقذار قطعاً، فيكون مندرجاً في غاية تلك القاعدة، فليتأمّل.

الجهة الثانية: في كفاية التغيّر في صفة واحدة

بناءً علىٰ نجاسة المتغيّر، أو وجوب الاجتناب عنه في الشرب و الوضوء و الغسل، دون غيرها، فيكون مطهّراً من الخبث، و طاهراً في ذاته، فهل ذلك عند تغيّره في جميع الصفات، أو يكفي الصفة الواحدة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 116.

(2) مقابس الأنوار: 46/ السطر 17.

(3) تهذيب الأحكام 1: 232/ 670، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 125

كاللّون و غيره؟

ظاهر المشهور بل هو المجمع عليه، هي الثانية «1»، و هو قضيّة المآثير الكثيرة من المعتبرات و غيرها «2»، و لا يعارضها المطلقات، بل هي تؤكّدها.

نعم، قضيّة صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة، فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه، و لا تشرب «3»

اشتراط الجمع بين الصفة إجمالًا، و ظاهر قوله

تغيّر الماء

بقرينة الصدر هو التغيّر في الريح.

و هذا هو مقتضىٰ رواية أبي خالد القمّاط: أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل، و هو نقيع فيه الميتة و الجيفة.

فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه، فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ منه

علىٰ نسخة «الاستبصار» «4».

و ضعف آخر السند ينجبر بحمّاد بن عيسىٰ، علىٰ ما هو المشهور فيهم.

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5/ السطر 3، رياض المسائل 1: 2/ السطر 26.

(2) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9، و 137 141، الباب 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

(4) الاستبصار 1: 9/ 10، و فيه: «و توضأ» بدل «و توضأ منه»، لاحظ جامع أحاديث الشيعة 2: 9/ 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 126

و يشهد له ما في مواضع من «فقه الرضا» «1» فراجع أبواب هذه المسألة و البئر، فإنّه يشهد علىٰ أنّ النسخة عند عليّ بن موسى كانت ب «الواو» و جمعاً بين الأحاديث اختار شرطيّة التغيّر من الأوصاف الثلاثة.

أقول: قضيّة بعض نسخ «التهذيب» «2» تعويض «الواو» ب «أو» في الرواية الأُولىٰ، فتسقط هذه الأحاديث عن الدلالة، و يبقى سائرها سليماً عن المعارض، و دعوىٰ أنّها «الواو» ممنوعة، بل الظاهر- بقرينة غيرها هي «أو» أو هي معارضة بما في «الفقه» فتوهّم المعارضة بين الأخبار و سقوطها، و الرجوع إلى الأُصول العمليّة، و هي تقضي بطهارة الماء إلى التغيّر في جميع الأوصاف، غير

تامّ.

و ممّا يؤيّد هذا التوهّم، الملازمة النوعيّة بين التغيّر بالطعم و الريح، بل و الثلاثة، فلو سبق التغيّر بأحد الأوصاف، مع التعارف علىٰ التغيّر بغيره بعد برهة، فلا يحكم بالنجاسة.

و علىٰ هذا، يمكن دعوى أنّ الروايات جامعة بين الأوصاف؛ لتلك الغلبة، فيتعيّن القول بكفاية الواحد؛ لأنّه مع الجمع أيضاً يثبت الحكم، فلا تعارض.

و إن شئت قلت: يقع التعارض بين المفهوم و المنطوق، و الثاني مقدّم، و إلّا فلا مفهوم.

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91 92.

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 127

الجهة الثالثة: في تنجّس المتغيّر بغير الأوصاف الثلاثة
اشارة

هل التغيّر بغير الأوصاف الثلاثة المدركة بالبصر و الشمّ و الذوق، يورث النجاسة؟ ظاهرهم عدمه، و لا خلاف من أحد.

و لكن في المسألة شبهة يشكل حلّها؛ لأنّ قضيّة بعض روايات الباب، أنّ تمام الموضوع هو التغيّر، و منها قول الصدوق: قال الرضا (عليه السّلام)

ليس يكره من قرب و لا بعد بئر

يعني قريبة من الكنيف

فيغتسل منها و يتوضّأ ما لم يتغيّر الماء «1».

و ذيل رواية أبي بصير الماضية

و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه «2»

فإنّه بعمومه بل و إطلاقه، يشمل جميع التغيّرات الحاصلة من أنواع مشابهات الدم في النجاسة و غيرها.

و مقتضى الروايات الأُخر المختلفة في التعديد فمنها ما يشمل الثلاثة، و منها ما يشمل الواحد، و منها ما يشمل الاثنين ليس التقييد؛ لعدم مساعدة فهم العرف في المقام إلّا للمثاليّة و التعارف، و مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و سريان تنفّر الطباع إلى الحرارة الحاصلة من النجاسة أيضاً، هو الأعمّ.

و توهّم الإجماعات المحصّلة على الحصر «3»، في غير محلّه؛

______________________________

(1) الفقيه 1: 13/ 23.

(2) تقدّم في الصفحة 117، الهامش 1.

(3) مقابس الأنوار:

51/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 128

لاحتمال كون نظرهم إلىٰ إثبات الثالثة، لا نفي الرابعة، فتدبّر.

مع أنّه محتمل كلام الجعفيّ و ابني بابويه، فإنّهم- علىٰ ما عن «الذكرى»: «لم يصرّحوا بالأوصاف الثلاثة، بل اعتبروا أغلبيّة النجاسة للماء» «1» انتهىٰ.

فتوهّم الحصر من النبويّ و غيره «2»، مبنيّ علىٰ فهم القيديّة، و لو شكّ في ذلك فالمرجع هي الطهارة.

إشكال و دفع

إن قلت: لا نفع في هذه المباحث بعد إنكار نجاسة الماء المتغيّر، و حمل النواهي على التحريم في الشرب؛ لجهة غير النجاسة، و في الوضوء على الكراهة؛ لاقتضاء الطبع ذلك، و هو قاصر عن إثبات الشرطيّة و إن مرّ احتماله، بل و قوّته «3».

قلت: لسنا طارحين هذه النصوص، حتّى يلزم ما أُشير إليه، بل نحن نقول: بأنّ المياه المتغيّرة تذهب عاصميّتها، و تصير قابلًا لأن ينجّسها الشي ء، سواء تغيّر بالنجس أو غيره، و هكذا نقول: لو تغيّر بالنجس، و لم يكن بعد التغيّر ملاقياً إيّاه، فهو لا ينجس.

فعليه لا بدّ من البحث فيما يوجب ذهاب عاصميّة الماء؛ و أنّه هي

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 61/ السطر 20، ذكرى الشيعة: 8/ السطر 11.

(2) لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.

(3) تقدّم في الصفحة 120 122.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 129

الثلاثة جمعاً، أو فرادى حصراً، أو زائداً عليها .. و هكذا.

الجهة الرابعة: في أنّ تغيّر اللون ملحق بالطعم و الريح
اشارة

لو تغيّر في طعمه أو ريحه، فلا خلاف من أحد، و عليه الإجماعات «1» و النصوص «2».

و لو تغيّر في اللّون، ففيه قولان: المشهور من الأقدمين إلى العصر الأخير، إلحاقه بهما في الأثر «3».

و استشكل فيه: بأنّ النصوص خالية عن ذكره «4»، و مقصود النافي منها الرواية المعتبرة، بعد عدم كفاية الإطلاقات؛ لأنّها مقيّدة بهما.

و لكنّه بمعزل عن التحقيق؛ و ذلك لأنّ في النصوص روايتين صريحتين في ذلك، و هي رواية العلاء بن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الحياض يبال فيها.

قال

لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول «5»

بناءً على المفهوم.

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، منتهى المطلب 1: 5/ السطر 3، الحبل المتين: 106/ السطر 12، مدارك الأحكام 1: 29،

رياض المسائل 1: 133، مستند الشيعة 1: 11، جواهر الكلام 1: 75.

(2) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(3) المبسوط 1: 5، السرائر 1: 60، تذكرة الفقهاء 1: 15، الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 76 77.

(4) الحبل المتين: 106/ السطر 13، مشارق الشموس: 203/ السطر 7.

(5) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 130

و معتبرة شهاب بن عبد ربّه، قال: أتيت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) .. إلىٰ أن قال: قلت: فما التغيّر؟

قال

الصفرة ..

الحديث «1».

و لو فرضنا عدم تماميّة سند الاولىٰ بمحمّد بن سِنان «2» كما لا يبعد، و الثانية من جهات عديدة معلومة لأهله، و لكنّها عندي غير تامّة، فالمتّبع هو رأي المشهور أيضاً؛ لأنّ تلك الشهرة العظيمة إمّا جابرة لإحدى هذه النصوص الواصلة من النبويّ و غيره، أو كاشفة عن نصّ لو وصل إلينا كنّا نفهم منه ما فهمه الكلّ، أو عن رأي المعصوم (عليه السّلام)، فعلى التقادير يتمّ المطلوب، إلّا علىٰ إشكال في مباحث الشهرة، فيرجع إلىٰ محلّه «3».

إشكال صاحب الحدائق و جوابه

نعم، شبهة ترد عليهم: و هو أنّ اللّون مسبوق الوجود بغيره، فليس هو دخيلًا؛ للزوم اللغويّة، و قد صرّح بذلك «الحدائق» و غيره «4»، وهماً أنّ به

______________________________

(1) بصائر الدرجات: 258/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

(2) محمّد بن سنان أبو جعفر الزاهري من ولد زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي. قال أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد: أنّه روى عن الرضا (عليه السّلام) قال: و له مسائل عنه

معروفة و هو رجل ضعيف جدّاً لا يعول عليه و لا يلتفت إلى ما تفرّد به.

رجال النجاشي: 328/ 888، و ضعّفه الشيخ الطوسي في كتابيه، لاحظ رجال الطوسي: 386/ 7، الفهرست: 143/ 609.

(3) تحريرات في الأُصول 6: 388 و ما بعدها.

(4) الحدائق الناضرة 1: 181، الحبل المتين: 106/ السطر 15، جواهر الكلام 1: 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 131

يعلم وجه إهمال اللّون في بعض النصوص و الآراء، غفلةً عن لزوم لغويّته في الاعتبار، كما تقرّر في محلّه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بغالبيّة المسبوقيّة، و هي تكفي للفرار عن اللغويّة، و توهّم كفاية المقارنة فاسد، فلا بدّ من كون كلّ واحد منها مختلف الوجود سابقاً و مسبوقاً.

بل لو كان السبق نادراً بحيث يلحق بالعدم، ففي صحّة جعله شرطاً مستقلا و سبباً أيضاً إشكال، بل منع.

ثمّ إنّه قد يشكل الأمر في اللّون: و هو أنّه من النور، و ليس منه الأثر في اللّيل، و يلزم نجاسته في النهار، و طهارته في اللّيل.

و فيه ما لا يخفىٰ، مع أنّه من الممكن دعوى إلحاقه به، كما في كثير من المسائل الشرعيّة، فتأمّل جيّداً.

الجهة الخامسة: في تنجّس جميع أقسام المياه بالتغيّر

مقتضىٰ إطلاق النصّ «1» و الفتوىٰ «2»، و عليه دعوى الاتفاق «3»، عدم الفرق بين أقسام المياه، و توهّم اختصاص الحكم بغير الجاري؛ ظنّاً أنّ بعضه يطهّر بعضاً، و هذا معناه عدم تنجّسه مطلقاً، غير تامّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9. و 158، الباب 9، الحديث 1، و 204 أبواب الماء المضاف، الباب 3.

(2) الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75، العروة الوثقىٰ 1: 30، فصل في المياه، المسألة 9.

(3) منتهى المطلب 1: 5/ السطر

3، الحدائق الناضرة 1: 178، جواهر الكلام 1: 75.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 132

نعم، قد يشكل الحكم في بعض المياه؛ و ذلك لأنّ قضيّة الإطلاقات في خصوص كلّ ماء، عدم تنجّسه حتّى بالتغيّر، و تكون النسبة بينها و بين المطلقات فيما نحن فيه، عموماً من وجه، فلو لم يكن مقيّدات في خصوص بعض المياه- كالبئر، و الكرّ، كما في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع «1»، و معتبر أبي بصير «2» و غيره «3» كان لتقديم المطلقات فيما نحن فيه وجه واضح؛ و ذلك للزوم لغويّتها لو أعملنا قواعد باب التعارض؛ من سقوطهما، و المراجعة إلى الأُصول العمليّة؛ و هي قاعدة الطهارة، و الاستصحاب.

فعليه يتعيّن الأخذ بإطلاق صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، الناطقة بأنّ الماء المتغيّر ينجس «4» مثلًا، و حملها على الماء الأعمّ من الحقيقيّ

______________________________

(1) عن الرضا (عليه السّلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه، أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأنّ له مادّة، الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(2) عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال: إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه. تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(3) عن أبي خالد القمّاط، أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل، و هو نقيع فيه الميتة و

الجيفة، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ.

تهذيب الأحكام 1: 40/ 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 4.

(4) عن حريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال: كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه و لا تشرب.

تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 133

و المضاف، فيكون الخارج الحقيقيَّ، و الباقي المجازيَّ، غير صحيح.

و لكن مع الأسف، بعد وجود المقيّدات في البئر و الكرّ، دون غيرهما من المطر و الجاري و الحمّام، تنقلب النسبة في خصوص تلك المياه، و يكون مفاد الإطلاق فيما نحن فيه و المطلقات- بعد التقييد في خصوص الماءين واحداً، و النسبة باقية مع المطلقات في غيرهما، و قضيّة القواعد طهارة الماء الجاري و المطر و الحمّام، و لو تغيّر بالنجس.

نعم، يمكن دعوى إنكار إطلاق الأدلّة في خصوص الماء الجاري، فيبقىٰ إطلاق الأدلّة في هذه المسألة بلا معارض، فيؤخذ به، و لكنّه في المطر و الحمّام غير ممكن.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع و إلغاء الخصوصيّة، يقضي بعدم الفرق بين المياه، و التفكيك يحتاج إلىٰ دليل صريح فيه.

بل لك دعوى تقدّم المطلقات في هذه المسألة علىٰ غيرها، من غير ملاحظة النسبة؛ لأظهريّتها من غيرها في مورد التصادم.

أو يقال: بأنّ

الماء

في قوله (عليه السّلام) مثلًا: «الماء

إذا تغيّر ينجس» من العناوين المشيرة إلىٰ أنواعه، و هذا أمر رائج في العناوين التي يكون لأنواعها الأحكام الخاصّة، أو لأصنافها، دون نفس الطبيعة من حيث هي

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 134

هي، و عندئذٍ تكون النسبة عموماً مطلقاً، كما لا يخفى.

الجهة السادسة: في الشرائط الدخيلة في تنجّس الماء المتغيّر
اشاره

و هي أُمور، على المعروف بينهم:

فمنها: كون التغيّر مستنداً إلىٰ الملاقاة
اشارة

و لا يكفي بالمجاورة و لو تغيّر في جميع أوصاف النجس، و عليه حكاية الإجماع «1»، و لا يوجد الخلاف من أحد.

و لكنّ التحقيق: عدم الفرق؛ لأنّ التفكيك في هذه المسائل العرفيّة، يحتاج إلىٰ دليل صريح ينادي بأعلى صوته؛ ضرورة أنّ المستفاد من الأدلّة، ليس إلّا أنّ المناط، هو التغيّر الحاصل في الماء من النجس، سواء كان بالملاقاة، أو بالمجاورة، أو بهما معاً، أو بالمجاورة مع الملاقاة غير الدخيلة .. أو غير ذلك.

و لعمري، إنّ هذا التقييد من أعاجيب ما وقع في كلام القوم، فإنّه يلزم منه طهارة المتغيّر في اللّون و الريح و الطعم و غيرها، و نجاسة المتغيّر في اللّون فقط!! من غير استفادة العرف خصوصيّة للملاقاة، فكونه مستنداً إلى الملاقاة، تعبّد صِرْف و محتاج إلى الأعمال بالدليل الواضح المتقن، لا الاستظهار، فلو لم يكن إطلاق في الأدلّة، و كانت الروايات منحصرة بما يشتمل علىٰ قضايا جزئيّة، كان القول المذكور متعيّناً عند المتدبّر و المتأمّل.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 82.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 135

و لعمري، إنّه لا يحتاج إلى التدبّر، بل لو كان في كلام الشرع قيد الملاقاة، لكنّا نطرحه؛ لكونه غير دخيل في نظر العرف، و يكون من القيود الغالبيّة، و لو كان في العالم مورد لإلغاء الخصوصيّة فيها، هو هذا بلا شكّ و ارتياب.

و من المؤسف عليه، وجود الإطلاقات في المآثير «1»، خصوصاً في صحيحة حَريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) الماضية، فإنّه (عليه السّلام) فيها- مبتدئاً بالكلام لم يعتبر هذا القيد، بل في بعض الأخبار ألغىٰ قيد الملاقاة المفروض في السؤال، فقال (عليه السّلام)

إذا كان النتن الغالبَ

على الماء، فلا يتوضّأ، و لا يشرب «2».

فبالجملة: حمل المطلق «3»، و دعوى الانصراف «4» و غير ذلك «5» في المسألة من الغفلة جدّاً.

الفرق بين الكثير و القليل من ناحية الملاقاة

و من العجب، توهّم جماعة «6» و منهم الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «7» أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 6.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 80.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 119، دليل العروة الوثقىٰ 1: 36.

(5) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84.

(6) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 84، مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 18.

(7) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 11 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 136

هذه المسألة مثل مسألة انفعال الماء القليل، فكما هناك لا بدّ من الملاقاة، كذلك هنا، إلّا أنّ هنا زيادة عليها؛ و هو التغيّر!! و ذلك لأنّ هناك لولا الملاقاة، لٰا معنى لاعتبار النجاسة؛ لعدم وجود الأثر منها فيه، بخلاف ما نحن فيه، فإنّه أثّر في طعمه و ريحه و لونه و غيرها أشدّ من التأثير بالملاقاة.

فعلى ما تقرّر، تكون طائفة من الروايات، ظاهرة في أنّ موضوع وجوب الاجتناب أو النجاسة، هو الماء المتغيّر بالنجس، لا المتغيّر المطلق، و لا المتغيّر به بشرط الملاقاة، و لا بحال الملاقاة بنحو العلّية الناقصة، أو العلّية التامّة.

بحث: في تنجّس الكثير إن تعفن بمجرّد الملاقاة للنجاسة

يمكن دعوى قصور المآثير عن دلالتها علىٰ أنّ المتغيّر بالنجس، يكون نجساً فقط، بل مقتضى النصوص هو أنّ المتغيّر المتعفّن المنزجرة عنه الطباع المتعارفة، ينجس بملاقاته للنجس، و ما ورد في الأسئلة من مصاديق هذه الكلّية، و ما وقع جواباً عنها «1» يفيد هذه الكلّية؛ لعدم ورود القيد في المآثير المفيدة لهذه الخصوصيّة، و قد مضى شطر من البحث حول تلك الجهة سابقاً.

و هذا هو الظاهر

من صحيحة ابن بَزيع، عن الرضا (عليه السّلام) قال

ماء البئر

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 138 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8 و 10 و 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 137

واسع لا يفسده شي ء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فلينزح حتّى يذهب الريح، و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «1».

لأنّ الظاهر هو هكذا «إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فإنّه حينئذٍ يفسده الشي ء، فينزح حتّى لا يفسده الشي ء، و السرّ في ذلك أنّه له مادّة».

نعم، ظاهر النبويّ بناءً على ما اشتهر من قراءة كلمة

غَيّر

في المستثنىٰ معلوماً، هو أنّ التغيّر مستند إلى النجاسة، و أمّا علىٰ قراءتنا- و قد مضى وجه تعيّنها فالكلمة مجهولة، و الموصول كناية عن الماء، و لعلّ لفظة الموصول محرّف «ماء»؛ أي «إلّا ماء غُيِّر لونُه و ريحه و طعمه، فإنّه ينجّسه الشي ء» و عليه يكون مفاده متّحداً مع مفاد الصحيحة و غيرها.

و منها: كون المتغيّر متّحداً مع المغيِّر في الصفة
اشارة

و البحث هنا يتمّ في مراحل:

الاولىٰ: في أنحاء تغيّر الماء بنجس العين

إذا كان المغيِّر من الأعيان النجسة:

فتارة: يتّحد المتغيّر معه في الوصف.

و أُخرى: يخالفه فيه، و لكنّه متّحد معه في الجنس القريب، فيكون

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12، و 172، الباب 14، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 138

نتناً و متعفّناً و متنفّراً منه الطبع؛ بأن يكون وصفاً للنجس الآخر مثلًا.

و ثالثة: بأن يكون وصفاً ثالثاً، و لكنّه مورد النفرة.

و رابعة: بأن تغيّر الماء بزوال الوصف العرضي.

و خامسة: بأن تغيّر باكتساب الوصف الأحسن.

و سادسة: بأن تغيّر بقذارة بدن الكافر الذي لا وصف له بذاته حتّى يسري.

لا شبهة في نجاسته في الفرض الأوّل، و مقتضى الإطلاقات نجاسته في غيره أيضاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الظاهر من النصوص الخاصّة و الأسئلة، اعتبار الإنتان، و هذا هو المساعد لفهم العرف؛ لمناسبة الحكم و الموضوع.

و يمكن دعوى اختصاص النجاسة بالفرض الأوّل؛ لقوله (عليه السّلام)

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة «1»

الظاهر في لزوم الاتحاد في الوصف مع التعارف في ذلك.

و لكنّ الإنصاف: كفاية غلبة النتن على الماء من قِبل النجس في تنجّسه، بل الظاهر أنّ

الماء

المفروض في النبويّ و غيره، هو الماء الخالص، لا الماء المتغيّر في أوصافه بنفسه، و استعمال كلمة

الريح

و

اللّون

و

الطعم

إمّا لاشتماله عليها و إن لا يدركه نوع الناس، أو للمشاكلة.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، الإستبصار 1: 12/ 19، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 139

و لو فرضنا أنّ استعماله؛ لأجل تعارف اتصاف نوع مصاديقه بها من قبل نفسه، أو

الجسم الطاهر، خصوصاً في مناطق الروايات، و لكنّه لا يورث ظهورها في أنّ التغيّر بذهاب الوصف العرضيّ كافٍ.

كما أنّ دعوى: أنّ العرف يفهم منها، لزوم وجود الوصف في الماء بالمغيِّر، و هذا من زواله به، غير كافية؛ لإمكان دعوى أنّ عود الوصف الأصليّ عندهم، من قبيل حدوث الوصف الجديد، فلا تغفل.

الثانية: في حكم تغيّر الماء بالمتنجّس

إذا كان المغيِّر من الأعيان المتنجّسة الحاملة لوصف النجس، كما لو تغيّر مقدار من الماء بالدّم، ثمّ القي في الكرّ فتغيّر، فمقتضى الإطلاق النجاسة، و هكذا مقتضىٰ أنّ المياه الكثيرة، تتغيّر بالماء المتوسّط بين الجيفة و بينها، و لا يمكن الالتزام بعدم نجاستها.

و هذا مقتضىٰ عدم إدراك الخصوصيّة، بعد اقتضاء المناسبة الأعمّية. و يدلّ عليه ما ورد في البئر القريب من الكنيف «1»، كما لا يخفى.

و لو استشكل في الوجوه كلّها كما يمكن، و لكنّ الوجه الأخير ظاهر و متعارف فيما نحن فيه، فتأمّل.

و الذي هو التحقيق: أنّ كلمة

شي ء

في النبويّ، ليست كناية عن النجاسة، و لا يختصّ بالنجس من الأعيان، بل الظاهر منه هنا- كما في روايات الكرّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 14، و 171 الباب 14، الحديث 4، و 197 200، الباب 24.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 140

كلّ ما يمكن أن يتنجّس منه الشي ء الآخر، و يحصل من قبله التغيّر، فلو انتقل وصف النجاسة إلى الماء، و لم يكن الناقل نجساً- كما إذا كان الجسم بالمجاورة حامله، فلاقى الكرّ من الماء و غيّره فإنّه لا ينجس.

نعم، لا يشترط كون المتنجّس المغيِّر، نجساً بالوصف الحاصل فيه، بل لو كان الماء فيه ريح الجيفة بالمجاورة، و تنجّس بأمر آخر، فإنّه شي ء نجس

غيّر وصف الماء، و لكنّه يأتي النظر فيه أيضاً.

نعم، إذا كان المتنجّس حاملَ وصفٍ غير النجاسة، فإنّه لا يورثها؛ لانصراف الدليل عنه؛ لأنّ من مناشئه في هذه المواقف، استقذارَ الطباع بعنوان النجس، و هو هنا ممنوع كما لا يخفىٰ.

عدم اختصاص الحكم بالمتنجّس المنجّس

ثمّ إنّه هل يختصّ الحكم بالمتنجّس المنجّس، أم لا؟ فيه وجهان.

لا يبعد الثاني؛ لأنّ عدم نجاسة الشي ء بملاقاته، لا ينافي نجاسته باستهلاكه فيه، و إيراثِه مثلَه في الوجود و الاعتبار؛ فإنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الماء المتغيّر اعتبر نجساً بالتغيّر، لا متنجّساً، فيكون من الأعيان النجسة.

و لذلك لا ينافي حصر القول بالنجس العين فيما نحن فيه، الالتزام بنجاسة الطرف الآخر من الماء الملقى فيه الجيفة؛ لأنّ الماء الملاقى معها يعدّ من الأعيان النجسة، و لا يقبل الطهارة إلّا كما يقبل سائر الأعيان النجسة، فما أفاده الأصحاب في المقام «1»، غير قابل للركون إليه.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26/ السطر 35، جواهر الكلام 1: 83 84، مستمسك العروة الوثقى 1: 120.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 141

فعلى هذا، لو القي مقدار من المتغيّر في الكرّ و غيّره، فإنّه ينجس؛ لكونه- في الاعتبار من النجاسات الذاتيّة، كالكافر.

فبالجملة: الأعيان النجسة الموجبة للتغيّر، مشمولة للمطلقات، و المتنجّسات بغير التغيّر خارجة عنها؛ لما يستظهر من المآثير أنّها بصدد اعتبار النجاسة العينيّة للماء المتغيّر، فإنّه لا يقبل الطهارة إلّا بزوال الوصف، فهو مثل الكافر في الأعيان النجسة؛ لخروجه موضوعاً عن عنوان النجس.

و لو القي في الكرّ، فإن عاد مع وصف التغيّر، فهو نجس أيضاً كما في البول، و إلّا فهو مثل الخروج الموضوعيّ عن تحت الدليل، فعلى هذا فيه اعتبار «العين النجس» قطعاً، فإذا القي في الكرّ و تغيّر به، فهو

ينجس.

و ممّا ذكرناه يظهر وجه القول بالطهارة في المرحلة الثالثة، كما أُشير إليه آنفاً، و لا حاجة إلى التكرار، كما يظهر مواقف الخلل في كلمات القوم رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و علىٰ هذا، يظهر أيضاً وجه ما نسب «1» إلىٰ السيّد في «الجمل» «2» و الشيخ في «المبسوط» «3» مع حكاية الإجماع عنه على التنجيس «4»، إلّا أنّ مصبّ كلامهم يحمل على الماء المتغيّر بالنجس، لا المتنجّسات الأُخر، فتدبّر.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26.

(2) رسائل الشريف المرتضى 3: 22.

(3) المبسوط 1: 8.

(4) مفتاح الكرامة 1: 62/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 142

إشكال و دفع

إن قلت: بناءً علىٰ هذا، يلزم طهارة الماء المتغيّر بزوال التغيّر؛ لاندراجه في الموضوع الآخر، كما لو أسلم الكافر.

قلت: نعم، و يشبه حينئذٍ العصير المغليّ، فإنّه نجس العين، و لكنّه إذا ذهب ثلثاه، يندرج تحت العنوان الآخر الطاهر العين.

و لكنّه لا يلزم ذلك؛ ضرورة أنّ عنوان «الماء المتغيّر» موضوع النجاسة، و إذا صدق في الخارج علىٰ موجود «أنّه الماء المتغيّر» صدق «أنّه نجس» و يكون التغيّر من عوارض الماء، فإذا زال التغيّر يقصر الدليل الاجتهاديّ عن اعتبار النجاسة له بعده، و هكذا الدليل الاجتهاديّ عن إدراجه في الماء الطاهر؛ لاحتمال كون التغيّر بعد العروض، موجباً لنجاسته بقاءً، أو حدوثِ الجهة الأُخرىٰ لبقائه على النجاسة.

و منها: كون التغيّر حسّياً لا تقديرياً

و تحقيق المسألة يظهر بالتدبّر في أنّ النجاسات مختلفة في الأثر؛ فإنّ منها ما لا يورث تغيّراً بنوعه، كالكلب و الخنزير و الكافر، فلا معنىٰ لكون تقديره بالجيفة موجباً لنجاسة الماء.

و منها: ما لا يورث بصنفه، كبعض الأبوال من بعض البلاد، فهو أيضاً مثل سابقه.

و منها: ما لا يورث لقصور في شخصه، فهو كذلك.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 143

و التغيّر تارة: يحصل في الماء؛ لتماميّة علّته من وجود المقتضي، و عدم المانع، بعد لحاظ أنّه تدريجيّ الوجود، و لكنّه لا يدرك بالحواسّ، فهذا لا معنىٰ لكونه موضوعاً للحكم إلّا على الوجه الآتي فساده.

و أُخرى: يحصل فيه و يدرك بالآلة، و يدركه القويّ من الناس أو الحيوانات، فهو أيضاً ليس موضوعاً للحكم؛ لأنّ المدار على المتعارف، فلا معنىٰ لإلحاق التقديريّ منه به.

و ثالثة: ما يدركه الناس، إلّا أنّه تغيّر في نهاية الضعف؛ بحيث يقال: «هو أخذ في التعفّن و التغيّر» فإن اعتبرنا الغلبة، فهذا محكوم بالطهارة بكلا المعنيين الآتيين

في الغلبة، و إلّا فهو محكوم بالنجاسة.

و التقديريّ منه أيضاً محكوم بالطهارة؛ لرجوعه إلىٰ تقدير الوجود و تقدير موضوع الحكم، و لو كان التقدير في هذه المواقف، موجباً لإلحاق الحكم بالمقدّر يلزم لغويّة أخذ الشي ء موضوعاً.

و رابعة: ما بلغ غايته في التغيّر، فإنّه حينئذٍ يلحق بالتقديريّ منه حكماً؛ لرجوعه إلىٰ أنّ عدم إدراكه لوجود المانع من الظلمة و الغيم، أو الشرط و هو النور .. و هكذا، أو لعدم البصر و الذوق.

أنحاء قصور شخص النجس

ثمّ إنّ قصور شخص النجس:

تارة: يكون لإشكال في الاقتضاء، كما مرّ.

و أُخرى: لعدم الشرط، مثل الحرارة، أو وجود المانع مثل البرودة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 144

و ثالثة: لاتحاد الماء معه في الصفة، فيكون هو الأبيض و هكذا النجس، أو هو الأحمر و الملقىٰ فيه الدّم .. و هكذا.

و الظاهر هو الحكم بالطهارة، إلّا إذا اشتدّ الوصف بالنجس، فإنّه نجس؛ لحصول التغيّر.

توهّم و دفع

إن قيل: ليس التغيّر من العناوين الذاتيّة، بل هو الطريق إلىٰ موضوع آخر؛ و هو استهلاك مقدار من النجس في الماء، و يختلف المقدار حسب اختلاف الماء، و هذا المقدار يعلم بالتقدير بالماء المتغيّر به.

قلنا: نعم، و لكنّه مجرّد إمكان، و لا يساعده ظواهر المآثير، و هكذا مفهوم «الغلبة» فإنّها لا تدرك إلّا بالحواسّ، فتوهّم أنّها تساعد الأمر التقديريّ، في غير محلّه و إن كان من بعض الأجلّاء «1».

و من عجيب البحث إطالة الكلام حول لزوم اجتماع المثلين و الضدّين «2»!! الذي هو الأجنبيّ عن المقام، كما لا يخفى علىٰ ذوي الأفهام.

فرع: في حكم تغيّر الماء عند طائفة دون اخرى

لو كان الماء متغيّراً عند طائفة، و غير متغيّر عند اخرىٰ؛ لاختلاف

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 182.

(2) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 30، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 122، دليل العروة الوثقىٰ 1: 42.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 145

مداركهم، و اختلاف عاداتهم و ملكاتهم، فهل يلحق الثاني بالأوّل، أو ينعكس، أو هو طاهر عند قوم، و نجس عند آخرين؟

و هذا يرجع إلى البحث حول أنّ موضوع النجاسة، هو التغيّر الواقعيّ، أو التغيّر جزء، و الإدراك جزؤه الآخر.

فإن قلنا بالأوّل، فعلى القوم الثاني تبعيّتهم للأوّل، و تصديقهم في حصول الموضوع، و هم في حكم البيّنة القائمة على الموضوع الشرعيّ.

و إن قلنا بالثاني، فيلزم اختلاف الحكم الواقعيّ حسب اختلاف نظريّاتهم.

و إن قلنا: بعدم لزوم تصديقهم في دعواهم التغيّر، فيلزم اختلاف الحكم الواقعيّ و الظاهريّ؛ حسب اختلاف إدراكاتهم.

وجوه.

و هنا وجه آخر؛ و هو أنّ موضوع النجاسة، هو التغيّر الواقعيّ البالغ مرتبة الإحساس، فلو اختلفت الطوائف في الحسّ، فكلّ يتّبع حسّه و عقيدته، و لازمه كون الماء الواحد طاهراً و نجساً واقعاً، و الالتزام

به مشكل جدّاً.

و دعوىٰ لحوق كلّ قوم خارج من المتعارف بالآخر، مسموعة، إلّا في مفروض البحث. و هو ما لا ثالث في البين، حتّى يكون هو المرجع في الخروج عن المتعارف و عدمه، و هذا أيضاً شبهة في المسألة، تؤيّد ما سلكناه فيها، فتأمّل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 146

بحث و تحقيق: في اشتراط غلبة النجس على الماء

قد عرفت: أنّ مقتضى الأدلّة، عدم لزوم الاتحاد في الوصف بين المغيِّر و المتغيِّر، و لكن قضيّة التدبّر في كلمات القوم و المآثير، شرطيّة كون النجس غالباً على الماء؛ و ذلك لما وقع في كلام الجعفيّ و ابنَي بابويه، من اعتبار أغلبيّة النجاسة على الماء «1».

و في كلام المحقّق: اعتبار استيلاء النجاسة علىٰ أحد أوصافه «2».

و في كلام العلّامة: «أنّ المدار علىٰ الغلبة» «3».

و في كثير من المآثير، اعتبار غلبة ريح الجيفة على الماء، و غلبة لون البول علىٰ لون الماء «4».

و حيث أنّ «الغلبة» لا تصدق إلّا فيما كان أثر النجس- الذي هو من مشخّصات النجاسة ثابتاً في الماء، فيلزم اتحادهما في الوصف، حتى يقال: «بغلبة النجاسة، و استيلائها عليه» و إلّا فهو غير صادق، كما لا يخفى.

و عليه، يحمل المطلقات في المآثير، علىٰ هذه المقيّدات و إن كانتا موجبتين؛ لتحقّق ملاك التقييد.

و من عجيب ما وقع في المقام، كلام «الجواهر» (قدّس سرّه) «5»!! و كأنّه

______________________________

(1) ذكرى الشيعة: 8/ السطر 11، مفتاح الكرامة 1: 61/ السطر 20.

(2) شرائع الإسلام 1: 4.

(3) منتهى المطلب 1: 8/ السطر 1.

(4) وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

(5) جواهر الكلام 1: 81.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 147

لا يبالي بتماميّة ما يذكره ردّاً على اعتبار الغلبة، و إلّا فعلى

مثله لا تخفىٰ هذه الأُمور الواضحة، بل علىٰ من دونه بمراتب.

و دعوى أنّ قضيّة القول بالغلبة، طهارة الماء المتغيّر بالجيفة في الريح «1»، ممنوعة؛ لأنّ الجيفة و الدم في تغيّر الماء، علىٰ حدّ سواء في انتشار الأجزاء في الماء.

و توهّم: أنّه في الدم يتغيّر بالنشر، و في الجيفة بأثرها و خاصّيتها «2»، في غاية السقوط، مع أنّ الجيفة لها الآثار المشخّصة، و منها ريحها، فإذا وجدت في الماء يصدق «غلبة النجاسة بريحها على الماء» كما يصدق «غلبة الدم بلونه على الماء» فما يظهر من المتأخّرين؛ من حمل «الغلبة» على التغيّر «3»، مع أنّ «الغلبة» لا تصدق إلّا حال التغيّر الخاصّ، ضعيف جدّاً.

و توهّم: أنّ الصفرة الحاصلة من الدم، غالبة على الماء، في محلّه، إلّا أنّه غير كافٍ؛ لما أنّ المدار علىٰ غلبة النجاسة بخصوصيّاتها الموجودة فيها؛ من الريح و الطعم و اللّون على الماء؛ قضاءً لحقّ النصوص.

و دعوىٰ: أنّ الصفرة ليست من آثار الجيفة، مع أنّها في النصّ مذكورة «4»، غير تامّة؛ لأنّ المتعارف انقلاب الماء بالجيفة في اللّون

______________________________

(1) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 3.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 10/ السطر 36.

(3) جواهر الكلام 1: 81، مصباح الفقيه، الطهارة: 11/ السطر 1، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 124.

(4) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 148

الأصفر، فكأنّه منها؛ بمعنى أنّ الجيفة عملها الصفرة، كما أنّ الدّم عمله الحمرة، و لتلك النكتة اتي بها في الرواية دون سائر الألوان، كما أنّ الإتيان بريحها في المآثير؛ لأنّ سراية الريح أسرع من اللّون، و لا يطّلع الناس نوعاً علىٰ طعمها حتّى

يشخّص ذلك.

تأييد اعتبار الغلبة برواية ابن سنان

و ممّا يؤيّد اعتبار الغلبة، رواية عبد اللّٰه بن سِنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر، عن غدير أتوه و فيه جيفة.

فقال

إن كان الماء قاهراً، و لا توجد منه الريح، فتوضّأ «1».

و أمّا ما في ذيل معتبر شهاب بن عبد ربّه

و كلّما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر «2»

فهو ظاهر في أنّ المراد هي الكثرة الموجبة للتغيّر و الغلبة.

فتوهّم: أنّه شاهد علىٰ أنّ العناوين الأُخر، مأخوذة طريقاً، فيتمّ القول بالتقدير، فاسد.

و قريب منه في الفاسد، دعوى أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فإذا تغيّر الماء مثلًا ينجس، و إذا غلبت النجاسة بكثرتها- أي كان مقدارها أكثر

______________________________

(1) الكافي 3: 4/ 4، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 11.

(2) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 149

من مقدار الماء نجس أيضاً «1»، فافهم و تدبّر جيّداً.

الجهة السابعة: في قابلية الماء للتطهير و كيفية تطهيره
اشارة

لو فرضنا نجاسة الماء المتغيّر، فهل هو قابل للطهارة أم لا؟.

ثمّ على فرض قبوله، فهل يكفي زوال التغيّر أم لا؟.

و على الثاني، فهل يكفي مجرّد الاتصال أم لا؟.

و على الثاني، فهل يشترط الامتزاج الخاصّ أم لا؟.

و علىٰ جميع التقادير، يشترط زوال التغيّر في حصول الطهارة، أم لا، أو يقال بالتفصيل بين المياه؟

ففيه أبحاث:

البحث الأوّل: في قابليّته للتطهير
اشارة

فقد يشكل ذلك؛ لأنّ الظاهر من النبويّ و العلويّ المتقدّم

الماء يطهِّر و لا يطهَّر

أنّه إذا تنجّس لا يقبل التطهير من قبل نفسه؛ لأنّه من قِبَل غيره ممّا لا يتوهّم، حتّى يحتاج إلى الدفع، فيعلم منه أنّه غير قابل لذلك.

و أمّا تطهيره باستهلاكه، فهو تَسٰامح واضح؛ فإنّ المقصود هو التطهير الحقيقيّ الذي لا يفرض إلّا مع بقاء الموضوع، و إلّا فجميع الأنجاس تقبله.

و هذا ربّما يكون الظاهر من القائلين بالامتزاج، البالغ مزجه إلىٰ

______________________________

(1) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 150

حدّ الاستهلاك، فإنّه لو فُرض الكثير من البول كذا، لصار طاهراً، و لو عادت الأجزاء المستهلكة، فصدق عليها «البول» كما لو عادت الأجزاء من المتغيّر و صدق عليها «المتغيّر» فإنّهما في الفرضين نجس بالبداهة.

فهذا الاحتمال ليس بعيداً جدّاً، خصوصاً بعد ما إذا راجعنا العرف و العادة في طهارة الأشياء المتنجّسة؛ من أنّ الماء بملاقاته لها، و تحمّله قذارتها، و فراقه منها، يورث رجوعها إلى الطهارة الخلقيّة الأوّلية، و هذا في مطلق المائعات ممّا لا يتصوّر.

و قد مرّ منّا في مباحث المياه المضافة، ما يتعلّق بالمسألة «1»، و حول النبويّ هناك، و في ابتداء هذه المسألة أيضاً من الاحتمالات الكثيرة فيه، و لكنّه غير خفيّ أنّ أظهرها، ما يتعلّق بمرامنا هنا.

فبالجملة: بناءً علىٰ تماميّة هذه الشبهة، يلزم

القول بالاستهلاك في تطهير المياه النجسة، و لا يكفي الاتصال، و لا الامتزاج.

و هذا ليس خرقاً للإجماع بعد ما أُشير إليه، و يقتضيه إطلاق كلام القائلين باعتبار الامتزاج، و إذا اقتضى الدأب و الديدن في تطهير المتنجّسات، ذهابَ النجاسة بالماء مع بقاء الذات، فالتمسّك بعمومات مطهّرية المياه حتّى لنفسها، في غير محلّه؛ لأنّ العرف لا يجد طريقاً إلىٰ تطهير الماء النجس- كالبول إلّا بالإلقاء في الكثير الموجب لاستهلاكه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 107 109 و 118 119.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 151

عدم دلالة صحيحة ابن بزيع علىٰ كفاية الامتزاج

إن قلت: قضيّة صحيحة ابن بَزيع «1»، نجاسة ماء البئر، و تطهيره بالمادّة الموجودة فيه بالاتصال أو الامتزاج.

قلت: يمكن دعوى أنّ المتعارف، إخراج الماء الكثير المتغيّر، و بقاؤه يسيراً، و غلبة المادّة الموجودة البالغة إلىٰ حدّ استهلاكه فيها، فلو كان لها الإطلاق من تلك الجهة، فما هو المنصرف إليه عند العرف هو ما يساعدهم، و أنت خبير بأنّ العقلاء في كيفيّة تطهير المائعات، لا طريق لهم إلّا الاستهلاك و الإفناء، و لا طريق عندهم لتطهير الماء مع بقاء المتغيّر مع بقاء موضوعه، فإذا لا حظنا الصحيحة، نجد أنّها ليست في مقام إفادة الأمر التعبّدي الصرف في تطهير ماء البئر، و ليس مجرّد الاتصال و الامتزاج من التطهير عند العرف و العقلاء، بخلاف الاستهلاك المستلزم لفناء موضوعه.

ثمّ مقتضى الإطلاق فرضاً، هو التفصيل بين الماء الذي له المادّة، كالجاري و النابع و البئر، بل و الحمّام، و ما لا مادّة له كالراكد؛ لأنّ قضيّة النبويّ، عدم قابليّة الماء للتطهير إذا تنجّس، و قضيّة الصحيحة- بعد عموم التعليل قبول الماء المذكور للطهارة إذا تنجّس، و نتيجة الجمع هو التقييد، و الالتزام به غير ممنوع

شرعاً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 137.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 152

البحث الثاني: في كفاية مجرّد زوال التغيّر
اشارة

لو زال وصف التغيّر بنفسه أو بالجسم الطاهر غير المياه الغالبة، فهل يطهر المتغيّر أم لا؟ فيه قولان:

فعن الشافعيّ و أحمد من المخالفين «1»، و عن يحيىٰ بن سعيد و الشهيد «2» بل و العلّامةُ في بعض كتبه ك «النهاية» قد مال إليه «3»، و في «الحدائق»: «و قد صرّح جمع من الأصحاب: بأنّ القول بطهارة المتغيّر بزوال التغيّر، لازم لكلّ من قال بالطهارة بالإتمام» «4» فتأمّل- هو الأوّل، و عن الآخرين هو الثاني.

و أنت خبير: بأنّ هذا القول، لا ينافي القول بأنّ الماء المتنجّس لا يقبل الطهارة؛ لأنّه ليس من التطهير الحقيقيّ، بل هو من قبيل تبادل العناوين الكلّية المجعولة عليها النجاسة و الطهارة، فإذا خرج شي ء من عنوان، و دخل في الآخر، يكون نجساً أم طاهراً، كالكافر و المسلم، فكما لا يطهر الكافر، و لا المسلم ينجس، مع حفظ الموضوع، كذلك الماء المتغيّر لا يطهر، و لا غيره ينجس.

و إن شئت قلت: الطهارة في تبادل العناوين، ليست من الطهارة

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 11/ السطر 19، المغني، ابن قدامة 1: 35، المجموع 1: 132.

(2) الجامع للشرائع: 18، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 16.

(3) نهاية الإحكام 1: 258.

(4) الحدائق الناضرة 1: 246.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 153

الحاصلة من التطهير الحقيقيّ الذي هو بالماء، أو بالشمس، أو بالأرض مثلًا، بل هي الطهارة على التوسّع و المجاز، فلا تغفل.

هذا، و الذي يقرّب الأوّل؛ هو أنّ الطهارة ليست إلّا فيما كانت الأشياء موجودة علىٰ خلقتها الأوّلية و الأصليّة، فإذا تلوّثت بالأخباث و القذارات تعدّ نجسة، و إذا زالت

النجاسة، و رجعت إلىٰ ما كانت عليه، تصير طاهرة، و المزيل في بعض الأشياء يكون الماء، و في بعضها يكون التراب و الشمس، و في الثالثة نفس زوال العين .. و هكذا.

و هذا الاختلاف في المزيل، ممّا يوافقه ذوق أهل العرف أيضاً في الأشياء؛ لاختلافها في الجهة المحتاج إليها. و هذا بحسب النوع و الكلّي، لا العامّ الاستيعابيّ حتّى ينقض، فلا تختلط.

فإذا تغيّر الماء بالنجس، فهو من الأنجاس الشرعيّة و المستقذرات العرفيّة، و إذا زالت تلك الأوصاف السيّئة، و صار الماء صافياً أحسن في صفائه من الأوّل، فقد عاد إلى الطهارة الذاتيّة المجعولة له تكويناً و تشريعاً، فالقول بنجاسة الشي ء بعد ذلك، يحتاج إلى الدليل القويم الظاهر و الصريح، كما في الجامدات الوارد فيها الأمر بالغسل فيه.

ثمّ إنّ استفادة العنوانيّة من أخبار الباب «1»، غير ممكنة، فليس المتغيّر و غير المتغيّر كالمسلم و الكافر؛ في كونهما موضوعين للطهارة و النجاسة، فإذا تبدّل العنوان يتبادل الحكم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 3: 428 429، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 154

علّية التغيّر حدوثاً و بقاء

نعم، لا ينحصر القول بطهارة المتغيّر إذا زال تغيّره بها، بل يمكن دعوى استفادة العلّية حدوثاً و بقاءً للتغيّر و لو اقتضت الصناعة العلميّة خلافها، كما هو الحقّ، و لكنّ المناسبات المعمولة في هذه الموضوعات العرفيّة- التي لا يُعمل الشرع فيها التعبّدَ الخاصّ الصرف تقضي بأنّ المتغيّر تمام الموضوع للنجاسة، و إذا لم تكن النجاسة بانتفاء علّتها، يكون الموضوع طاهراً قهراً و عرفاً.

فاحتمال كون النجاسة باقية تعبّداً محضاً، و احتمال كون نفس التلبّس في آنٍ ما كافياً لاعتبار بقائها، و احتمال حدوث العلّة الأُخرىٰ لبقائها، كلّها من المذمومات العقلائيّة، و لا

ينتقل العرف من أخبار الباب إلّا إلىٰ ما أشرنا إليه إنصافاً.

و أهون من المحتملات المزبورة، احتمال كون الملاقاة موجبة للنجاسة بشرط التغيّر، فإذا زال الشرط لا يرتفع الحكم؛ لبقاء الموجب و هي الملاقاة.

التمسّك بحديث عوالي اللآلي

و ممّا يستدلّ به الحديث النبويّ في «عوالي اللآلي» قال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إذا بلغ الماء كرّاً لم يحمل خبثاً «1».

______________________________

(1) عوالي اللآلي 1: 76/ 156، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 155

أو قال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثاً «1».

و فيه: أنّه غير تامّ سنداً، و ما عن «مبسوط» الشيخ (قدّس سرّه) من نسبته إليهم (عليهم السّلام) «2»، محمول علىٰ تفسيره أخبار الكرّ بذلك، غيرَ ملتفتٍ إلى اختلاف المعنيين ظاهراً.

و لو فرضنا اعتباره؛ لذهاب جمع إلىٰ مفاده فرضاً، و لكنّه معرض عنه؛ لأنّ عمل المتأخّرين لا يقاوم إعراض القدماء.

فالرواية غير معتبرة قطعاً، و لكنّها تدلّ على اعتصام الماء، و تضادّه مع القذارة إذا كان كثيراً، و أنّ كثرته تمنع عن تأثير الغير فيه، سواء كان الغير من الأعيان النجسة، أو المتنجّسات، أو وصف التغيّر القائم به، فإنّه إذا لاقاه النجس لا ينجس، و إذا تغيّر فهو ينجس؛ لما مضى، و إذا زال الوصف فبقاء النجاسة باعتبار تأثير ذلك الوصف فيه، و هو بكثرته يدافعها، و عليه تكون دلالته على المطلوب تامّة، من غير حاجة إلىٰ حمل مفاده على الأعمّ من الدفع و الرفع.

و عليه يمكن الاستدلال للمطلوب بالمآثير الواردة في الكرّ؛ و أنّه «لا ينجّسه شي ء» «3» فإنّه يشمل وصف التغيّر أيضاً، فتدبّر جيّداً.

و توهّم: أنّه يعتبر

نجاسته؛ لأجل بعض الاحتمالات السابقة، غير

______________________________

(1) عوالي اللآلي 1: 76/ 155، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 156

تامّ؛ لأنّ ما يمكن عرفاً أن يكون وجهاً لبقاء النجاسة، كونه متّصفاً بالوصف المذكور، فيكون الوجه تأثيره فيها دون غيره، فتأمّل.

و إن شئت قلت: إنّ مفاده أنّ الكرّ لا يتحمّل النجاسة، فيدفعها و يرفعها، و لا وجه لاختصاصه بالثاني؛ وهْماً أنّه مثل ما ورد في الكرّ، و لا لاختصاصه بالأوّل؛ ظنّاً أنّ نفي الحمل ظاهر في أنّه كان محمولًا عليه، و هو مقتضى القضيّة الشرطيّة الظاهرة في حصول الكرّ تدريجاً، فهو الأعمّ، و يكون مرجعاً بعد زوال التغيّر، و لا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

و في المسألة، و نسبة الرواية مع أخبارنا، و ما ورد في الكرّ، مباحث، و لكنّها غير راجعة إلى المحصّل بعد ضعف السند.

إمكان انجبار ضعف خبر العوالي

و قد يستظهر انجبار السند «1»؛ لدعوى ابن إدريس: «أنّها مجمع عليها بين المخالف و المؤالف» «2» و قد رواها الشيخ في «الخلاف» «3» و السيّد في بعض كتبه «4» علىٰ ما حكي، مع عمل مثل ابن إدريس بها في مسألة النجس القليل المتمّم كرّاً «5»، مع دعوى الإجماع علىٰ طهارته «6».

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 43.

(2) السرائر 1: 63.

(3) الخلاف 1: 174.

(4) الانتصار: 8.

(5) السرائر 1: 63 65.

(6) السرائر 1: 66.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 157

و يؤيّده دعوى «الجواهر» عليه الرحمة: «من أنّ إرسالها لا يمنع عن العمل بها؛ لأنّه قد رواها من لا طعن في روايته، كالمرتضىٰ و الشيخ،

مع عملهما بها، مع أنّ المرتضىٰ لا يعمل بالآحاد، و إذا ضمّ إليها ما في «المبسوط» من نسبتها إلى الأئمّة (عليهم السّلام)، يتمّ المقصود؛ و هو الوثوق بصدورها» «1».

أقول: الإجماعات المنقولة التي تكون المحصّلات علىٰ خلافها، لا ثمرة فيها، و احتمال كون الرواية مصطادة من أخبار الكرّ نقلًا بالمعنى؛ ظنا وحدة المؤدّىٰ، غير بعيد إنصافاً، كما عن الشهيد في بعض كتبه «2»، و خلوّ المجامع الأوّلية عنه يورث الوهن إجمالًا، و استبعاد العقل و العقلاء لطهارة النجس المتمّم كرّاً، توهين آخر عليه.

فدعوى الوثوق «3» مع ذهاب المشهور إلىٰ خلاف مؤدّاه، غير مسموعة جدّاً.

نعم، هي تامّة الدلالة مع قطع النظر عن فهم العرف، و عن المغروس في الأذهان في باب الطهارة، فلاحظ.

الاستدلال بصحيحة ابن بزيع على الطهارة

و ممّا استدلّ به علىٰ طهارة الكثير، إذا زال وصف تغيّره بنفسه،

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 152.

(2) لم نعثر عليه في هذه العجالة.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 157

(3) لاحظ جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 158

صحيحةُ ابن بَزيع، عن الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء قال (عليه السّلام)

ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح، و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «1».

وجه الاستدلال على المعروف بينهم، هو أنّ كلمة

حتّى

تعليليّة، فتفيد أنّ تمام الموضوع ذهاب الريح و حصول الطيب، و لا مدخليّة لشي ء آخر؛ قضاءً لحقّ العلّة في كونها تامّة.

و عليه يتعيّن كون التعليل الثاني، جواباً عن و هم السائل؛ و أنّه كيف تحصل الطهارة بمجرّد النزح

الموجب لزوال الوصف؟! فقال

لأنّه له مادّة

هي الدخيلة في زواله، فإذا زال فهو طاهر.

و توهّم: أنّ ذلك يختصّ بماء البئر «2» ممنوع؛ لأنّ كلمة حتّى تعليليّة، و هي تفيد أنّ العلّة ليست إلّا مدخولها، و هي سارية في جميع المياه، سواء كانت ذات مادّة، أم لم تكن؛ لأنّ المادّة لٰا دخالة لها في الحكم، بل هي الدخيلة في حدوث السبب التّامّ؛ و هو زوال الوصف، و عليه لا فرق بينها و بين ما أورث ذلك من الرياح الشديدة و غيرها.

أقول: قد يشكل ذلك؛ لما تقرّر من أنّ الأصل في تلك الكلمة، أن تكون للغاية، و لا سيّما فيما أمكن استمرار ما قبلها بدون ما بعدها، كما نحن فيه.

و فيه: أنّ مدخول «حتّى» قد يكون علّة غائيّة لما قبلها، و قد يكون

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 110.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 159

غير دخيل في الحكم السابق، كما في مثل: «سر من البصرة حتّى الكوفة» فإنّ «حتّى» هنا بمعنى «إلىٰ» و لا دخالة للكوفة في موضوع الحكم أصلًا؛ لأنّها خارجة عن المحدود.

و إذا علمت هذا تذكّرت، أنّ الأمر هنا ليس كما توهّمه الأصحاب؛ ضرورة أنّ مدخول

حتّى

علّة غائيّة للأمر بالنزح، و لكنّه يشكّ في أنّها علّة غائيّة تامّة، أم ناقصة؛ و يكون التعليل الثاني علّة أُخرى.

و يرفع الشكّ بلزوم حملها على التامّة؛ و أنّ ما هو تمام المطلوب من الأمر بالنزح تدريجاً، حصول مدخول هذه الكلمة، كما في قولنا: «ليكرم زيد حتّى يكرمك» فإنّه ظاهر في أنّ العلّة الغائيّة للأمر بالإكرام و إبقائه و

استمراره، حصول إكرامه إيّاك، فإذا أكرمك يتمّ المطلوب، و يعلم أنّ الأمر الآخر ليس دخيلًا.

و هذا بلا فرق بين أن يكون نفس حصول الطيب و ذهاب الريح- المستلزم لحصول الريح الأصليّ، و صيرورة الماء صافياً هي الطهارة الشرعيّة، بعد كونها طهارة عرفيّة قطعاً، أو كان ذلك مستلزماً للطهارة الشرعيّة قهراً، مع أنّ الظاهر هو الأوّل، فكون جملة «فيطهر الماء» بعد قوله

يطيب

محذوفةً، غير موجّه جدّاً.

هذا مع قطع النظر عن كلمة

لأنّ له مادّة.

الاستظهار من تعليل الصحيحة

و أمّا إذا نظرنا إليها، فالإنصاف أنّ الظهور المذكور باقٍ على انعقاده؛

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 160

و ذلك لا لأجل أنّ هذه الجملة تعليل لأمر عرفيّ، بل هي تعليل لأمر شرعيّ، و هو ثبوت الاعتصام لماء البئر الذي يكون قليلًا نوعاً. وجه الاستظهار معلوم بعد كون الجملة الابتدائيّة حكماً شرعيّاً، و الجملة الثانية من توابعها، و الثالثةِ الجملة الاستثنائيّة، و هي من متعلّقاتها، و الجملةِ الرابعة من متعلّقات الثالثة، فلا وجه لكون النظر في التعليل إلىٰ الأمر المذكور تبعاً.

فلو ورد: «أكرم زيداً يوم الجمعة، إمام الأمير في السوق، حتّى إذا أهانك؛ لأنّه صديقي» فإنّ التعليل ظاهر في إيجاب الإكرام، و لا سيّما بعد رجوع الضمائر من الأوّل إلى الآخر إلى البئر، و خصوصاً بعد تأبّي مدخول

حتّى

عن التعليل.

بل لو قلنا: بأنّ نفس صيرورة الماء صافياً، هي الطهارة العرفيّة الممضاة، فتكون شرعيّة، كما أُشير إليه، فحينئذٍ رجوع التعليل إليه يكون أبعد.

و في النتيجة يثبت الفرق بين ما كان الطهارة الشرعيّة لازمها، أو كانت هي هي، و قد علمت أنّ ما هو الأوفق بذوق العرف هو الثاني، فيتعيّن رجوع العلّة إلى الصدر، و يعلم أنّ المطلوب يتمّ و إن لم تكن

العلّة تعليلًا لأمر عرفيّ، خلافاً لما يظهر من القوم رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و ما قد يقال من: أنّ مفاد الصحيحة شرطيّة زوال الوصف، و علّية المادّة للطهارة معاً، و أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين كون مدخول حتّى علّة غائيّة من الأمر بالنزح، و كونِ المادّة دخيلة في حصول المطلوب، غير قابل للتصديق، و تطبيق فتوى المشهور على الصحيحة، غير كونها مقيّدة فتواهم حسب الفهم العرفيّ و الذوق و الاعتبار، فلا الاتصال شرط،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 161

و لا الامتزاج، بل الأمر دائر بين كون زوال الوصف كافياً، و بين الاستهلاك.

و توهّم أخصّية الصحيحة من المدّعىٰ، و عدمِ طهارة الماء الراكد بزوال وصف التغيّر- كما في تقريرات الوالد المحقّق- مدّ ظلّه «1» غير تامّ؛ لأنّ خصوصيّة النزح ملغاة، و دخالةَ المادّة في حصول الطيب- بناءً علىٰ كونها علّة عرفيّة ممنوعة، بل المدار علىٰ رجوع الماء إلى الخلقة الأصليّة و الطينة الصافية و الطيب الأصليّ، و ذلك بأيّ شي ء حصل، فافهم و تأمّل.

استدلال الوالد المحقّق ببعض الأخبار و إيراده عليها

و ممّا استدلّ به الوالد المحقّق- مدّ ظلّه صحيحة حَريز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب .. «2».

و قضيّة هذا العموم، أنّ المدار علىٰ الغلبة، سواء كانت قبل التغيّر، أو بعده.

و أورد- مدّ ظلّه عليه: أنّ ظاهرها أنّ المدار علىٰ غلبة الماء بما هو الماء، لا الأمر الآخر كالرياح، و هذا يصدق في الصورة الأُولىٰ، دون الثانية «3».

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 46 (مخطوط).

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

(3) الطهارة

(تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 44 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 162

و مثلها رواية عبد اللّٰه بن سِنان الماضية قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة. فقال

إن كان الماء قاهراً و لا توجد منه الريح فتوضّأ «1»

استظهاراً و جواباً.

و هكذا رواية الفضيل عنه (عليه السّلام) قال

لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول «2».

و موثّقة أبي بصير عنه (عليه السّلام) قال

إذا كان النتن الغالب علىٰ الماء، فلا تتوضّأ، و لا تشرب «3».

و الأخير أصرح في وجه؛ لأنّه ظاهر في أنّ المدار علىٰ كون النتن غالباً، و إذا زال وصف الإنتان فيزول الحكم عرفاً؛ لظهوره في أنّه تمام المناط.

و أورد عليه: أنّه يحتمل قويّاً كونه كذلك حدوثاً، لا بقاءً «4».

دلالة الأخبار السابقة علىٰ كفاية التغيّر

أقول: الحقّ أنّ هذه الأخبار تدلّ علىٰ المطلوب؛ و ذلك لوجهين.

الأوّل: أنّ الماء إذا كان قابلًا لتأثير الجيفة فيه، و منع عنه الرياح فلم يغلب عليه ريح الجيفة، يكون طاهراً بلا شبهة؛ بمقتضىٰ فهم العرف

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 148، الهامش 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

(3) تهذيب الأحكام 1: 216/ 624، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 6.

(4) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 45 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 163

من هذه المآثير، مع أنّ لازم ما أفاده نجاسته إن أخذنا بالمفهوم، أو عدم شمولها له إن طرحناه.

الثاني: الظاهر أنّ المقصود من غلبة الريح علىٰ الجيفة، أن لا يكون الماء متعفّناً بها، و

يكون صافياً و خالصاً، و ليس مفهوم الغلبة فيه الخصوصيّة، و لو اشترط أن يكون الماء بما هو الماء غالباً، يلزم خروج جميع المياه عن مفاد الروايات؛ لأنّ الماء يغلب غالباً بضميمة بعض الخصوصيّات الموجودة فيه، كالغلظة و البرودة و اللّون و غيرها، و قلّما يتّفق غلبته بطبيعته الصافية و الخالصة.

و بالجملة: العرف يستفيد من هذه التعابير، أنّ تمام الملاك و المناط كون النتن غالباً، و قضيّة مفهوم الشرط و القيد طهارته، مع أنّه لا حاجة إليه؛ لفهم العرف ذلك من مناسبات الحكم و الموضوع.

فتحصّل إلىٰ هنا: أنّ مقتضى النصوص و الاعتبار، كفاية زوال وصف التغيّر في الطهارة، وفاقاً لجمع مضى ذكرهم.

البحث الثالث: في كفاية مجرّد الاتصال
اشارة

لو سلّمنا قصور الأدلّة عن إثبات حكم الماء بعد زوال تغيّره، أو فرضنا تماميّة دلالة صحيحة ابن بَزيع علىٰ أنّه لا يطهر بمجرّد زوال الوصف، فهل يكفي مجرّد الاتصال، كما هو مختار جمع من الفقهاء «1»، أو لا بدّ من الامتزاج،

______________________________

(1) نهاية الإحكام 1: 232، جامع المقاصد 1: 135 136، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 15، مقابس الأنوار: 82/ السطر 12، العروة الوثقىٰ 1: 43، فصل ماء البئر، المسألة 2، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 310.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 164

كما اختاره جماعة من المتأخّرين «1»، تبعاً للمحقّق في «المعتبر» «2»؟

مقتضى الأصل العملي في المقام

و قبل الخوض في أدلّة الطرفين، لا بدّ من الإشارة إلىٰ مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ، و ذلك هو النجاسة للاستصحاب، فكما أنّ الاستصحاب يقضي بنجاسته بعد زوال الوصف و قبل الاتصال، كذلك قضيّته نجاسته إلىٰ حال الاتصال و بعده، بل و بعد الامتزاج إذا لم يكن مستلزماً لعدم موضوعه بالاستهلاك و نحوه.

و توهّم: أنّه من الشكّ في المقتضي أوّلًا، و يعارضه الأصل العدم الأزليّ ثانياً «3»، ممنوع صغرىً و كبرى، و التفصيل في الأُصول.

و دعوىٰ: أنّ موضوع الاستصحاب هو «الماء المتغيّر» و هو منتفٍ «4»، غير مسموعة، و لو سلّمنا ذلك فهو لا يضرّ بجريانه؛ لأنّه بعد الانطباق علىٰ

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 16، الطهارة، الشيخ الأنصاري: 1: 139، مصباح الفقيه، الطهارة: 20/ السطر 8، دليل العروة الوثقىٰ 1: 50، تحرير الوسيلة 1: 10.

(2) المعتبر 1: 50.

(3) مدارك الأحكام 1: 46 47، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 88.

(4) لاحظ مصباح الفقيه، الطهارة: 25/ السطر الأخير، دليل العروة الوثقىٰ 1: 54، دروس في فقه الشيعة، القسم

الثاني من المجلّد الأوّل: 88، مهذّب الأحكام 1: 150.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 165

الخارج، يتعلّق اليقين بالموضوع الخارجيّ، من غير لحاظ وصف التغيّر، و عندئذٍ يكون باقياً.

نعم، لو انحصر جريان الاستصحاب بمٰا إذا تعلّق اليقين بموضوع الدليل الاجتهاديّ، كان لمنعه وجه، و تكون قاعدة الطهارة حينئذٍ محكّمة.

أدلّة كفاية الاتصال
اشارة

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ ما يمكن أن يوجّه به القول بكفاية الاتصال أُمور:

أحدها: الإجماعات في كلمات جماعة، حتّى قيل: «بعدم الخلاف في المسألة إلىٰ زمان المعتبر» «1» و هي غير نافعة بعد كون مستندهم المآثير البالغة إلينا.

ثانيها: أنّ الماء بعد الاتصال يكون واحداً، و هو محكوم بالطهارة أو النجاسة، لا سبيل إلىٰ الثاني، فتعيّن الأوّل «2».

ثالثها: ما في المرسلة المرويّة عن «المختلف» عن ابن أبي عقيل (في كلام طويل قال في ذيله:) فأبصرني يوماً أبو جعفر (عليه السّلام) فقال

إنّ هذا لا يصيب شيئاً إلّا طهّره، فلا تعد منه غسلًا «3».

و المشار إليه علىٰ ما في كلام ابن أبي عقيل، ليس غدير الماء،

______________________________

(1) لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.

(2) مقابس الأنوار: 82/ السطر 14.

(3) لاحظ مختلف الشيعة: 3/ السطر 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 166

و لعلّه الماء الموجود في الكوز كما في كلامه، فراجع.

فالاستدلال به كما عن بعض المعاصرين «1»؛ للغفلة عن حقيقة الحال، مع أنّ مجرّد الإصابة لو كان كافياً، لكان ذلك مجزياً في الجامدات.

و دعوىٰ اختلاف فهم العرف بين المائع و الجامد، غير مسموعة؛ لما عرفت أنّ العرف لا يجد طريقاً إلىٰ طهارة الماء إلّا بالوجه الماضي تفصيله و تحقيقه «2».

و منه يعلم ما في الاستدلال «3» بقوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «4».

رابعها: معتبر حنّان،

قال: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّي أدخل الحمّام في السحر، و فيه الجنب و غير ذلك، فأقوم فاغتسل، فينضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم.

قال

أ ليس هو جارٍ؟.

قلت: بلىٰ.

قال

لا بأس «5».

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 229.

(2) تقدّم في الصفحة 59 60.

(3) مهذّب الأحكام 1: 228.

(4) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(5) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 167

فإنّها بإطلاقها تشمل حالتي الدفع و الرفع.

و فيه: أنّها بإطلاقها تشمل حالة التغيّر أيضاً، فلا بدّ من التقييد بتلك المآثير، و ما فيه واضح؛ لبعد أفهام الناس من ذلك الإطلاق أوّلًا.

و لأنّ للحمّام خصوصيّة، حتّى قيل بالعفو في ماء الحمّام، لا الطهارة؛ لاحتياج الناس فيه إلىٰ التوسعة ثانياً.

و لأنّ فرض مسألتنا في الحياض الصغار، ممّا لا يمكن عادة، و كون المادّة في الحمّام موجبة لرفع نجاسة ما في الحياض، لا يلازم رافعيّتها للماء الزائل عنه وصف التغيّر ثالثاً.

و لأنّ قوله (عليه السّلام)

أ ليس هو جار؟

لا يفيد كونه إلّا كالجاري و بمنزلته، فهل هو جارٍ في جميع الأحكام، أو يختصّ بدفع النجاسة دون رفعها؟

فبالجملة: لا يستفاد- إنصافاً من المآثير في ماء الحمّام، أنّ الاتصال سبب الطهارة، سواء تمسّكوا بما مرّ، أو بقوله (عليه السّلام)

ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً «1»

فإنّ كيفيّة التطهير غير معلوم منها، كما لا يخفىٰ.

خامسها: النبويّ المزبور سابقاً

الماء إذا بلغ كرّاً لا يحمل خبثاً «2».

فإنّ المقدار من الزائل عنه وصف النجاسة، إذا اتصل بالكرّ، يصير منطبقاً عليه عنوان الحديث، فيكون

طاهراً، و بعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب في غير المفروض.

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) تقدّم في الصفحة 154.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 168

و فيه:- بعد الغضّ عن جهات عديدة أنّ الاتصال لا يستلزم الطهارة، بل هو محقّق عنوانٍ آخر و هو «الكرّ» فعليه لا وجه لإسراء الحكم منه إلىٰ موقف آخر، و لا سيّما بعد حكاية القول بالتفصيل بين الجاري و الحمّام و بين الكرّ؛ باعتبار الامتزاج في الأوّلين، دون الأخير، كما حكي عكسه عن «الجواهر» «1» فإنّه (قدّس سرّه) مال إلىٰ هذا التفصيل، و العلّامة في بعض كتبه و «الموجز» و «شرحه» مالوا إلىٰ الأوّل «2»، فلا بأس حينئذٍ بالالتزام بكفاية الاتصال في بعض المياه، دون البعض.

و لكنّه غير تامّ؛ لعدم تماميّة سند النبويّ، كما مضى تفصيله.

سادسها: صحيحة ابن بَزيع «3» مع كثرة المحتملات فيها ظاهرة في أنّها في مقام توسعة ماء البئر؛ و نفي الضيق عنه، و من آثاره عدم انفعاله و اعتصامه، و لكن يحصل فيه الضيق إذا تغيّر، و هذا الفساد يرتفع بعد زوال الوصف بالنزح بالمادّة، و تلك المادّة ليست أجنبيّة عنه، بل هي دخيلة فيه، و أوّل مراتب الدخالة هو الاتصال.

و توهّم: أنّ النزح له الخصوصيّة «4» فاسد؛ لأنّ العرف لا يجد إلّا دخالته في رفع الوصف، فلو ارتفع وصف التغيّر من قبل ذاته، أو غير ذلك، أو لوجود شي ء فيه كالعطر و نحوه، فقد حصل ما هو الشرط في حصول الطهارة و التوسعة الثابتة لماء البئر في صدر الحديث.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 103 و 149، مصباح الفقيه، الطهارة: 22/ السطر 30.

(2) منتهى

المطلب 1: 6/ السطر 30.

(3) تقدّمت في الصفحة 137.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 97.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 169

و دعوىٰ: أنّ المتعارف في ماء البئر هو المزج قهراً؛ لأنّ إخراج الماء و حصول المادّة فيه، يستلزم ذلك، فلا يكفي الاتصال «1»، غير مسموعة؛ لأنّ ظاهر الحديث عدم دخالة شي ء آخر وراء زوال وصف التغيّر و المادّة.

و هل المادّة الدخيلة التي هي العلّة، لا بدّ و أن تكون ممازجة مع ماء البئر، أو يكفي الاتصال؟

الظاهر هو الثاني؛ لأنّ من الممكن زوال وصف التغيّر بالنزح الأوّل، فلا يحصل المزج أصلًا، و لأنّ علّية المادّة لا تعقل إلّا بكونها مرتبطة مع ماء البئر، و أوّل مراتبها هو الاتصال، فدخالتها زائدة عليه ممنوعة.

فما أفاده الفقيه الهمدانيّ «2» و غيره «3»: «من إمكان اتكاء المتكلّم علىٰ القيد الحاصل قهراً و هو المزج» غير تامّ؛ لظهور الرواية في أنّ العلّة الوحيدة بعد حصول الغاية، هي المادّة الموجودة لماء البئر.

و ما قاله البهائيّ في «الحبل المتين»: «من إجمال الرواية» «4» غير قابل للتصديق؛ لظهورها في مقام التشريع، و إلّا يلزم كذب قوله (عليه السّلام)

ماء البئر واسع

لأنّ من البئر ما ليس كذلك.

نعم، دعوى قصور الفهم عن تعيين المعلول لقوله (عليه السّلام)

لأنّ له مادّة

ليست بعيدة، إلّا أنّ العرف بعد التوجّه إلىٰ أنّ الجملة الأخيرة سيقت لإرجاع الماء إلى التوسعة الأوّلية و الطهارة، يطمئنّ بأنّه علّة

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 12/ السطر 28.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 12/ السطر 32.

(3) لاحظ الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 16 (مخطوط).

(4) الحبل المتين: 118/ السطر 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 170

لحصول الطهارة و التوسعة، فيتمّ المطلوب.

الخدشة في صحيحة ابن بزيع و جوابها

أقول: هي العمدة في

الباب، و لكنّها غير كافية للخروج عن مفاد الاستصحاب؛ و ذلك لأنّ الأمر بالنزح و إن لم يكن نفسيّاً، إلّا أنّه إذا احتمل الخصوصيّة المتعارفة الغالبة- بل الكلّية الملازمة معه لا يرفع اليد عنه؛ و ذلك لأجل أنّ النزح لا خصوصيّة له، في مقابل ما لو أُخرج ماء البئر بغير النزح.

و أمّا حصول المزج قهراً معه نوعاً- بل كلّا فممّا لا يكاد ينكر، و لا معنىٰ لإلغاء النزح من تلك الجهة، بعد احتمال كون المتكلّم ناظراً إليه، فكما يستفاد دخالة زوال وصف التغيّر قبل التعليل من مدخول

حتّى

و نفسها، كذلك يستفاد دخالة المزج من «النزح» و لكنّه بعد ذلك يطهر لما فيه من المادّة، فتأمّل.

و فيه: أنّه بناءً عليه لا وجه للتعليل؛ لأنّه تكرار ما حصل، فلو كان المزج دخيلًا، و هو حاصل بالنزح، يصير التعليل بعد ذلك بشيعاً كما لا يخفىٰ، بخلاف ما لو كان المقصود زوال وصف التغيّر، فإنّه بعد ذلك يصحّ أن يعلل حصول الطهارة بالمادّة المتّصلة، فالمزج و إن يحصل قهراً، و لكنّه غير دخيل فقهاً.

فبالجملة: بعد ما مرّ منّا في مفاد مدخول

حتّى «1»

تبيّن أنّ التعليل

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 158 159.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 171

مربوط بصدر الرواية قطعاً.

أدلّة القول باعتبار الامتزاج

و ما يمكن أن يستدلّ به للقائلين بالامتزاج أيضاً أُمور:

الأوّل: إذا خلط بالنجس ماء طاهر، فتحصل الوحدة، و هي تستلزم وحدة الحكم، و هي الطهارة قطعاً؛ لما لا يصير الكرّ الملقى نجساً.

و فيه: أنّ ذلك بعينه يأتي في الاتصال كما مضى «1»؛ و أنّه إمّا يحصل المزج، أو لا يحصل، فعلى الثاني فهما ماءان ممتازان لهما حكمان، و إن حصل الامتزاج بورود الماء الطاهر في الماء النجس

و تفصله به، فإنّه حينئذٍ ينجس؛ لصيرورته أقلّ من الكرّ، مع ملاقاته للنجس الموجود في جوفه.

فعليه ينقلب الدليل عليهم، و يلزم عليهم اعتبار الأزيد من الكرّ، أو عدم كفاية المزج إلّا بماء له المادّة.

الثاني: ما ورد من أنّ «كلّ شي ء يراه المطر فقد طهر» و «ما أصاب هذا شيئاً إلّا و قد طهّره» «2».

و فيه: أنّ مقتضاهما إمّا كفاية الاتصال، و إمّا لزوم الاستهلاك، و هو الظاهر منه؛ لما مضى أنّ على الأوّل يلزم كفايته في الجامد أيضاً، فهما يدلّان علىٰ ما هو الأقرب عندنا؛ من عدم قبول الماء النجس الطهارة إلّا بانعدام الموضوع.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 165.

(2) وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 172

الثالث: ما ورد في «الوسائل»: «إنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهِّر بعضه بعضاً» «1».

و هذا كما يدلّ علىٰ قبول الماء الطهارة، يدلّ علىٰ كفاية الاتصال، و الامتزاجُ القهريّ لا يستلزم شرطيّته، كما لا يخفىٰ.

مع أنّ الظاهر جمعاً بين الأخبار كونه في مقام تقوّي بعض الماء بالبعض في الاعتصام و دفع النجاسة، لا رفعها.

الرابع: صحيحة ابن بَزيع، فإنّها إذا لم تكن مجملة كما عن البهائيّ (رحمه اللّٰه) «2»، و لا دالّة علىٰ كفاية الاتصال، تدلّ علىٰ شرطيّة الامتزاج؛ إمّا لأنّ اللّازم العاديّ من موردها ذلك، فلا إطلاق للتعليل؛ لصحّة اتكاء المتكلّم على القرينة الحاليّة.

و إمّا لاستلزام النزح المأمور به ذلك، فيكون كالقرينة اللفظيّة على التعليل المذكور.

هذا مع مراعاة موردها؛ من فرض البئر الموجود فيه الماء بمقدار إذا ينزح منه الماء المتغيّر، يبقى الماء بمقدار يصحّ أن يقال: «حتّى يطيب، و يذهب ريحه» و إلّا فلو كان الماء الخارج

جميع ماء البئر، فإنّه يكون خارجاً عن مفروضها.

و هكذا لو كان المقدار الباقي من المتغيّر، مستهلكاً في الماء الوارد أو الباقي الطاهر، فعندئذٍ يعلم قبول الماء النجس الطهارةَ، و يعلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) الحبل المتين: 118/ السطر 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 173

شرطيّة الامتزاج.

و قد حكي عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: «أنّه لولا هذه الصحيحة، كان نفي قابليّة المياه للطهارة متعيّناً» «1».

أقول: مع غمض النظر عمّا أسّسناه في مفاد مدخول

حتّى

و رجوع التعليل إلى الصدر «2»، لا يمكن الركون إلىٰ ما أفاده القوم لاعتبار المزج؛ ضرورة أنّ الاتكاء على القرينة الحاليّة، أو كون المزج لازماً كلّياً أو نوعيّاً، غير ممكن إلّا إذا ثبتت لنا تلك النوعيّة، و هي في مورد الشكّ؛ لصحّة دعوى أنّ مياه الآبار في زمن صدور الرواية ليست كثيرة؛ بحيث تبقىٰ إلىٰ حدّ المزج، لا الاستهلاك.

و دعوىٰ: أنّ صدق قوله (عليه السّلام): «حتّى يذهب ريحه، و يطيب طعمه» «3» يتوقّف علىٰ كون الماء الباقي بعد زوال تغيّره، بمقدار معتنى به؛ بحيث لا يحصل الاستهلاك له بعد ورود الماء الطاهر في البئر، غير مسموعة؛ لأنّ الوحدة الملحوظة هنا، ليست وحدة شخصيّة عقليّة، بل هي وحدة الماء عرفاً، و لا شبهة في أنّ العرف بعد النزح يقول: «بأنّ ماء البئر قد طاب طعمه» من غير أن يتفحّص عن حال الماء الباقي؛ و أنّه هل يكون بمقدار يصحّ أن يعبّر عنه بذلك التعبير أم لا؟ بل بلا رويّة و انتظار ينادي بأعلى صوته: «أنّه قد راح ريح ماء البئر، و طاب طعمه».

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 33

(مخطوط).

(2) تقدّم في الصفحة 158 159 و 170.

(3) تقدّم في الصفحة 158.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 174

فعليه يمكن أن يكون أكثر الآبار في الأراضي الفاقدة للمياه، و النائية عن البحور، و الواقعة في البوادي و الصحور، من هذا القبيل، فلا امتزاج بالمعنى المعروف في كلماتهم المتأخّرة نوعاً، حتّى يستكشف الحكم.

ثمّ إنّ هذه الصحيحة، قاصرة عن إثبات طهارة الماء النجس بالمزج مع الكرّ أو اتصاله به قطعاً، و التجاوزُ عنه إلىٰ ما هو المعتصم، كالتجاوز عن علّية الإسكار إلىٰ ما يزيل العقل.

و دعوىٰ إلغاء الخصوصيّة عرفاً؛ لفهم العرف أنّ تمام العلّة هي ذلك، في غاية الوهن «1».

هذا مع أنّ لنا في الصحيحة شبهةً؛ لأنّها مورد إعراض المشهور، لدلالتها و صراحتها في عدم تنجّس ماء البئر، و المشهور بينهم إلىٰ عصر ابن الجهم و العلّامة، هي النجاسة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ فتواهم للجمع بين المآثير، و لا أقلّ من احتماله، فيشكّ في الإعراض، و قضيّة الصناعة عند الشكّ في الإعراض، حجّية الصحيحة، كما لا يخفى «2».

فتحصّل: أنّ الماء المتغيّر، إمّا يطهر بزوال وصف تغيّره، أو بانعدام موضوعه بالاستهلاك؛ قضاءً لحق الاستصحاب.

و ما اشتهر: «أنّ المعروف بين القدماء إلىٰ عصر المحقّق في

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 127.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 287.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 175

«المعتبر» هو كفاية الاتصال» «1» في غير محلّه؛ لأنّ ظاهر «المبسوط» «2» و «السرائر» «3» و «الوسيلة» «4» و كلّ من عبّر في متنه ب «تكاثر الماء الوارد و تدافعه» «5» إمّا شرطيّة الامتزاج، أو لزوم الاستهلاك، و لعلّ الثاني أقرب، كما مضى بعض المؤيّدات عليه «6»، فإنكار كفاية الاتصال و الامتزاج

ليس مخالفاً للإجماع المركّب، إلّا على بعض المحتملات في كلمات الأصحاب و متونهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 165.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) السرائر 1: 62 63.

(4) الوسيلة: 73.

(5) لاحظ المقنعة: 66، المراسم: 36، إصباح الشيعة، ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة 2: 3.

(6) تقدّم في الصفحة 150 151.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 177

المبحث الرابع في الماء الجاري

اشارة

و الكلام حوله يقع في موقفين:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 179

الموقف الأوّل في موضوعه
اشارة

و قد ورد في السنّة «الماء الجاري» و يترتّب عليه الأحكام الخاصّة، من غير تعرّض منهم (عليهم السّلام) لمفهومه، و فيه الاحتمالات الكثيرة.

و لا شبهة في أنّ الجريان المطلق، الصادق علىٰ مثل ماء الإبريق، ليس مقصوداً، بل المشتقّ هنا مبدؤه الملكة و الصفة الثابتة المستقرّة، ك «التجارة» و «التاجر».

و كما أنّ «الجاري» لا يصدق بمجرّد تلبّس الماء بالجريان، كذلك يصدق و إن لم يكن الماء جارياً بالفعل؛ بشرط جريانه و سيلانه في برهة من الزمان، فهو مثل التاجر المحبوس الذي يصدق عليه العنوان المذكور، فالنابع غير السائل بنحو الإطلاق، ليس عرفاً جارياً قطعاً.

نعم، في الفرض المشار إليه، هو الجاري بلا شبهة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 180

فما أفاده القوم: «من الجريان الفعليّ» «1» شرط في الجملة، و ما نفاه الشهيد «2» و السبزواريّ «3» و غيرهما «4»، صحيح في الجملة، و لعلّهما أرادا إلحاق النابع غير السائل- بنحو كلّي بالجاري حكماً، أو استكشفا من الأدلّة اللفظيّة مناطاً أعم، فافهم.

و من العجيب، مراجعة جماعة من الأصحاب كالسيّد في «مفتاح الكرامة» إلى اللّغة في فهم المعنى المركّب «5»؛ و هو «الماء الجاري»!! مع أنّ المركّبات ليست ذات وضع علىٰ حِدة، و انصرافها إلىٰ موارد لا يورث الوضع التعيّني بلا شبهة، مع أنّ في بعض المآثير ورد: «أ ليس هو جارٍ؟» «6» من غير ذكر الموصوف.

فعليه يتعيّن الرجوع إلى العرف و اللّغة في فهم «الجاري» من غير إضافة إلى «الماء» ثمّ بعد الإضافة ربّما يستظهر منه المعنى الآخر، كما هو كذلك فيما نحن فيه؛ ضرورة أنّ «الجاري» ليس عنواناً مثل «التاجر» و

لكنّه بعد مراعاته مضافاً إلى «الماء» يعرف منه المعنى الأخصّ إنصافاً.

______________________________

(1) كشف اللّثام 1: 26/ السطر 25، جواهر الكلام 1: 72، العروة الوثقىٰ 1: 32، في المياه، فصل في الماء الجاري، وسيلة النجاة 1: 11.

(2) الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 6.

(3) ذخيرة المعاد: 116/ السطر 3.

(4) مستند الشيعة 1: 19.

(5) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 171، مفتاح الكرامة 1: 60/ السطر الأخير.

(6) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 181

فعلى ما تقرر إلىٰ هنا تبيّن: أنّ «الماء الجاري» ظاهر في الماء الذي فيه هذه الصفة علىٰ نعت الاستقرار في الجملة، فلا بدّ فيه من مبدأ و مادّة، تكون هي منشؤه و أساسه واصلة.

ما يتصوّر من أنحاء الجريان

و تلك المادّة و ذلك المبدأ التكويني بحسب التصوّر كثيرة؛ لأنّها:

تارة: تكون تحت الأرض.

و أُخرى: تكون علىٰ وجه الأرض.

و ثالثة: تكون في السماء.

فما كانت تحت الأرض:

تارة: تكون من قبيل النابع و الخارج بقوّة.

و أُخرى: تكون من قبيل الخزائن الموجودة فيه، و بعد حفر القنوات تجري و تظهر علىٰ وجه الأرض.

و ثالثة: تكون بنحو الرشح و التعرّق.

و رابعة: تكون من قبيل النضح، فيجمع الماء تحت الأرض يسيراً يسيراً، و يظهر بطريق القناة علىٰ وجه الأرض.

و ما كانت علىٰ وجه الأرض أيضاً، فيها بعض الاحتمالات الماضية، مثل كون المخزن في قُلَل الجبال، و الاحتمالات الأُخر مثل كونها الثلوج و (البروف) و أمثالهما.

و ما كانت في السماء كماء المطر، فإنّه كثيراً ما يكون مبدأ السيلان

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 182

و الجاري، إلّا أنّه غير دائم، ربّما لا يزداد على الساعتين، و لكنّه كلام آخر كما

لا يخفىٰ؛ ضرورة أنّ من الطائفة من اعتبر الدوام «1»، و منهم من لا يعتبره في حصول الماء الجاري «2».

الأقوال في موضوع الجاري

هذه عمدة المحتملات في المسألة، و فيها قولان، بل أقوال:

المنسوب إلى المشهور بل في «المدارك» و «الدلائل»: إجماع الأصحاب أنّ الجاري لا عن نبع، من أقسام الراكد «3».

و عن ابن أبي عقيل نفي اعتبار النبع «4»، و لعلّه يريد كفاية مطلق المادّة مع السيلان، و لكنّ في النسبة إشكالًا.

و ظاهر ما نسب إلى الوالد المحقّق- مدّ ظلّه كفاية الرشح، بل في كلامه كفاية تبدّل الأبخرة إلى الماء في صدق «الجاري» و لا حاجة إلىٰ وجود المخزن تحت الأرض في صدقه «5»، و إن كان ظاهر «النبع» الواقع في كلماتهم يوهمه، فتأمّل.

و الذي هو التحقيق: كفاية مطلق المادّة، و لا دليل على الخصوصيّة،

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة 1: 119، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 113.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 250.

(3) مدارك الأحكام 1: 28، لاحظ مفتاح الكرامة 1: 61.

(4) لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 10، جامع المقاصد 1: 110، لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 91.

(5) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 4 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 183

كيف و أكثر الأنهار الكبيرة كالفرات و دجلة و نهر الأُردن و غيرها من الثلوج المتمركزة في قُلَل الجبال؟! بل العيون كلّها منها، و تزداد و تنقص بها، و ربّما تجفّ؛ لعدم نزول الأمطار و (البروف).

و لكن كفاية المادّة الحاصلة من غير الطريق الطبيعيّ كمخازن المياه في المدائن ممنوعة جدّاً، كما أنّ النبع الحاصل بحيلة الإنسان غير كافٍ؛ ضرورة أنّه لا يعدّ «جارياً» أو يكون

الجاري

في الأدلّة منصرفاً عن

هذه الفروض، و منصرفاً إلى الصور التي تجري المياه و من ورائها الموادّ التي هي أساسها، و تلك الموادّ تكون طبيعيّة، لا جعليّة و صناعيّة، فلو فرضنا أنّها «الماء الجاري» عرفاً، و لكنّها منصرف عنها المآثير و الأخبار، كما لا يخفى.

فتحصّل: شرطيّة السيلان في الجملة، دون النبعان، و يكفي مطلق المادّة، و ما أفاده المشهور: «من أنّه النابع السائل» غير تامّ؛ لنقضه بالنابع المصنوع غير الطبيعيّ، لعدم اطراد سائر الموادّ التي يصدق معها «الجاري» قطعاً.

و إن شئت قلت: «الجاري» في المآثير، عنوان يشير إلىٰ ما يرتكز عند العرف و العقلاء، و لا حاجة إلىٰ تحديد الفقهاء، بل في ذلك إغراء بالجهل، و إلقاء في التهلكة؛ لأنّه من الموضوعات العرفيّة الواضحة عندهم، فكما أنّهم (عليهم السّلام) لا يعرّفون الموضوعات العرفيّة؛ لأنّ العرف هو السند فيها، فكذلك على الفقهاء العظام ذلك.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 184

بعض شرائط صدق «الجاري» و اعتصامه
اشارة

بقي الكلام حول بعض القيود الأُخر الدخيلة في صدق «الجاري» أو في الموضوع المذكور في المآثير المحتمل دخالتها فيه.

و غير خفيّ: أنّ كثيراً ما لا تكون النسبة بين ما هو مفاد اللّغة، و ما هو الموضوع في الدليل التساوي؛ لأنّ من الممكن كون الانصراف إلىٰ صنف خاصّ مورد نظر المتكلّم في قانونه.

الشرط الأوّل دوام سيلان المادّة

فعليه يقال: إنّ من الشرائط و القيود، كونَ السيلان و مادّته علىٰ وصف الدوام؛ بمعنى أنّه لو حدثت العيون، و كانت مدّة عمرها ساعة أو ساعتين، و كان ذلك معلوماً من أوّل الأمر عند العرف و أهالي البلد، فإنّه ماء نابع سيّال، و لكنّه إمّا ليس ب «الماء الجاري» إلّا مسامحة أو لو كان يكون خارجاً عمّا هو الموضوع في الأدلّة؛ للانصراف عنها.

و إلى ذلك يرجع ما أفاده الشهيد «1»، و تبعه جملة من المتأخّرين «2»، و ما وقع من البحث حول كلامهم من اللّغو المنهيّ، بعد عدم لزومه، و وجوب الرجوع إلىٰ ما هو قابل للتصديق، فلا تغفل.

و ما عن «الحدائق»: «أنّ الدوام لو كان كذا فهو باطل، و لو كان كذا

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة 1: 119.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 34، فصل في الماء الجاري المسألة 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 185

فهو ممّا لا دليل عليه» «1» خالٍ عن التحصيل؛ فإنّه يراد به الدوام العرفيّ، قبال المثال المشار إليه، و دليله الاستظهار من الإطلاقات العرفيّة.

و لعمري، إنّه بلا شبهة، خارج عن مصبّ المآثير في المسألة، فالقيد المذكور لازم قطعاً.

الشرط الثاني اتصال الجاري بمادّته

ثمّ إنّ ظاهرهم اشتراط الاتصال بالمادّة في صدق «الجاري» أو في اعتصامه، مستدلّين ب «اقتضاء الفهم العرفيّ» و «الاغتراس الذهنيّ» و «المرتكز العقلائيّ» على اختلاف تعابيرهم، بل و هو قضيّة صحيحة ابن بَزيع.

و المراد من «الاتصال» هو الربط الخارجيّ، و الالتصاق في الوجود.

و فيه: أنّ جميع ما ذكر يقتضي خلافه؛ لأنّ العرف لا يجد خصوصيّة لهذا النحو من الوصل.

نعم، لا بدّ من وجود الربط بينهما، و أن تكون المادّة الخارجيّة، مبدأَ تكوّن الماء الساري و السائل؛ بمعنى كون اعتصامه منها، و هذا

لا يقتضي أكثر من عدم البينونة بين المادّة و الماء.

و بعبارة اخرىٰ: لا بدّ من كون الماء الجاري، ذا مبدءٍ مكوّنٍ طبيعيّ مثلًا، من غير الشرط الآخر.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 186

و توهّم اقتضاء مورد الصحيحة ذلك الاشتراط «1»، فاسد جدّاً؛ لأعمّيّته منه كما لا يخفى.

بل إعمال التعبّد في مباحث الطهارة و النجاسة، يحتاج إلىٰ دليل نصّ فيه، فما اشتهر بين المتأخّرين؛ من شرطيّة الاتصال الحقيقيّ «2»، غير مبرهن.

نعم، المياه مختلفة، فمنها: ما هي طبعها الاتصال بين المادّة و الماء، كالعيون و النوابع، و منها: ما ليس كذلك، فما كان من قبيل الأوّل فالانفعال ربّما يضرّ، بخلاف الثاني.

تنبيه: في أنّ المدار على المادّة لا «الجريان»

يمكن دعوى: أنّ عنوان «الماء الجاري» ليس له الموضوعيّة، بل المدار علىٰ كون الماء ذا مادّة؛ فإنّ ما له المادّة سواء كان جارياً، أو غير جارٍ معتصم بمقتضىٰ معتبرة ابن بَزيع «3»، و العلّة فيها مخصِّصة و معمِّمة؛ فالإطالة حول القيود المعتبرة في صدق «الجاري» من الأمر الباطل.

أقول: إذا كان التعليل الوارد في الصحيحة، مرتبطاً بالجملة

______________________________

(1) لاحظ مهذّب الأحكام 1: 159.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 33، المسألة 3، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 137، دليل العروة الوثقىٰ 1: 71، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 114، مهذّب الأحكام 1: 164.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 104.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 187

الأخيرة علىٰ ما عرفت تفصيله «1» فإنّه حينئذٍ يتمّ الكلام السابق؛ لأنّ كون الماء ذا مادّة إذا كان يَطهر، و تكون المادّة موجبة لرفع النجاسة، فهي علّة للاعتصام، و دفعُ النجاسة بالأولويّة القطعيّة و مساعدة العرف قطعاً.

و أمّا إذا كان علّة

لصدر الرواية، فهي لا تفيد كونه موجباً لرفع النجاسة إذا غسل فيه مرّة واحدة، فعليه لا بدّ من فهم معنى «الجاري» لاختصاصه بعدم الانفعال، و بكونه يورث طهارة ملاقيه بملاقاة واحدة، فافهم و تدبّر جيّداً.

ذنابة: في أنّ الجاري مقابل للراكد

يمكن استظهار أنّ «الماء الجاري» في الروايات، مقابل ما في «المِرْكَن» كما في صحيحة ابن مسلم «2».

و الوجه: أنّ الماء الراكد لما فيه الركود، كأنّه لا يقلع النجاسة الموجودة في الجسم، بخلاف السائل، فإنّه لمكان ما فيه من الحركة و السيلان، يقلع القذارة، و لتلك النكتة ربّما كان التعدّد معتبراً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 159 160.

(2) عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال: اغسله في المركن مرّتين، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة.

تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 188

الموقف الثاني: في حكمه
اشارة

لا خلاف في أنّه لا ينجس إذا كان بمقدار الكرّ، و ما يمكن أن يعدّ وجهاً له غير وجيه، كما أنّ المشهور نجاسته بالتغيّر، حسب ما مرّ تفصيله «1».

و أمّا إذا كان أقلّ من الكرّ، فالذي هو المشهور، و عليه الإجماعات الكثيرة المدّعاة، اعتصامه و عدم انفعاله «2»، خلافاً للسيّد في «الجمل» «3» و العلّامةِ في كتبه «4»، إلّا فيما يظهر من «الإرشاد» «5» و لجماعة من الطبقة المتأخّرة «6».

و المسألة ذات الرواية، فلا كاشف عمّا عداها، خصوصاً بعد اقتضاء إطلاق كلمات جمع من القدماء عدمَ الشرطيّة «7»، و إن صرّح به مثل ابن البرّاج «8» و أمثاله «9».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 115 و ما بعدها.

(2) الخلاف 1: 195، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 29، المعتبر 1: 41، جامع المقاصد 1: 111، جواهر الكلام 1: 85.

(3) رسائل الشريف المرتضى 3: 22.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 3/ السطر 23، تحرير الأحكام: 4/ السطر 23، منتهى المطلب 1: 6/ السطر 12،

نهاية الإحكام 1: 228.

(5) إرشاد الأذهان 1: 235.

(6) التنقيح الرائع 1: 38، مسالك الأفهام 1: 1/ السطر 25، الحدائق الناضرة 1: 187.

(7) المراسم: 37، الوسيلة: 72.

(8) لاحظ جواهر الكلام 1: 85.

(9) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 28.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 189

أدلّة عدم اشتراط كرّية الجاري

و ما يمكن أن يوجّه به الرأي المشهور، طوائف من المآثير:

الطائفة الأُولىٰ: الروايات المتكفّلة لطهارة الماء

و أنّه لا ينجّسه شي ء إلّا غلبة النجاسة و التغيّر بها «1»؛ فإنّ قضيّة إطلاقها، و مفهومِ انحصار النجاسة بالغلبة و التغيّر، عدم اعتبار الكرّية في مطلق المياه، خرج منها القليل الراكد.

أقول: هي مع قطع النظر عمّا في سند بعضها، و اختصاصِ مورد جمع منها بالغدير و النقيع؛ و هما الراكد، و انصراف الآخر إلىٰ مثلها؛ لاختصاص محالّها بالمياه الراكدة، و صحّةِ الاتكاء علىٰ بعض القرائن الحاليّة في مقام تأدية الحكم، أنّ موضوعها ليس الماء بطبيعته الصادقة على القليل و الكثير، حتّى يشمل الجزء العقليّ بالضرورة، بل

الماء

فيها بمناسبة عروض التغيّر عليه؛ و أنّه من عوارض الماء الكثير متعارفاً هو الماء الكثير، فتكون هذه الطائفة مهملة بالنسبة إلى الكثرة و القلّة.

بل الأخبار هنا ليست في مقام بيان الماء نوعاً و صنفاً، بل هي ناظرة إلىٰ نجاسته و كيفيّة تأثير النجس في الماء، فالتمسّك بهذه الطائفة غير تامّ جدّاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 135 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9، و الباب 3، الحديث 1 و 3 و 4 و 6 و 7 و 11 و 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 190

فبالجملة: إثبات الإطلاق لهذه الطائفة في غاية الإشكال؛ لأنّ الملحوظ في موضوعها الماء الكثير مع كونه من حيث الكثرة مهملًا؛ و أنّها هي الكثرة البالغة كرّاً، أو غير البالغة.

و من هنا يعلم وجه النظر في استفادة نفي الشرطيّة من الحصر «1»؛ فإنّ موضوعه إذا كان على النحو المشار إليه، فالحصر تابع له بالضرورة، فما اشتهر «2» من التمسّك بمفهوم النبويّ: «الماء كلّه طاهر لا ينجّسه شي ء» «3» و

غيرِه «4»، غير ظاهر؛ لأنّ قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «إلّا ما غيّر ..» إلىٰ آخره، شاهد علىٰ أنّ الماء لوحظ مع الكثرة الإجماليّة، و ليس من قبيل قولنا: «الماء جسم سيّال بارد بالطبع» فافهم.

و من هذه الطائفة مضمرة سَماعة بن مِهْران، قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء.

قال: «يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «5».

و في ثبوت الإطلاق للماء نظر واضح.

______________________________

(1) روض الجنان: 134/ السطر 17.

(2) مدارك الأحكام 1: 31.

(3) عوالي اللآلي 3: 9/ 6، مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5 مع اختلاف يسير.

(4) لاحظ وسائل الشيعة 1: 138 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3 و 4.

(5) تهذيب الأحكام 1: 408/ 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 191

الطائفة الثانية: ما وردت في خصوص الماء الجاري

و هي بين ما لٰا سند له، و تكون دلالته تامّة، مثل روايات «فقه الرضا» «1» و السيّد فضل اللّٰه الراونديّ «2»، و «دعائم الإسلام» «3».

و مضمونها: «أنّ الماء الجاري لا ينجّسه شي ء».

و توهّم انجبار ضعف الإسناد بعمل الشهرة «4»، غير تامّ؛ لاشتراطها في الجبر بكونها عمليّة، و هي غير ثابتة.

و يقرب منها ما في «الجعفريّات» «5» فإنّ احتمال تماميّة سندها، أقوى من الكتب المشاركة معها، فتأمّل.

و بين ما هو المسند، و فيه بعض الأسانيد الصحيحة، و لكنّها أجنبيّة عن هذه المسألة، مثل المآثير المذكورة في الباب الخامس في «الوسائل» فإنّها ناظرة إلىٰ نفي البأس عن البول في الماء الجاري «6»،

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91.

(2) نوادر الراوندي: 39، مستدرك الوسائل 1: 191،

كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 4.

(3) دعائم الإسلام 1: 111.

(4) مستند الشيعة 1: 21.

(5) الجعفريات: 11، مستدرك الوسائل 1: 190، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 1.

(6) لاحظ وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 192

و من راجع أبواب التخلّي «1» يطمئنّ بما أُشير إليه.

و توهّم دلالتها الالتزاميّة العرفية علىٰ نفي البأس عن نفس الماء الجاري أيضاً «2»، في غير محلّه؛ لممنوعيّتها أوّلًا، و لعدم لزوم تعرّض الإمام (عليه السّلام) لجميع الجهات في المجلس الواحد ثانياً؛ فإنّ الأحكام تنشر تدريجاً، و ليس هذا من الإغراء بالجهل و الإلقاء في التهلكة، فلا تختلط.

نعم، فيها رواية واحدة ربّما تكون ظاهرة؛ في أنّ السؤال يكون عن الماء الجاري الذي يبال فيه، و هي موثّقة سَماعة بن مِهْران قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه.

قال: «لا بأس به» «3».

فإنّه مع قطع النظر عن الشبهات الممكنة فيها، يحتمل قويّاً كون جملة «يبال فيه» غيرَ مرتبطة بالأُولىٰ، فكأنّه حذفت همزة الاستفهام؛ لعدم الاحتياج إليها في كثير من المقامات.

هذا مع أنّها مضمرة، و دعوىٰ قطعيّة الإضمار عن المعصوم، غير معلومة جدّاً و إن لم يقل به الأصحاب رضيّ اللّٰه عنهم.

فما يظهر من الشيخ في «التهذيب» و جماعة من أتباعه؛ من التمسّك بها في هذه المسألة «4»، غير قابل للتصديق، كما أنّ ذكرها بعنوان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 324 و 340، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 15 و 24.

(2) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 96.

(3) تهذيب الأحكام 1: 34/ 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5،

الحديث 4.

(4) تهذيب الأحكام 1: 34.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 193

التأييد كما في «الجواهر» «1» غير صحيح أيضاً.

الطائفة الثالثة: المآثير الكثيرة في الأبواب المختلفة

فمنها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين، و في ماء جارٍ فمرّة واحدة» «2».

و توهّم: أنّها من الأدلّة الدالّة علىٰ عدم انفعال القليل؛ لأنّ المِرْكَن قليل، فلا يتمّ الاستدلال بها؛ لأقوائيّة الأدلّة المخالفة، و التفكيك بين الصدر و الذيل يضرّ بالحجّية عند العقلاء، غير بعيد جدّاً.

و لكنّه يمكن دعوى أنّ المقصود هو الماء الراكد، و التمثيل بالمركن لمراعاة التقيّد.

مع أنّ المركن له المصاديق المختلفة في الصغر و الكبر، و لا بأس بالتقييد في الجملة الأُولىٰ؛ لما ورد في الكرّ، كما سيأتي تفصيله «3».

فبالجملة: قد يستدلّ بها «4»؛ بتقريب أنّ نجاسة الثوب لو استلزمت نجاسة الماء إذا كان قليلًا، لكان عليه (عليه السّلام) بيانها؛ لأنّ العرف ينتقل ذهنه

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 86.

(2) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(3) يأتي في الصفحة 253 254 و مابعدها.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة: 8/ السطر 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 194

من طهارة الثوب به إلىٰ عدم نجاسته قطعاً.

و لا يصحّ قياسه بالغُسالة «1»؛ فإنّها ليست مطهّرة أوّلًا، و ثانياً القذارة العرفيّة تساعد على نجاستها، دون نجاسته.

و فيه: أنّه لا يتمّ إلّا إذا كان المتعارف أقلّية الماء الجاري من الكرّ في المنطقة المعهودة، و إلّا فلا يقع المخاطب في الجهل و الخلاف، كما لا يخفى.

فما أفاده الفقيه الهمدانيّ «2» لا يرجع إلىٰ محصّل، هذا مع ما عرفت آنفاً، فراجع.

و له تقريب آخر؛ و

هو أنّ قضيّة إطلاقها عدم اشتراط الكرّيّة، إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس، كما هو الظاهر.

و لكنّه ربّما يشكل؛ بأنّ الكلام سيق لإفادة كيفيّة التطهير بالراكد و الجاري، من غير النظر إلىٰ إفادة أيّ قسم منهما.

نعم، دعوى ظهور الجملة الثانية في أنّ المناط هو الجريان، كما أنّ في المِرْكَن هو الركود، غير بعيدة، حتّى اشتهر «أنّ تعليق الحكم على الوصف، مشعر بالعلّية» «3».

فبالجملة: لو تمّ إمكان الالتزام بمفاد الصحيحة من التفصيل بين الكرّ و الجاري لكان التقريب المذكور نافياً لشرطيّة الكرّية.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 98.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 8/ السطر 5.

(3) فرائد الأُصول 2: 541، أجود التقريرات 1: 435، القواعد الفقهيّة 1: 286.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 195

و منها: صحيحة ابن بَزيع، فإنّها نافية لاشتراط الكرّية علىٰ ما اخترناه في المراد منها؛ من رجوع التعليل إلى الصدر فيعلم من عموم التعليل أنّ جميع المياه ذات المادّة، موسّع لا ضيق فيها، فيكون مطهّراً من الأحداث و الأخباث من غير شرط، و غير منفعل بملاقاة النجاسة.

و يمكن دعوى: أنّه لو رجع إلى الجملة المحذوفة كما هو المعروف بينهم، أو الجملة الأخيرة المذكورة كما هو المختار، بناءً علىٰ رجوعه إلى الأخير من غير لزوم إشكال يتمّ المطلوب؛ لأنّه إذا كانت المادّة سبباً لرفع النجاسة، فكونها سبباً لرفعها أولىٰ، و هذا هو المفهوم منها عرفاً.

و توهّم: أنّ الأولويّة القطعيّة في المسائل العباديّة ممنوعة، فاسد ضرورة أنّ مسألتنا هذه ليست منها؛ فإنّ للعرف قدماً راسخاً في هذه المسائل، و ليس للشرع إبداعات فيها كما لا يخفىٰ.

و إن شئت قلت: بعد ما تغيّر ماء البئر، و كان

ما لا يتغيّر منه أقلّ من الكرّ، فهو إمّا ينجس، أو لا ينجس.

فعلى الثاني: فهو المطلوب، لأنّ عدم تنجّسه مع كونه قليلًا للمادّة، فيكشف عموم الحكم.

و على الأوّل: فإمّا يقال: بأنّه إذا تنجّس، لا يطهر ما زال عنه وصف التغيّر، فهو خلاف الصحيحة.

و إمّا يقال: بأنّه ينجس بعد ما تغيّر، و إذا زال وصف التغيّر يطهر بنفسه، ثمّ يورث طهارة ما زال عنه الوصف، فهو بلا دليل، و إذا كان زوال النجاسة عنه بعد ذلك للاتصال بالمادّة، فكون الملاقاة موجباً لنجاسته بلا وجه.

و إمّا يقال: بأنّه يورث طهارة المتغيّر، الزائل عنه وصف التغيّر، مع

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 196

كونه نجساً بالملاقاة، و لا منع من الالتزام بذلك إذا اقتضت علّية الملاقاة للنجاسة، كما هي المفروضة، و به يجمع بين تلك و هذه الصحيحة، و لكنّه غير تامّ قطعاً.

و أنت خبير: بأنّ الصحيحة ظاهرة في أنّ الماء إذا زال وصف تغيّره، يطهر من غير الحاجة إلى الاتصال و الامتزاج و الاستهلاك، مع أنّ من الممكن كونَ موردها- غالباً من الاستهلاك، بوجه مضى سبيله «1»، من غير لزوم الخلاف، فاستكشاف عدم اعتبار الكرّية من الجملة الأخيرة ممنوع، و لكنّها تدلّ علىٰ عدم اعتبار الكرّية بوجه عرفت.

نعم، قد مضى كلام في صحّة الاتكاء علىٰ مثلها الصريحة في سعة ماء البئر «2»، مع أنّ المشهور بين القدماء القول: بأنّ ماء البئر ليس بواسع، فكأنّهم أعرضوا عنها، و لكن قضيّة الصناعة عند الشكّ في الإعراض، الرجوع إلىٰ أدلّة حجّية السند إلىٰ أن يثبت الموهن؛ و هو الإعراض، و التفصيل يطلب من مقامه «3».

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن جعفر، قال: سألت أبا الحسن

(عليه السّلام) عن البيت يبال علىٰ ظهره، و يغتسل فيه من الجنابة، ثمّ يصيبه الماء، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ للصلاة؟

فقال (عليه السّلام): «إذا جرىٰ فلا بأس به» «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 151.

(2) تقدّم في الصفحة 174.

(3) تحريرات في الأُصول 6: 400.

(4) تهذيب الأحكام 1: 411/ 1297.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 197

و مثلها صحيحة محمّد «1» و صحيحة ابن الحكم «2» في الميزابين سالا، أحدهما: بول، و الآخر: ماء، فإنّه يعلم من هذه الأخبار، أنّ نفس السيلان و الجريان، دخيل في عدم التنجّس، من غير دخالة الأمر الآخر، فتأمّل جدّاً.

الطائفة الرابعة: المآثير المختلفة الواردة في ماء الحمّام

مثل صحيحة داود بن سِرْحان الناطقة بأنّ «ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري» «3».

و توهّم إجمالها؛ لما في «الوافي» في ذيلها: «لما الزق بهما من التراب» «4» غير تامّ؛ لخلوّ كثير من نسخ «التهذيب» عنه «5»، و لقوّة احتمال نقل هذه الجملة من ذيل رواية محمّد بن مسلم «6» إلىٰ ذيلها خطأ.

و مثل رواية ابن أبي يعفور الناطقة ب «انّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 6.

(2) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الصلاة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(4) الوافي 6: 52/ 8.

(5) لاحظ تهذيب الأحكام (الطبعة الحجريّة) 1: 107/ السطر 24، تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170.

(6) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1172، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 198

بعضه بعضاً»

«1».

و مثل ما ورد: «أنّ سبيله سبيل الجاري» «2».

و الاستدلال بها يتمّ بعد وضوح أنّ المقصود من التنزيل، هو التوسعة في ماء الحمّام من جهة الاعتصام، كما شهدت به سائر المآثير و الأخبار الواردة في ماء الحمّام «3».

و بعد وضوح أنّ المراد من «ماء الحمّام» هو ما في الحياض الصغيرة؛ لأنّه يشبه الجاري في كونه ذا مادّة، و لذلك نزّل منزلة الجاري، فكما أنّ المادّة خارجة عنه، فهي خارجة عن ماء الحمّام، و لأنّه مورد السؤال و الابتلاء، و لأنّ من الممكن وجود مخازن الحمّام خارجة عنه، كما لا يخفى.

و بعد وضوح أنّ ما في الحياض أقلّ من الكرّ قطعاً، حسب ما يرىٰ في عصرنا، فضلًا عن عصرهم.

و عند ما تبيّن ذلك، يتّضح أنّ الجاري المنزّل عليه لو كان كرّاً، و كانت الكرّية دخلية فيه، لما كان وجه لهذا التنزيل.

و فيه: أنّه يلزم بناءً علىٰ هذه المقدّمات، عدم صحّة تنزيل ماء الحمّام

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

(2) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 86، مستدرك الوسائل 1: 194، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 199

منزلة ماء الكرّ، و يكون قولنا: «ماء الحمّام بمنزلة الكرّ» غلطاً، مع فساد ذلك قطعاً، فيعلم عدم صحّة الكشف المزبور.

و بعبارة أُخرى: إذا قلنا: «زيد كالأسد» لا يلزم كون جميع مصاديق الأسد شجاعاً.

فبالجملة: لو سلّمنا جميع المقدّمات المشار إليها في تقريرات المحقّق الفقيه الوالد- مدّ ظلّه «1» لما كان وجه لتماميّة النتيجة، فتدبّر.

هذا مع أنّ تماميّة المقدّمة

الثالثة، غير واضحة، و سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللّٰه تعالىٰ «2».

ثمّ إنّه يمكن التقاريب الأُخر، إلّا أنّ الأدلّة السابقة كافية، و لا وجه لإطالة البحث حول مٰا لا يرجع إلىٰ محصّل.

في تأييد المختار ببعض المآثير
اشارة

ثمّ إنّه قد ورد في هذا الباب ما يؤيّد المطلوب، مثل قوله (عليه السّلام) في رواية بكر بن حبيب: «إذا كانت له مادّة» «3».

و قولِه (عليه السّلام) في موثّقة حنّان بن سَدير، قال: «أ ليس هو جارٍ؟».

قلت: بلىٰ.

______________________________

(1) الطهارة، (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 6 (مخطوط).

(2) يأتي في الجزء الثاني: 3 و ما بعدها.

(3) التهذيب 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 200

قال: «لا بأس به» «1».

فإنّه يعلم منهما، أنّ المناط هو الجريان، و كونُه ذا مادّة، التي هي الدخلية في كونه جارياً واقعاً أو تعبّداً.

فيعلم من جميع ما مرّ، أنّ للجريان الذي لا يصدق إلّا مع المادّة، دخالةً تامّة في عدم التنجّس كالكرّية، و ما ذهب إليه الشيخ الأعظم؛ من قصور الأدلّة اللفظيّة، و تماميّةِ الإجماعات المعتضدة بالشهرة «2»، غير تامّ، بل الأمر بالعكس.

و لو تمّ الإشكال في الأُولىٰ، فالثانية قاصرة بعد ما مر؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ هذه المسائل ليست ذات رواية غير واصلة، و لا تكون تلك الإجماعات كاشفة عن أمر وراء ما وصل إلينا، بعد قوّة احتمال كونها كافية، كما اختاره الأكثر، فتدبّر.

و ما يمكن أن يوجّه به الرأي الأخير، طوائف من الروايات:

الأولىٰ: الطائفة الأخيرة الواردة في ماء الحمّام

فإنّها «3» علىٰ ما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه)، تدلّ على اشتراط الكرّية «4»، و حيث

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75.

(3) وسائل الشيعة 1: 148 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 75 77.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 201

يظهر من القوم وقوع الشيخ في المقام في الاشتباه الواضح، حتّى لا يذكرون رأيه أو يردّونه «1»، فلا بأس بأن يقال:

إنّ الظاهر منه أنّ البحث في مسألة اشتراط الكرّية في الماء الجاري، ليس من الواضح مصبّه، و لا من الظاهر مورده؛ فإنّه هل المقصود من الكرّيّة المعتبرة، هو المقدار المعتبر في عدم انفعال الماء القليل، من غير شرط آخر و هو تساوي السطوح؟

أم المقصود منها هي الكرّية المخصوصة، فلو كان مقدار الماء الجاري أضعاف الكرّ، مع الاختلاف في السطح، ينجس بالملاقاة، فلا بدّ من الكرّيّة في السطح الواحد؟ و هذه المجملة غير واضحة من كتب العلّامة.

كما أنّ المقصود أيضاً مجمل؛ من جهة أنّ الماء الجاري يشترط فيه الكرّية، أو هو مع مادّته.

و توهّم: أنّ الماء الجاري هو السائل، لا مادّته، فاسد؛ لتفسيرهم «الجاري» ب «النابع السائل» «2» و النبع مادّته، فهي دخلية في صدق «الجاري» الذي هو المقصود في الشريعة.

و الكتب المتعرّضة لهذه الجهة، خالية عمّا يرفع به الإجمال، و لعلّ العلّامة كان يعتقد ذلك في المجموع، دون البعض منه.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 132.

(2) جواهر الكلام 1: 72، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33، العروة الوثقىٰ 1: 32، فصل في الماء الجاري، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 112 113.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 202

فعلى هذا، فقوله (عليه السّلام): «ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري» «1» أو «هو كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً» «2» لا يدلّ إلّا على اتحادهما في الحكم، و إذا كانت كرّية المادّة و ما في الحياض شرطاً، فيعلم شرطية ذلك في الجاري أيضاً؛ قضاءً لحقّ التنزيل.

أقول: بعد التأمّل و التدبّر، لا يظهر لي أنّ نافي

الكرّية ما يريد بها؛ فهل يريد بها نفي المقدار المطلق، أو نفي المقدار المخصوص بالتساوي في السطوح، الذي هو المراد من «الكرّية» في بحثنا؟

و هكذا لا يظهر أنّ مثبتها يريد شرطيّة كرّية المجموع، أو المخصوص بالسريان و الجريان.

ثمّ إنّه بعد ملاحظة ما أبدعناه، و ملاحظةِ الاختلاف الموجود بينهم في ماء الحمّام؛ من أنّه هو ما في الحياض، أو الأعمّ منه و من المادّة، يظهر أنّ استفادة الشيخ شرطيّة الكرّية من حديث المنزلة، ليس بعيداً.

نعم، مبانيه فيما استفاده منها فاسدة.

و يمكن دعوى ظهور التنزيل؛ في أنّ المقصود إسراء أحكام المشبّه به إلى المشبّه، لا العكس، فلا دلالة له علىٰ خلاف ما قصده المشهور منه، كما لا يخفىٰ.

فبالجملة: إذا كان رأيه الشريف في ماء الحمّام، أنّه الأعمّ، و كان يرىٰ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 387/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(2) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 203

اعتبار الكرّية عند العلّامة في المادّة و الماء الجاري، فيلزم كون الجاري كرّاً؛ لأنّ ما نزّل منزلته، هو المشابه معه في جميع الجهات التكوينيّة إلّا في مجعوليّة المادة، و أُريد من التنزيل ذلك، فهما يتّفقان في الكرّية و غيرها من الأحكام، فتأمّل جيّداً «1».

الطائفة الثانية: ما رواه الكلينيّ و الشيخ

عن عمّار بن موسى الساباطيّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سئل عمّا يشرب منه الحمامة .. (إلىٰ أن قال:) فقال (عليه السّلام): «كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه، و لا تشرب» «2».

و

سئل عن ماء شربت منه الدجاجة.

______________________________

(1) ثمّ إنّه يظهر تقريب الاستدلال بمرسلة ابن أبي يعفور (أ).

و له تقريب آخر؛ و هو أنّ الظاهر منها اعتصام الجاري بعضه ببعض، و لا مدخليّة للمادّة فيه، فعليه هو بمنزلة الماء المحقون، و اشتراط الكرّية فيه قطعيّ (ب).

أقول: نعم، إلّا أنّ ماء النهر ليس ماء النهر إلّا حال كونه ذا مادّة، فاعتصام بعضه ببعض ممنوع إلّا في تلك الحال، و عندئذٍ ليس بمنزلة المحقون.

و في المقام تفصيل خارج عن الجهة المبحوث عنها [منه (قدّس سرّه)].

(أ) تقدّمت في الصفحة 198.

(ب) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 77.

(2) تهذيب الأحكام 1: 228/ 660، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 204

قال: «إن كان في منقارها قذراً، فلا تتوضّأ منه، و لا تشرب منه ..» «1».

و قد رواه الصدوق مرسلًا نقلًا بالمعنى «2»، كما هو دأبه كثيراً.

و قضيّة الإطلاق اللفظيّ و السكوتي في الأُولىٰ و الثانية، نجاسة جميع المياه إلّا الماء الكثير؛ حسب أدلّته.

و لكن الإطلاق السكوتيّ غير منعقد جزماً؛ لأنّ من شرائطه الحاجة إلى الاستفصال، حتّى يكون تركه دليلًا على الإطلاق، و هي ممنوعة؛ لوضوح أنّ مقصوده المياه القليلة في الظروف المتعارفة، و لا أقلّ من الشكّ.

و أمّا الإطلاق اللفظيّ في الأُولىٰ، فهو أيضاً بعد التأمّل ممنوع؛ لوضوح أنّ مصبّ السؤال و الحكم واحد، و توهّم ثبوت الإطلاق له بحيث يقتضي نجاسة الجاري من سوء السليقة و الفهم، كما لا يخفىٰ.

الطائفة الثالثة: المآثير الواردة في الكرّ

«3» فإنّها بمفهومها الشرطيّ و الوصفيّ و القيديّ، تدلّ على انفعال غير الكرّ و لو كان جارياً، بل ظاهر صحيحتي إسماعيل بن جابر، أنّهما سيقتا لإفادة المفهوم؛ لأنّه سُئل فيهما

عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء، فأُجيب ب «أنّه

______________________________

(1) الإستبصار 1: 25/ 64، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 3.

(2) الفقيه 1: 10/ 18.

(3) وسائل الشيعة 1: 158 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 205

الكرّ» «1» أو «أنّه ذراعان عمقه ..» «2»، فيعلم منهما أنّ ما وراءه ينجس.

و قد تقرّر في محلّه: أنّ مفهوم الحدّ و التحديد، خارج عن النزاع المعروف في حجّية المفاهيم «3»، فقولنا في تحديد الإنسان: «هو الحيوان الناطق» نافٍ لسائر الأُمور الأُخر المحتملة دخالتها في حدّه.

ثمّ إنّ قضيّة معتبرة أبي بصير: «و لا تشرب من سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه» «4» أيضاً نجاسة القليل و لو كان جارياً، و حجيّة مفهوم الحصر مفروغ عنها في محلّها عند الأصحاب رضي اللّٰه عنهم، إلّا من شذّ «5».

و مثلها صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، فيتوضّأ منه للصلاة؟

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من الماء» «6».

فإنّهما بمفهومهما، تدلّان على انحصار الماء المعتصم بالكرّ.

______________________________

(1) الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

(2) تهذيب الأحكام 1: 41/ 14، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

(3) تحريرات في الأُصول 5: 13.

(4) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

(5) انظر مطارح الأنظار: 187/ السطر 25.

(6) وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث

13، و الباب 9، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 206

النسبة بين مفهوم أدلّة الكرّ و أدلّة الجاري

و دعوىٰ: أنّ النسبة بين المفهوم و أدلّة الماء الجاري، عموم من وجه، فلا ينهض المفهوم لاعتبار الكرّية؛ إمّا لتقدّم تلك الأدلّة عليه لأقوائيّتها، أو لتكافئهما و تساقطهما، و يكون المرجع بعد ذلك، إطلاقَ الطائفة الأُولى التي النسبة بينها و بين المفهوم عموم مطلق، و لمكان سقوط المفهوم بالمعارضة، لا بدّ من الرجوع إلىٰ تلك المطلقات النافية لانفعال الماء القليل، جارياً كان أو راكداً «1»، مسموعة.

إلّا أنّ الشيخ قال: «تتقدّم أدلّة الكرّ على الجاري» «2» ظنّاً أنّ إخراج الفرد النادر من أدلّة الجاري بتقديم مفهوم الكرّ أولىٰ من إخراج جميع أفراد الجاري من أدلّة الكرّ، غافلًا عن أنّ تقديم أدلّة الجاري، لا يستلزم تقييد موضوع أدلّة الكرّ، حتّى يكون جميع الأفراد من الجاري خارجاً.

مع أنّ الندرة ممنوعة جدّاً، و أنّ ميزان الجمع ليس الإمكان العقليّ، و ليس هذا الجمع لتلك النكتة و الجهة من الجموع العقلائيّة.

و في مقابله صاحب «الجواهر» حيث قال بالعكس «3»، معلّلًا بوجوه لا تخفى، غيرَ ذاكر منها وجهاً، و هي معلومة، إلّا أنّها غير تامّة.

و قد يقال: بأنّ تقديم المفهوم، يستلزم لغويّة قيد «الجريان، و البئر،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 1: 186، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 5.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 78.

(3) جواهر الكلام 1: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 207

و كونه ذا مادّة» و لا عكس «1».

و فيه: أنّ قضيّة العكس صرف النظر عن مفهوم الحصر، الدالّ على انحصار المعتصم بالكرّ، و لا ترجيح كما لا يخفىٰ.

و يمكن دعوى: أنّ المسألة فيما نحن فيه، من قبيل تعدّد الشرط و اتحاد الجزاء؛

ضرورة أنّ مفهوم الشرط هنا، كما يعارض بمنطوق أدلّة الجاري، كذلك منطوق أدلّة الكرّ، معارض بمفهوم الجاري؛ لأنّ هذا القيد في تلك الأدلّة، بمنزلة الوصف المورث للمفهوم، و مقتضى الجمع العرفيّ كون الجاري كالكرّ في الاعتصام.

و فيه: أنّ الأمر كذلك، إلّا أنّ حجّيّة مفهوم الشرط و الوصف ممنوعة، و يكون مقتضى الحكم العرفيّ ذلك؛ لعدم المعارضة لولا مفهوم الحصر في أدلّة الكرّ غير المعارض بمثله في أدلّة الجاري، فلا تغفل.

فبالجملة: كون هذه المسألة من صغريات تلك المسألة الأُصوليّة، منوط بفرض اعتبار المفهومين، و هو مجرّد فرض لا نفع له في الفقه، فعليه يثبت التهافت بين الأدلّة.

و أمّا الرجوع إلى الطائفة الأُولىٰ، فهو يتمّ إذا تمّ السند و الدلالة، و قد عرفت عدم الإطلاق فيها، و مضت الشبهةُ في ثبوت الإطلاق للنبويّ المنجبر تفصيلًا «2».

بل لو سلّمنا إطلاقها، فالنسبة بعد التقييد تنقلب؛ فإنّ النسبة بين

______________________________

(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 124 125.

(2) تقدّم في الصفحة 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 208

النبويّ و مفهوم أدلّة الكرّ، مطلق لا بدّ من التقييد، فيصير مفاده «أنّ اللّٰه تعالىٰ خلق الماء الكرّ طهوراً» و عندئذٍ تقع المعارضة بينه و بين دليل الماء الجاري، فعليه لا يمكن حلّ الإشكال.

و لا ترجيح لملاحظة النسبة الاولىٰ، بل الظاهر ينعكس الأمر، و يكون النبويّ دليلًا لمذهب العلّامة و أصحابه رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم، فافهم و تدبّر.

مقتضى الأصل العملي في المقام

فبالجملة: تسقط الطائفتان؛ لتكافئهما، و حيث لا يندرجان تحت الأدلّة العلاجيّة عندنا، فلنا دعوى كفاية استصحاب الطهارة و قاعدتها؛ لإثبات الطهارة و المطهّريّة:

أمّا الأُولىٰ: فهي معلومة.

و أمّا الثانية: التي هي المقصود بالأصالة في القليل الجاري دونها خلافاً لما يظهر من جلّهم، حيث

غفلوا عن ذلك، و تمسّكوا بقاعدة الطهارة فهو أنّ مقتضىٰ أدلّة المياه، أنّها مطهّرة بذاتها و طبعها، و لكنّها إذا كانت نجسة تكون النجاسة مانعة، و إذا تعبّدنا بطهارتها و عدم نجاستها، فتثبت مطهّريّتها، فتأمّل؛ فإنّه لا يخلو من إشكالات واضحة.

رجوع إلى النسبة بين أدلّة الكرّ و أدلّة الجاري

إن قلت: يمكن تقييد مفهوم الحصر بأدلّة الجاري، و يمكن دعوى

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 209

انصراف أدلّة الكرّ إلى الراكد.

قلت: لا ضرورة أنّ مفاد الحصر بالتبادر، معارض لجميع ما يدلّ علىٰ خلافه؛ أخصّ كان، أو أعمّ، أو مبايناً، و قد فصّلناه في محلّه «1»، و اخترنا أنّ مفهوم الشرط و الوصف و ما شابههما، غير قابل للتقييد؛ للزوم الخلف، و هذا مثله في وجه، و الانصراف المزبور ممنوع بعد المراجعة إلىٰ أحاديث المسألة.

نعم، يمكن دعوى أنّ العرف بعد المراجعة إلىٰ كثرة المآثير الدالّة علىٰ خصوصيّة المادّة و البئر و المطر و الجاري مع خروج المطر و الحمّام من مفهوم الحصر قطعاً، و تقدّم أدلّتهما عليه يفهم أنّ هذه الرواية الدالّة على الحصر، ليست في مقام إفادته، بل هي تفيد الفرد الكامل، و المتعارفَ بين الناس، و الأكثرَ وجوداً و ابتلاءً .. و غير ذلك، فإنّه بعد هذا الوجه تسقط دلالتها على الحصر، و تكون الطائفة الأُولىٰ بلا معارض، و يتمّ المقصود.

عدم اعتصام الجاري و مطهّريته مع الإفراط في القلّة

ثمّ إنّ مقتضىٰ إطلاق فتواهم، أنّ الماء الجاري القليل معتصم و مطهّر و لو كانت قلّته في نهايتها و غايتها، و هو عندي مشكل، بل ممنوع؛ لانصراف الأدلّة عنها، بل يمكن عدم صدق «الجاري» على النابع السائل الذي تمام مائه في يوم يبلغ كوزاً.

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 185 186.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 210

و لعلّ القائل بالكرّية، يريد اعتبار الكثرة الدخيلة في الاسم، أو في موضوع الأدلّة، فإنّه لو كان كذلك فهو التحقيق الحقيق بالتصديق، كما لا يخفىٰ.

بحث و تفصيل في المراد من كرّية الجاري

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 210

قد مضى إجمالًا «1»: أنّ الكرّية المشترطة في المقام، مجملة من جهتين:

من أنّ المقصود كون الجاري بمقدارها، فلو كان طول المجرىٰ فرسخاً، و كان بمقدار الكرّ، فهو يكفي، أم المقصود كونه في سطح واحد، على النحو المقرّر في الكرّ و مطهّريته.

فإن قلنا بالأوّل، فلا يكون تقديم مفهوم أدلّة الكرّ علىٰ أدلّة الجاري، موجباً لإلغاء قيد «الجريان» لأنّه من خصوصيّاته، و لعلّ مقصود العلّامة ذلك، و لا يستظهر من العبارات المحكيّة خلافه، فتأمّل.

و من أنّ المقصود كرّية ما في الخارج، أو كرّية الكلّ، أو كرّية المجموع، و القائل بعدم اعتبارها ينفي المجموع، أو الأوّل فقط.

فيه وجوه و احتمالات، فإن كان مفهوم الجاري مركّباً من الماء الخارج و الداخل المسمّى ب «المادّة» فيعلم أنّ المقصود هو المجموع، و لكنّ الظاهر أنّ الماء الجاري هو ما في الخارج و إن كانت المادّة دخيلة في صدقه عليه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 200 201.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1،

ص: 211

و أمّا كرّيّة المادّة، أو هي مع الخارج، فليست شرطاً عندهم؛ لأنّ صريح كلامهم في أنّ المادّة قد تكون راشحة، و عندئذٍ لا معنىٰ لشرطيّة الكرّية فيها.

بل الحقّ: أنّ الماء الراكد الواقع تحت الأرض، إذا لم يتخلّق فيه الماء بالرشح، فإنّه ليس مادّة، فلو كان البئر غير ذي مادّة راشحة، و كان فيه الماء الراكد القليل، فتغيّر سطحه، فإنّه ينجس؛ لأنّه القليل، و لا خصوصيّة لعنوان «البئر» بل المدار على الأمداد المتوجّه إليه بالتخلّق و الإيجاد.

و من هنا يعلم: أنّ استغراب بعض فضلاء العصر؛ من نفي كرّية المادّة «1»، في غير محلّه؛ لتوهّمه أنّ لازمه كون الماء تحت الأرض، له الخصوصيّة، غافلًا عن عدم كونه مادّة إذا لم يكن يتخلّق فيه بالتدريج المياه الجديدة، و لو كانت المادّة أعمّ، لكانت مادّة الحمّام مادّة حقيقيّة، لا تعبّدية.

فعليه لا يعتبر الكرّية مطلقاً، و لا يشترط عند القائلين بها إلّا في الماء الخارج، دون المادّة و المجموع، فلا تغفل.

فرع: في حكم العيون غير المتعدية

العيون غير المتعدّية، ليست بئراً، و لا جارياً، و لا راكداً قليلًا، و لا

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 104.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 212

كثيراً عرفاً، فهي أمر آخر، و حكمه عدم الانفعال؛ لمعتبرة ابن بَزيع «1».

و أمّا إجراء الأحكام الأُخر مثل حكم الجاري عليه، فهو غير معلوم، خلافاً لما يظهر من الفقيه اليزديّ حيث قال: «هي مثل الجاري» «2» و لم يقيّده، و قد قيّده بعض فضلاء العصر «3».

و الذي هو التحقيق: أنّ كلّ ماء ذي مادّة، فيه السعة، و ليس معناها الاعتصام كما توهّمه الجمهور، بل هو أحد آثار جعل السعة، و لو كان كذلك لما كان

يحتاج إلى التكرار، فيعلم من قوله: «لا يفسده شي ء» أنّه غير السعة المجعولة عليه.

نعم، هو من الآثار البارزة فجميع المضايق مرفوع عنه، و منه الاحتياج إلى التكرار، فلو كان المتنجّس لا يطهر بالمرّة الأُولىٰ، ففيه الضيق المنفيّ، و لعلّ إطلاق كلامه ناظر إلىٰ هذا التقريب، فتدبّر.

فرع آخر: في حكم الجاري بلا مادّة

الجاري على السطح بلا مادّة، إذا كان قليلًا ينجس، إلّا في موارد:

الأوّل: ما إذا كانت له المادّة و انقطعت، فإنّ ما هو الباقي و الجاري فعلًا في النهر، نجاسته غير معلومة بالملاقاة؛ لأنّ ما هو المقطوع به

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 32 فصل في المياه، الماء الجاري.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 105.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 213

خروجه من أدلّته ما لم يكن له المادّة، فلو كان المدار على المادّة في الاعتصام فهي منتفية.

و لكنّك عرفت: أنّ عنوان «الجاري» معتصم، و الخارج منه الفروض الأُخر غير هذه الصورة «1».

الثاني: ما إذا كان طول النهر، إلىٰ حدٍّ يعدّ الماء فيه ماءين، فتكون الملاقاة في طرف غير موجبة للنجاسة في الطرف الآخر، و لعلّ هذا هو مقتضىٰ إطلاق معتبرة شهاب بن عبد ربّه، فإنّه (عليه السّلام) أمر بالتوضّي من الجانب الآخر «2»، فتدبّر.

الثالث: ما إذا كان الجريان علىٰ وجه التسنيم، أو التسريح الشبيه به، فإنّه في هذه الفروض المتضاربة، أيضاً يشكل تنجّسه؛ لإمكان استفادة دخالة السريان العرفيّ في التنجّس؛ لما دلّ الدليل في اليابس على دخالة الرطوبة في ذلك فالقول: بعدم السريان رأساً، أو أنّه علىٰ وجه الإبداع، أو مثله، غير مقبول، بل الميزان هو السريان العرفيّ،

فتأمّل جدّاً.

و للمسألة وجوه و مباحث أُخر، لا بدّ من الخوض فيها إن شاء اللّٰه تعالىٰ في مباحث النجاسات.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 182 183.

(2) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 214

خاتمة:

اشارة

فيها مسائل

الاولىٰ: في الشك في أنّ للجاري القليل مادّة أم لا؟
اشارة

الماء الجاري القليل، إذا شكّ في أنّه ذو مادّة، فإن كان مسبوقاً بها، فمقتضى استصحاب اعتصامه و مطهّريته و عدم انفعاله، و أنّه كان إذا لاقاه النجس لا ينجس، و أنّه كان ذا مادّة؛ أنّه بحكم معلوم المادّة.

و الإشكال في جريان الأصل الأخير: بأنّ العلّة لا تكون قيد الموضوع، غير بعيد، و يكفينا الأُصول الأُخر الحكميّة.

و إن كان مسبوقاً بعدمها، فقضيّة الأُصول الوجوديّة و العدميّة التنجيزيّة و التعليقيّة انفعالها، و الإشكال في بعضها لا يضرّ بالمقصود، نظير إشكال تقدّم بعضها على البعض للسببيّة، فتدبّر.

و إذا لم يعلم حاله السابقة، أو كانت المادّة و الجريان متّحدي الزمان، أو احتملنا انقطاع المادّة في آن اتصافه بالجريان؛ بأن كانت المادة سابقة، و الجريان بعدها، و لكن نحتمل انعدامها حال اتّصافه به، فإنّه إن أُريد استصحاب كون الماء ذا مادّة، فهو في مورده.

و لكن إن أُريد استصحاب أنّ هذا الماء الجاري كان ذا مادّة، فإنّه غير جارٍ بالضرورة؛ لعدم الحالة السابقة للموضوع الموصوف.

فإذا لم يجر الأُصول الموضوعيّة، أو الحكميّة التي في حكمها كما تقدّم، فقضيّة استصحاب الطهارة و قاعدتها، طهارة الماء القليل الملاقى،

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 215

و يكفي أحدهما، إلّا أنّ الأقوىٰ جريان الاستصحاب دون القاعدة.

وجوه القول بالنجاسة
الوجه الأوّل:

و لكنّه مع ذلك، ذهب جمع من فضلاء الأُمّة إلى النجاسة، و منهم الفقيه اليزديّ (رحمه اللّٰه) في «العروة» «1» و ما يمكن أن يكون وجهاً له جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و قد نسب إليه «2»، و لكنّه صرّح في كتاب النكاح بخلافه «3».

مع أنّه لو كان هذا مستنده، لكان عليه تنجيس الماء المردّد بين القلّة و الكثرة؛ لأنّ قضيّة العامّ نجاسة كلّ ماء إلّا الكرّ و

ذا المادّة، فعليه لا بدّ من التماس دليل آخر.

هذا مع أنّه لو سلّمنا جواز التمسّك، يتعيّن القول بطهارته؛ لأنّ العامّ المستفاد من الكتاب و السنّة، عدم انفعال الماء؛ و أنّه «خُلق طهوراً لا ينجّسه شي ء» «4» إلّا القليل بلا مادّة، و الكثير المتغيّر.

و كون العموم «انفعال كلّ ماء قليل إلّا ذا مادّة» يحتاج إلى الدليل اللفظيّ، و مفاهيم أدلّة الكرّ قاصرة عن ذلك، كما مضى «5»، و كفاية الاصطياد

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 33 فصل في المياه، المسألة 2.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 129.

(3) العروة الوثقىٰ 2: 805 فصل في أحكام النكاح، المسألة 50.

(4) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(5) تقدّم في الصفحة 204 207.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 216

ممنوعة، و إلّا يلزم عليه تنجيس المردّد بين المطلق و المضاف عند الملاقاة، مع أنّه قال بطهارته.

و دعوىٰ: أنّ قضيّة انفعال الماء في الجملة، قابليّته بالطبع للنجاسة، و إلّا يلزم كون القلّة و هي الأمر العدميّ سبباً لقابليّته، فالجهات الأُخر مانعة عنها، غير مسموعة؛ لأنّ إيجاب الاجتناب عن الماء بعد الملاقاة، لا يدلّ على القابليّة.

و لو سلّمنا ذلك، فالقابليّة هي الإمكان الاستعداديّ المتّصف ب «القرب» و «البعد» و في الماء الكثير قابليّته، و هكذا في القليل، و الشرع أخذ مرتبة منها موضوعاً لحكمه، و لذلك ينجس الكثير بالتغيّر أيضاً، فلا دخالة لعنوان القلّة فيها.

فبالجملة: العدول عن ظاهر النبويّ إلىٰ ضدّه، غير ممكن، إلّا بوجه عقليّ و طريقة برهانيّة، لا بهذه الوجوه و الاعتبارات، فلا تغفل.

الوجه الثاني:

يمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة؛ بجواز التمسّك بقاعدة المقتضي و المانع «1»، و قد مرّ شطر

من البحث حول قاعدة الانفعال حسب ما اختاره الشيخ الأعظم (رحمه اللّٰه) في مسائل الماء المضاف، فراجع «2».

و تماميّة هذه القاعدة عند العقلاء في بعض الأُمور، لا تورث تمام المدّعىٰ في المقام، كما لا يخفى.

الوجه الثالث:

و هنا وجه ثالث اختاره بعض فضلاء مقاربي عصرنا.

______________________________

(1) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 83 84.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 217

و مجمله: أنّ التخصيص من الأحكام الإلزاميّة إذا كان علىٰ عنوان وجوديّ- مثل قولك: «لا تدخل علينا أحداً» ثمّ قال: «إلّا أصدقائي» ظاهر في كون الإحراز قيداً في المستثنىٰ، فعند الشكّ يصحّ التمسّك بالعمومات «1».

و قد مرّ ما يتعلّق به أيضاً في الماء المضاف، و علمت أنّه لو كان تامّاً عرفاً، فهو في الأحكام التكليفيّة «2»، لا مثل المقام؛ للزوم كون الماء المحرزة مادّته بالملاقاة، غيرَ نجس إذا كان العلم تمام الموضوع، و كان الماء بلا مادّة.

و إذا كان الإحراز جزء الموضوع، يلزم تنجّس ذي المادّة بالملاقاة إذا لم يحرز ذلك.

و دعوىٰ: أنّه بعد الإحراز يؤثّر الملاقاة السابقة، أعجب من هذه المقالة، بل يلزم اتصاف الماء الواحد بالنجاسة و الطهارة الواقعيّتين؛ حسب اختلاف حالات الأشخاص، فلا تغفل.

ثمّ إنّ الوجهين الأخيرين، ليسا مستندين لمثل الفقيه اليزديّ، القائل بنجاسة الماء في هذه المسألة، و طهارته في الفرضين الأخيرين المشار إليهما سابقاً «3».

ثمّ إنّ في المثال المذكور خلطاً بين احتياط العقلاء في الإذن في

______________________________

(1) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 102 103.

(3) تقدّم في الصفحة 215 216.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 218

التصرّف في مال الغير، و بين كون المقتضي

عنوان المقيّد.

كما أنّ قضيّة الاستصحاب، عدم جواز الإذن، لإخراج المورد عن عنوان الخاصّ به، فلا تختلط.

الوجه الرابع:

ثمّ إنّ هاهنا وجهاً رابعاً موقوفة تماميّته علىٰ كبرىٰ شرعيّة؛ و هي «أنّ الماء القليل ينجس، إلّا إذا كان ذا مادّة» و علىٰ جريان الأصل في العدم الأزليّ المشار إليه أيضاً سابقاً.

و أنت خبير: بأنّا لو سلّمنا الثاني لا يتمّ الأوّل؛ ضرورة أنّ قضيّة الجمع بين الكتاب و السنّة، يفيد أنّ كلّ ماء «خلق طهوراً لا ينجّسه شي ء» إلّا الماء القليل الذي لا مادّة له، و الكثير المتغيّر، علىٰ إشكال فيه، و قد مضىٰ «1».

و أمّا كون الكبرى الشرعيّة: «أنّ كلّ ماء قليل ينجس إلّا ذا مادّة» غافلًا عن العمومات الأوّلية الواردة في مطلق الماء، فهو ممنوع؛ لعدم جواز الغفلة عن الأدلّة، بل لا بدّ من الجمع العرفيّ أوّلًا، ثمّ إجراء الأُصول الموضوعيّة المنقّحة المورثة جوازَ التمسّك بالعمومات في الشبهات المصداقيّة؛ بمعنى إخراجها عن المشتبه تعبّداً.

فمفهوم أدلّة الكرّ و إن كان يفيد عموم تنجّس الماء القليل، و صحيحة ابن بزيع تخصّصه مثلًا، و لكنّه أيضاً مخصّص لعموم النبويّ «2»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 115 120.

(2) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 219

و لسائر ما ورد في عدم تنجّس جميع المياه على الإطلاق، فافهم و تدبّر جدّاً.

هذا، و في صحّة جريان الأُصول الموضوعيّة التي لا أثر لها و لا أثراً أُصوليّاً- و هو صحّة التمسّك بالعموم كما نحن فيه إشكال، بل منع، و قد منعنا عن جريان الأُصول في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً، و تفصيله في محلّه، فلاحظ و تأمّل جيّداً «1».

فالماء القليل المشكوك وجود

المادّة له، محكوم بالطهارة؛ لأجل الاستصحاب، و قاعدتها.

اشتراط ورود الماء المشكوكة مادته في التطهير به

و هل هذا إذا ورد على النجس يطهّره، أم لا؟ فيه وجهان:

من أنّ شرط المطهّرية هي الطهارة، و هي تحصل بالأصلين.

و من أنّ موضوع المطهّرية هو الماء الموصوف ب «الطاهر» و التوصيف لا يثبت بهما إلّا عقلًا.

و أمّا جريان استصحاب المطهّرية بنحو الإهمال، فغير كافٍ؛ لأنّه لا يطهر إذا ورد النجس عليه، فيكون المستصحب حكماً تعليقيّاً، فإن كان هذا مستفاداً من دليل شرعيّ، فلا بأس بجريانه، و إلّا ففيه إشكال.

فبالجملة: صارت الأقوال في المسألة ثلاثة: نجاسته، و طهارته دون مطهّريته، و معها.

و قد مضى الإيماء في بعض المقامات السابقة، إلى احتمال كون

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 8: 436.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 220

المشكوك كرّيته و اعتصامه بالمادّة، مطهّراً و لو بورود النجس عليه، و أنّ ما يتنجّس من المياه، هو القليل المحرز عدم وجود المادّة له، فلا تغفل.

الثانية: في تغيّر بعض الجاري
اشارة

لو تغيّر بعض الجاري؛ بحيث انفصل بين المادّة و بعض منه، الماءُ المتغيّر، فالذي هو المتّصل بها حكمه واضح؛ إمّا لكونه ذا مادّة، أو لكونه عالياً غير متغيّر كما توهّم «1».

و الذي هو المنفصل عنها بالمتغيّر و لو كان متّصلًا بمقدار يسير غايته، إن كان كرّاً فهو، و إلّا ففي كونه معتصماً إشكال، بل المتعرّضين منعوا عنه، و حكموا بانفعاله.

و فيه: أنّ «الجواهر» احتمل ذلك هنا «2» و في مسألة البئر «3»، و لعلّ نظره كان إلىٰ أنّ الفصل التكوينيّ، يورث عدم صدق «ذي المادّة» على المقدار المنفصل، أو عدم صدق «الجاري» عليه، و الفصل بالماء النجس لا يورث الانفصال إلّا بالدليل، و هو مفقود؛ لعدم ما ينهض في الأدلّة علىٰ لحوق الفصل به بالفصل بالجدار و نحوه تعبّداً، أو علىٰ أنّ الماء المتوسّط

بين القليل و المادّة، لا بدّ و أن يكون طاهراً.

بل لو كان الفصل بالنجاسة مضرّاً، فهو ليس لأجل الأمر

______________________________

(1) لاحظ جواهر الكلام 1: 89، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 140.

(2) جواهر الكلام 1: 89.

(3) جواهر الكلام 1: 270.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 221

الاعتباريّ، بل هو لأجل التغيّر الموجب لانقسام الماء عرفاً في الوهم، لا في الخارج، بل هو لأجل عروض الطعم أو اللّون، و هذا يستلزم عدم الفرق بين المتغيّر بالنجس و عدمه، و هم غير ملتزمين به قطعاً.

توهّم و دفع

و توهّم: أنّه لا بدّ من كون الماء ذي مادّة، مستمدّاً من المادّة؛ بمعنى أنّه إذا نقص منه شي ء، فيتمّ بالمادّة «1»، فهو مضافاً إلىٰ عدم تماميّة كبراه لعدم الدليل علىٰ هذه الشرطيّة يلزم نجاسة الماء القليل الواقع وراء الماء الطاهر المدسوم؛ فإنّ الدسوسة تمنع عن إتمام ما نقص، و لا يمكن الالتزام بالنجاسة.

مع أنّه في مفروض المسألة، يتمّ ما نقص بالنجس، و لا دليل علىٰ أنّه لا بدّ و أن يتمّ بالطاهر؛ فإنّه أوّل البحث، فلا تغفل.

فبالجملة: العرف يحكم «بأنّ هذا الماء ذو مادّة، و بعضاً منه مع كونه ذا مادّة نجس» و هذا لا يوجب انقطاع الماء عن المادّة بالضرورة.

مقتضى الأُصول العملية في المقام

ثمّ إنّ قضيّة الأُصول العمليّة اعتصامه؛ لأنّه كان قبل التغيّر ذا مادّة، و الآن كما كان، و منشأ الشبهة في أنّ هذا النحو من الفصل، يضرّ بالصدق أم لا.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 147.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 222

و أمّا توهّم: أنّ ذلك لأجل الشبهة المفهوميّة في الاتصال، الذي هو الشرط في اعتصام الجاري و ذي المادّة «1»، فهو فاسد؛ لعدم كونه داخلًا في الأدلّة اللفظيّة، و قد مرّ أنّ الاتصال ليس بالمعنى المعروف شرطاً، بل المناط صدق «ذي المادّة» و هذا يستلزم الاتصال؛ لعدم صدقه على المنقطع عنه، كما لا يخفى «2».

و في المسألة مباحث أُخر مربوطة بالمسائل العمليّة، يطول الكتاب بذكرها.

هذا، و ما أفاده «الجواهر»: «من إجمال المورد، و الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة» «3» مع أنّ قضيّة ما تحرّر عندهم، هو الرجوع إلىٰ عموم «الماء القليل ينجس» موافق لما تقرّر عندي؛ من سراية الإجمال إلى العامّ، و التفصيل في محلّه «4».

و ما قيل: «من أنّ التمسّك

بالاستصحاب في غير محلّه؛ لعدم جريانه في الشبهة المفهوميّة» «5» غير تامّ أيضاً؛ لما تحصل منّا جريانه إلّا في بعض الفروض.

و توهّم عدم جريانه؛ لأنّ المتيقّن هو مجموع الماء، و مجرى الاستصحاب بعضه، غير كافٍ؛ لأنّ تحليل اليقين إلى الأجزاء، بمكان من

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 121.

(2) تقدّم في الصفحة 185.

(3) جواهر الكلام 1: 89.

(4) تحريرات في الأُصول 5: 232.

(5) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 122.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 223

الإمكان، و هذا كافٍ في جريان الاستصحاب، كما لا يخفىٰ.

و مثله توهّم: أنّ المسألة من صغريات مسألة دوران الأمر بين عموم العامّ، و استصحابِ حكم المخصّص «1»؛ ضرورة أنّ تلك المسألة في مورد عدم وجود الإطلاق للدليل المخصّص، لا في موقف الشبهة المفهوميّة، فإنّه عند الأكثر غير جارٍ رأساً، و إذا قلنا بجريانه، فهو من الاستصحاب المنقّح حال الشبهة المصداقيّة، فلا تصل النوبة إلى العموم، فالبحث هناك في تعارض الاستصحاب الحكميّ و عموم العامّ، لا الموضوعيّ، فلا تغفل و تدبّر.

الثالثة: في حكم الراكد المتّصل بالجاري
اشارة

الراكد المتّصل بالجاري، كالجاري عند من تعرّض له «2»، فالحوض المتّصل بالنهر بساقية، يلحقه حكمه و هو الاعتصام، و أمّا سائر أحكام الجاري المترتّبة علىٰ عنوانه بناءً على اختصاصه بها فغير مترتّبة؛ لأنّه الواقف، و لا يعقل كونه واحداً مع الجاري موضوعاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف حال اتصاله به و وروده عليه، يراه جارياً، و يصفه به.

و قد يشكل: بأنّ قضيّة الصناعة عدم اعتصامه، و مثله أطراف النهر؛ لأنّ اعتصام هذا الماء ينحصر بكونه إمّا ملحقاً موضوعاً

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 121.

(2) العروة الوثقىٰ 1:

34 فصل في المياه، المسألة 6، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 139.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 224

بالجاري، أو حكماً:

أمّا موضوعاً؛ فإنّه غير ما في النهر بالضرورة، و العرف لا يعقل أن يحكم على الواقف الساكن «أنّه الجاري».

و أمّا حكماً، فكونه ذا مادّة ممنوع؛ لأنّ ما هو مادّته ليس في النهر عرفاً، و ما في المنبع و الجبال ليس مادّته؛ لفصله بالأجنبيّ؛ و هو الماء المتخالف معه في الوصف التكوينيّ، و هي الحركة و السكون، فما في أطراف النهر إذا كان واقفاً، ينجس بملاقاة النجس؛ لأنّه ليس بجارٍ، و لا بذي مادّة.

نعم، بناءً علىٰ كفاية مطلق المادّة حتّى مثله فهو، و لكنّه ممنوع حتّى عندنا.

و ما في الحوض لا يعتصم بالوارد؛ فإنّ تقوّي السافل بالعالي لو كان أمراً عرفيّاً كلّياً، لما كان يحتاج في ماء الحمّام إلى الدليل التعبّدي، فما في الحوض إذا كان قليلًا، و كان الماء الجاري الوارد عليه أيضاً قليلًا ذا مادّة، فهو مثل الحمّام الذي كانت خزانته كرّاً، فما حكم به الأصحاب لا يخلو من شائبة إشكال.

حكم الماء الموجود في أطراف النهر

ثمّ إنّ ما في أطراف النهر، تارة: يتبدّل فيه الماء بالأمواج، فله لإلحاقه به وجه، و لكنّه إذا كان واقفاً ينتن بعد مدّة، فإنّه كيف يتقوّىٰ بما في جواره إذا كان لا يحكم عليهما بالوحدة؟! و إلّا فهو معلوم الحكم.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 225

هذا، و لكن الوجدان في هذه المسألة على الاعتصام، و في المسألة السابقة علىٰ حكم العرف بعدمه.

و هل المتّبع هي الصناعة، أم حكم العرف و المغروسات الذهنيّة، خصوصاً في هذه المواقف؟ وجهان، لا يبعد الثاني، فتأمّل.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 227

المبحث الخامس في الماء الراكد

اشارة

و البحث فيه يتمّ في ضمن أُمور:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 229

الأمر الأوّل في الماء القليل
اشارة

لا شبهة في أنّه إذا بلغ إلىٰ حدّ الكرّ، لا ينجس بالملاقاة، و الاختلافُ في حدّ الكرّ، ليس من الاختلاف في هذه المسألة، فالقائل بعدم انفعال ما دون حدٍّ، ليس من القائلين بانفعال القليل، بل القائل بأنّ الكثير لا ينفعل، لا يعدّ من القائل به؛ لأنّه أخذ عنوانه حدّا، و أوكل الأمر إلى العرف. و هذا هو المحكيّ «1» عن بعض العامّة؛ كابن سيرين، و مسروق «2».

و أمّا إذا لم يبلغه، و لم يكن ذا مادّة واقعيّة أو تعبّدية، فالمسلمون اختلفوا في حكمه، و الظاهر أنّ كل من اعتبر الحدّ، فلا بدّ أن يقول: إمّا بالنجاسة فيما دونه، أو ممنوعيّة الاستعمال في الجملة، أو التفصيل، فما قد يظهر من نسبة القول بالطهارة إلى القائل بالحدّ، قابل للجمع، فتأمّل.

______________________________

(1) المجموع 1: 113/ السطر الأوّل.

(2) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 230

أقوال العامة في الماء القليل

فبالجملة: فعن أبي حنيفة التفصيل بين القليل البالغ إلىٰ حدّ يتحرّك أحد الجانبين بملاقاة الجانب الآخر فينجس، و إلّا فلا «1».

و لا يخفىٰ سخافته، إلّا أنّ المقصود دفع ما قيل: «من نسبة النجاسة إليه على الإطلاق».

و قال مالك بالطهارة، و بها قال جمع منهم، كالحسن البصريّ، و إبراهيم النخعيّ، و داود «2»، و هم أقدم علىٰ أرباب المذاهب الأربعة، فأبو حنيفة تبعهم في الطهارة، إلّا أنّ إخراج القليل الساري فيه النجاسة، اجتهاد منه.

و أمّا نسبة اشتهار الطهارة إليهم كما في «مفتاح الكرامة» «3» فغير تامّ؛ لذهاب الأقدمين منهم إلى التحديد في الكرّ.

فعن ابن عباس و ابن عمر و أبي هريرة و سعيد بن جبير و مجاهد و أحمد و إسحاق و أبي عبيدة و أبي ثور، اعتبار القلّتين

«4»، فمنه يعلم أنّ المخالفين مختلفون في المسألة.

كما يعلم منه وقوع البحث في عصر الخلفاء، خلافاً لما يأتي عن

______________________________

(1) الخلاف 1: 192، المغني، ابن قدامة 1: 25/ السطر 17، المجموع 1: 113/ السطر 3.

(2) المجموع 1: 113/ السطر 7.

(3) مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 5.

(4) الخلاف 1: 191.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 231

الكاشانيّ (رحمه الهّٰى) «1».

و الذي هو المهمّ في المقام، الاطلاع على آرائهم؛ لاحتياجنا إليها في فهم المسألة من أخبارنا و ما وصل إلينا، فلا تغفل.

ثمّ وصلت النوبة إلى الشافعيّ، فهو مضطرب القول، و مفصّل في الفروع الكثيرة، و قيل: «المعروف منه هي النجاسة» «2» و هو غير بعيد، علىٰ ما يظهر من أقواله في تطهير الماء القليل «3»، و لكنّه حكي عنه القول بالطهارة أيضاً «4».

و هكذا ابن حنبل «5»، و لكنّه أيضاً يقرب منّا.

فتحصّل: أنّ من الممكن كونَ كثير من الروايات الواردة في الطهارة فرضاً، ناظرةً إلىٰ فتواهم تقيّة، خصوصاً فيما صدر من الصادقين (عليهما السّلام) بل و الكاظم و الرضا (عليهما السّلام).

اللّهمّ إلّا أن يقال: ذهاب جمع من القدماء و الأقدمين إلى النجاسة «6»، يمنع عن صدور الرواية تقيّة؛ لأنّ مخالفة المتّقىٰ منه معهم، كافية في خلاف المتّقي معه.

إلّا أن يقال: بأنّهم قائلون بالتحديد في الكرّ، و هو أعمّ من النجاسة، فتدبّر.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 259.

(2) مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.

(3) الخلاف 1: 194، كتاب الام (مختصر المزني): 9.

(4) لاحظ تذكرة الفقهاء 1: 22، فتح العزيز 1: 209.

(5) لاحظ المغني، ابن قدامة 1: 24/ السطر 14.

(6) مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 22 و 74/ السطر 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 232

أقوال أصحابنا في الماء القليل

ثمّ إنّ أصحابنا

أيضاً اختلفوا، فالذي هو المشهور، و عليه الإجماعات الكثيرة «1» البالغة إلىٰ ثلاثين «2» أو أكثر، هي النجاسة، من دون فرق بين النجاسة و المتنجّس.

و في قبالهم ما نسب إلى العمّاني «3»، و القاضي نعمان أبي حنيفة الشيعيّ «4»، بل و الكلينيّ و الصدوق من الطهارة «5»، و لكنّه غير تامّ في الأخيرين، و ظاهر الثاني أنّه من المفصّلين «6».

و قيل: «إنّ الأوّل ذهب إلىٰ تنجّس القليل مطلقاً، لا جواز استعماله كذلك و لو مع الامتزاج» انتهىٰ.

و لعلّه ظاهر جمع ممّن منع الاستعمال، و هو لا يستلزم النجاسة كما لا يخفى.

فما في «المقابيس» من نسبة الطهارة إلىٰ هؤلاء الأعاظم «7»، غير

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 38، الحدائق الناضرة 1: 280، جواهر الكلام 1: 105، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 141.

(2) مفتاح الكرامة 1: 72، مهذّب الأحكام 1: 168.

(3) مهذّب البارع 1: 79، لاحظ مختلف الشيعة: 2/ السطر 10.

(4) دعائم الإسلام 1: 111 112، مقابس الأنوار: 65/ السطر 35.

(5) مقابس الأنوار: 66/ السطر 22 و 26.

(6) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 15، الفقيه 1: 6.

(7) مقابس الأنوار: 65 66.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 233

موافق للتحقيق، نعم هو مختار جمع من المتأخّرين «1»، فتأمّل.

و عن الشيخ في «المبسوط» التفصيل بين النجاسة التي يدركها الطرف و غيرها «2».

و في «الاستبصار» التفصيل بين ما لا يدركه الطرف من الدم و غيره «3»، و هذا هو المنسوب إلىٰ كثير من الناس في «غاية المراد» «4» و منهم «المدارك» (رحمه اللّٰه) «5» بل هو المنسوب إلى المحقّق في «النافع» «6».

و عن الفاضل الخراسانيّ صاحب «الكفاية» التفصيل بين النجاسة و المتنجّس لولا الإجماع «7».

و أمّا جعل القول بطهارة الغسالة

من الأقوال في هذه المسألة، فغير مناسب؛ لما يظهر من عقد الباب، و لكنّه ممّا لا مشاحّة فيه، و عندئذٍ يلحق السيّد (رحمه اللّٰه) في «الناصريّات» بالمفصّلين بين الوارد و المورود «8»، و تبعه جماعة كالحلّي في «السرائر» «9» و وافقهم من العامّة الشافعيّ «10».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 73/ السطر 27.

(2) المبسوط 1: 7.

(3) الاستبصار 1: 23، ذيل الحديث 57.

(4) مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 6.

(5) مدارك الأحكام 1: 139 140.

(6) مستند الشيعة 1: 35، المختصر النافع: 4.

(7) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(8) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215/ السطر 9.

(9) السرائر 1: 180 181.

(10) المجموع 1: 137 138.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 234

الأمر الثاني: في وجوه القول بعدم تنجّس القليل بالملاقاة
الوجهان الأوّل و الثاني:

حجّة القائلين بالطهارة مضافاً إلى اقتضاء الأصل، المطلقات الآبية عن التقييد، مثل النبويّ المسند و العلويّ: «الماء يطهِّر و لا يطهَّر» «1» فإنّ الظاهر من الجملة الثانية بعد مراعاة المناسبة بين الماء و صفته المطهّرية أنّه لا يتنجّس حتّى يحتاج إلى التطهير، فما هو بطبعه مطهّر لا يقبل النجاسة.

و يؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: «ليس ينجِّس الماءَ شي ءٌ» «2».

و عن الصادق (عليه السّلام) «فإنّ الماء لا ينجّسه شي ءٌ» «3».

و عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «الماء لا ينجِّسه شي ءٌ» «4».

هذا، و لكن في الرواية محتملات أُخر، ربّما تبلغ إلىٰ أكثر من عشرين،

______________________________

(1) المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135 كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

(2) دعائم الإسلام 1: 111، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 5.

(3) نفس المصدر، الحديث 6.

(4) عوالي اللآلي 1: 76/ 153، مستدرك الوسائل

1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 235

و استظهار المعنى الواحد مشكل جدّاً.

الوجه الثالث:

النبويّ المشهور بين الأصحاب المذكور سابقاً: «خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه أو ريحه أو طعمه» «1».

فإنّ الحصر يفيد طهارة القليل الملاقي مع النجس، و هو الآبي عن التقييد، بل الاستثناء يؤكّد العموم، و يورث نصوصيّة المستثنىٰ منه فيما عداه، و لا يكون الجمع بينه و بين ما هو الأخصّ منه من الجمع العرفيّ؛ و ذلك لأجل أنّ حجّية مفهوم الحصر مستندة إلى التبادر، و هو لا يكون إلّا في الموضوع له، فعليه تكون هيئة الاستثناء، ظاهرةً في نفي غير المستثنىٰ، و حصرِ المقصود في المستثنىٰ حصراً حقيقيّا لا إضافيّاً غيرَ قابل للتخصيص.

و جميع المآثير المشتملة علىٰ توصيف الماء ب «الطهور» «2» فإنّه ليس إلّا لأجل زيادة أمر فيه؛ إمّا عدم قابليّته للنجاسة، أو مطهّريته للغير، أو هما معاً.

و الظاهر من قوله: «لا ينجّسه شي ء» أنّه من الآثار المترتّبة علىٰ كونه

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة 1: 133 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 1 و 4 و 8 و 9 و 10، و الباب 2، الحديث 1 و 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 236

طهوراً، كما في قولك: «الخمر مسكر حرام» فإنّ الحرمة فيه معلول الإسكار، و نجاسةُ المتغيّر بالدليل المتّصل، لا تنافي إباءه عن التقييد بالمنفصل، فهذا التوصيف يأبىٰ عن إخراج القليل بإثبات انفعاله.

و إن شئت قلت: هذه الطائفة في مقام الامتنان، و أيّ امتنان

أعظم من عصمة الماء القليل الذي هو الأكثر ابتلاء؟! و إخراجه من تلك الأدلّة خلاف الامتنان الظاهر من تلك الأدلّة.

و دعوىٰ عدم إطلاقها؛ لأنّها في مقام إثبات التشريع، بحذاء ما ورد من قرض الأُمم السابقة لحومَهم، غير مسموعة؛ لأنّ المآثير مختلفة، و قصّة القرض ممنوعة عقلًا و إن وردت به المآثير الصحيحة، و مقتضى الامتنان هو الإطلاق الآبي عن التقييد، فتدبّر.

هذه هي الوجوه الثلاثة.

الوجه الرابع:
اشارة

و هو العمدة الطوائف المختلفة من الروايات:

الطائفة الأُولىٰ: الروايات المقسّمة للماء

و هي التي تكون ظاهرة في أنّ الماء قسمان: ماء متغيّر، و ماء غير متغيّر، أو ماء غالب، و ماء مغلوب، أو ماء قاهر، و ماء مقهور، بالنسبة إلىٰ أوصاف النجاسة و النجس هو الأوّل في الأوّل، و الثاني في الأخيرين.

و توهّم: أنّ الموضوع لهذا التقسيم، هو «الماء الكثير» فيكون

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 237

القليل خارجاً عنه؛ لأنّ المفروض فيها هي المياه الموجودة في الغدير، و الحياض الكبيرة في أوساط البلد، و النقيع الواقع أطراف الطريق و هكذا «1»، غير تامّ بعد التدبّر فيما أفاده المعصوم (عليه السّلام) بعد السؤال عن تلك المياه، ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ.

فقال: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ و لا تشرب ..» «2».

فإنّ إعادة كلمة «الماء» من غير توصيفه ب «النقيع» شاهد علىٰ أنّ الحكم لمطلق الماء، دون الماء الخاصّ. و مثلها غيرها.

و إسراء خصوصيّات المورد إلىٰ هذه الكلّيات في الجواب، غير جائز قطعاً، كما أنّ النظر إلىٰ خصوصيّات الأسئلة دون القيود الواردة في الأجوبة غير تامّ.

و لك دعوى: أنّ انصراف «النقيع» و «الغدير» و «الحياض» إلىٰ ما فوق الكرّ بحيث كان يصحّ اتّكاء المتكلّم عليه، و لا يكون ترك الاستفصال دليلًا على الإطلاق ممنوع جدّاً؛ لشهادة السؤال في الغدير عن عمقه في روايات الكرّ، فراجع «3».

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 129، مهذّب الأحكام 1: 173.

(2) تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة

1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 238

و العجب من المستشكلين علىٰ هذه الطائفة!! «1» و كأنّهم بنوا علىٰ عدم وجود إطلاق يقتضي عدم انفعال القليل، و لكنّه غير صحيح جدّاً.

الطائفة الثانية: الروايات المتفرّقة

فمنها: رواية زرارة، عن الباقر (عليه السّلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جُرَذ أو صَعْوَة ميّتة.

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ، فصبّها، و إذا كان غير متفسّخ فاشرب منه، و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القربة؛ و أشباه ذلك من أوعية المياه».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية، لم ينجّسه شي ء، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء» «2».

و هي لو سلم سندها من الإشكال في عليّ بن حديد من عدم التوثيق «3»، و تمّمت دلالتها من غير لزوم اضطراب؛ بدعوى التفكيك بين الجملة الأخيرة و الأولى و أنّهما في مجلسين إلّا أنّ زرارة أردف بينهما، و دعوىٰ أنّ «التفسّخ» إمّا التغيّر في الجملة الأُولىٰ، أو يكون المنهيّ عنه لاستلزامه شرب الأجزاء النجسة و ملاقاةَ الأعضاء في الوضوء معها كما لا

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 173.

(2) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

(3) معجم رجال الحديث 11: 302.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 239

يبعد، فهي تدلّ على انفعال القليل.

و لكنّه حسب هذه الرواية، إذا كان بمقدار الظروف العاديّة، دون الظروف و الأوعية المزبورة فيها، فقوله: «أشباه ذلك»

لا يشمل الصغار منها قطعاً، فتكون هذه الرواية من معارضات أخبار الكرّ، و من مؤيّدات القائلين بأنّ المراد من أخبار الكرّ، هي الكثرة العرفيّة قبال القلّة، و قد مضى أنّ من العامّة من يقول بذلك «1».

فبالجملة: لا تفي بتمام المقصود؛ و هو طهارة القليل أيَّ قليل كان بالضرورة، و سيأتي البحث حولها في محلّها «2».

و منها: مصحّحة «المستند» عن محمّد بن مروان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «لو أنّ ميزابين سالا، أحدهما: ميزاب بول، و الآخر ميزاب ماء، فاختلطا، ثمّ أصابك، ما كان به بأس» «3».

و حملها علىٰ ماء المطر؛ بقرينة صحيحة هشام بن الحكم «4»، غير تامّ، و التدبّر حول مفادهما و خصوصيّات المدينة، و أنّ السطوح كانت مبالًا و مَغْسِلًا، يورث الاطمئنان بأنّ المقصود ليس ماء المطر حال التقاطر، بل لا معنىٰ لذلك بعد فرض اختلاط ماء الميزاب و البول، فإنّه حينئذٍ كان يفرض

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229.

(2) يأتي في الصفحة 280.

(3) الكافي 3: 12/ 2، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 6.

(4) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 240

اختلاط ماء المطر و البول.

و لو لا ضعف السند الأوّل بمجهوليّة عدّة «الكافي» لأنّ أحمد بن محمّد على الظاهر ليس ابن خالد، و لا ابن عيسىٰ، و بغيره الواقع في أواخر السند، لكان دلالته تامّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بظهور الثاني في القليل مع انقطاع المطر أيضاً، كما عرفت.

و العجب من تصحيح النراقيّ (رحمه اللّٰه) الرواية الأُولىٰ «1»!! و هو غفلة قطعاً.

و منها: صحيحة عليّ بن جعفر، عن

أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار ذلك الدم قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه، و لم يستبن ذلك في الماء، هل يصلح له الوضوء منه؟

فقال: «إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه».

قال: و سألته عن رجل رعف و هو يتوضّأ، فتقطر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟

قال: «لا» «2».

و هي كما يستدلّ بها علىٰ نجاسة القليل على الإطلاق «3»، يستدلّ بها على

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 25.

(2) الكافي 3: 74/ 16، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 1، ليس فيهما جملة «و لم يستبن ذلك في الماء»، نعم وردت هذه الجملة في الوسائل الطبعة الحجرية 1: 79/ السطر 34 35.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 124.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 241

مرام الشيخ؛ من التفصيل المذكور سابقاً «1»، و يستدلّ بها علىٰ عدم الانفعال.

و غاية ما يمكن تقريبه: هو أنّ الظاهر إصابة الدّم بالماء، و الجواب نصّ في عدم انفعاله، و ظاهر الجملة الثانية هي نجاسة الماء.

و لكنّه ممنوع؛ لعدم الملازمة بين النهي و النجاسة، كما في الماء المستعمل في الحدث، و الذي استنجي به، بل لك حمل الهيئة على الكراهة؛ لأنّ الأمر في الاولىٰ ليس للوجوب، بل هو للرخصة.

و التفكيك بين الجملتين باختيار مذهب الشيخ مستلزم للفقه الجديد؛ لأنّ الأدلّة قاصرة عن نجاسة كلّ شي ء بكلّ نجس، و الالتزام بالتفكيك و إن يلازم الجمع العرفيّ بين الأدلّة، و لكنّه غير صحيح قطعاً.

فالنهي هنا كالنهي عن الصلاة في عرق الجنب «2»، فكيف حملوه هناك علىٰ

ممنوعيّته فيها، و لا يحملونه هنا علىٰ شرطيّة أمر في ماء يتوضّأ به؟! و من المحتمل أن يكون الأمر بالتوضّي؛ لأجل عدم نجاسة الأجزاء الصغار، فتكون الرواية خارجة عن محلّ البحث.

و لو كان المدار على الاستبانة في هذه الرواية، يستلزم بعض الإشكالات الأُخر، كما لا يخفىٰ. و تأتي زيادة تفصيل حولها عند ذكر مذهب الشيخ (قدّس سرّه) «3».

و دعوىٰ: أنّ إصابة الإناء، أعمّ من إصابة الظرف و المظروف «4»، غير

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 233.

(2) وسائل الشيعة 3: 447، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 12.

(3) يأتي في الصفحة 265 267.

(4) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 148.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 242

مسموعة؛ لأنّه كقوله في ذيله: «قطرة في إنائه».

و لكن الإنصاف: قصورها عمّا نحن بصدده؛ لقول السائل: «و لم يستبن ذلك في الماء» فإنّه عندئذٍ لا معنىٰ لتفصيل الإمام (عليه السّلام) في الجواب، و من استدلّ به لهم غفل عن هذه الجملة، و لذلك حكى الرواية بدونها، فيعلم منه أنّ الجهة المسئول عنها مبهمة؛ من حيث أنّ الملاقى بالفتح نفس الإناء، أو ما فيه، و لذلك اختلف التعبيران صدراً و ذيلًا، و الجملة الثالثة كأنّها زيادة من الراوي في هذه الرواية بعد سماعه عنه (عليه السّلام) في مجلس آخر، فتدبّر.

و لو سلّمنا أنّ النسخ الأصليّة غير مشتملة على قول السائل: «و لم يستبن ذلك في الماء» فتكون الرواية مجملة، فليتأمّل.

و منها: معتبر محمّد بن ميسرة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل الجنب، ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به، و يداه قذرتان.

قال: «يضع يده، ثمّ يتوضّأ، ثمّ يغتسل؛

هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1»» «2».

و هي بناءً علىٰ كون المراد من «الماء القليل» ما كان أقلّ من الكرّ، و أنّ المراد من «القذارة» هي الشرعيّة، و أنّ المقصود من قوله: «يضع

______________________________

(1) الحجّ (22): 78.

(2) الكافي 3: 4/ 2، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 243

يده» أي يدخل في الماء، و من قوله: «يتوضّأ» أي يتطهّر تدلّ علىٰ عدم الانفعال لولا قوله: «هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ ..» فإنّه بظاهره، دليل علىٰ مرفوعيّة شرطيّة طهارة الماء للتطهير به و الغسل به؛ لأنّه هو جَعْل اللّٰه تعالىٰ، و هو الموجب للحرج، فلا دلالة بعد ذلك على الطهارة المعقودة في المسألة.

و أمّا لزوم نجاسة البدن، فهو غير مضرّ بعد مرفوعيّة شرطيّة الطهارة، فإنّها أيضاً مرفوعة للاستلزام، فتكون الرواية حينئذٍ من المعارضات لما دلّ علىٰ شرطيّة الطهارة؛ من الأمر بالإراقة و نحوها «1».

و من القريب جدّاً كون المراد من «وضع اليد» صرف النظر عنه و استثناءه من الأعضاء الواجب غسلها، فتجب سائر الأعضاء؛ لقوله تعالىٰ، و عليه تحمل الرواية علىٰ صورة اختصاص القذارة الخبثيّة باليدين، و تكون سائر الأعضاء طاهرةً، و هو فرض بعيد، و لكنّه لا ينافيه ظاهر الحديث.

و يحتمل إفادتها إيجاب التيمّم؛ لأنّه يريد من الأمر ب «الوضع» صرف النظر عن الغسل، و من قوله تعالىٰ التيمّم، كما في رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التَّوْر، فيدخل إصبعه فيه.

قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه، و إن كان لم يصبها

قذر فليغتسل منه؛

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 151 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 4 و 10 و 11 و 14.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 244

هذا ممّا قال اللّٰه تعالىٰ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «1».

فإنّ الآية تناسب قوله (عليه السّلام): «أهرقه» فهو بمنزلة قوله (عليه السّلام): «يضع يده».

و إرادة وضع اليد من الماء من هذه الجملة، بعيدة جدّاً؛ لبعدها عن المتعارف في المستعملات المأنوسة.

مع أنّه من المحتمل إرادة وضع اليد عن الماء؛ أي الإعراض عنه، لا فيه، فتكون الجملة مجملة.

و لا يبعد أن يراد من «القليل» هو الأقلّ من الكرّ، و كأنّه حكم معروف عند السائل، و كان يرىٰ نجاسة الماء بيده القذرة مع عدم تمكّنه من التطهير بالإناء، فوقع في حيص و بيص، فسأل عمّا سأل، فالرواية تشهد علىٰ معروفيّة نجاسة القليل، و تدلّ علىٰ أنّ الوظيفة هو التيمّم، ثمّ بعد ذلك يتطهّر و يغتسل، فالإتيان بكلمة «ثمّ» دليل على التراخي.

و أمّا ما ذكره القوم من: أنّها تدلّ علىٰ طهارة الماء حال الضرورة، فلا تفي بتمام مطلوب العمّاني و أصحابه «2»، فهو غير تامّ؛ لأنّه ربّما أُريد من الآية الشريفة، نفي تنجّس القليل؛ لأنّ نجاسته ضيق و حرج، و مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» و هذا القبيل من الاستدلال كثير في المآثير و الأخبار.

و منها: رواية أبي مريم الأنصاريّ، قال: كنت مع أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 37/ 100، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 11.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 31.

(3) الحجّ (22): 78.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1،

ص: 245

حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلواً للوضوء من رَكيّ له، فخرج عليه قطعة من عَذِرة يابسة، فاكفىٰ رأسه، و توضّأ بالباقي «1».

دلالتها منوطة بحمل «العَذِرة» علىٰ نوع النجس منها، و هو مشكل، و انصرافها إليه غير واضح بعد أعمّيّة الموضوع له.

مع أنّ السند مجهول «2» و مخلوط «3».

و الالتزام بمفاده بالنسبة إلىٰ حضرته عليه الصلاة و السلام، في غاية الإشكال في حدّ نفسه، مع أنّه لا يثبت عدم تنجيس النجس الماءَ القليل؛ لأنّ الملاقاة كانت في البئر، و هي لا تنجس، و بعد انقطاع الماء بالدلو لا ملاقاة حتّى تستلزم النجاسة، فلعلّ المعنى المصدريّ دخيل في ذلك شرعاً، فلا تغفل.

و منها: الطائفة الكثيرة التي مضمونها ما في «الفقيه» قال: سُئل الصادق (عليه السّلام) عن الماء الساكن يكون فيه الجيفة.

قال: «يتوضّأ من الجانب الآخر، و لا يتوضّأ من جانب الجيفة» «4».

قال: و أتى أهل البادية رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقالوا: يا رسول

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 416/ 1313، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 12.

(2) عبد الرحمن بن حمّاد الكوفي و أبو مريم الأنصاري لم يوثقا في كتب الرجال قال ابن الغضائري: عبد الرحمن بن حمّاد ضعيف.

معجم رجال الحديث 9: 293 و 322.

(3) لأنّه روى هذا الخبر بعينه، سعد عن موسى بن الحسن عن أبي القاسم عن عبد الرحمن بن حمّاد الكوفي في نسخة اخرىٰ، جامع الرواة 1: 449.

(4) الفقيه 1: 12/ 21.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 246

اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إنّ حياضنا هذه تردها السباع و الكلاب و البهائم.

فقال لهم رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه

و آله و سلّم): «لها ما أخذت أفواهها، و لكم سائر ذلك» «1».

و إطلاق هذه الطائفة، يورث طهارة القليل منها.

و يمكن دعوى ظهورها في الكثير البالغ أكراراً؛ لأنّه المتعارف في الحياض التي تردها هذه الحيوانات «2»، و في نفس هذه الأخبار ما يومئ إلىٰ خلاف مقصودهم؛ لأنّه في صحيحة صفوان بن مِهْران الجمّال قال: «و كم قدر الماء؟».

قال: إلىٰ نصف الساق، و إلى الركبة.

فقال: «توضّأ منه» «3».

فإنّه مضافاً إلىٰ دلالتها علىٰ تقسيم الماء إلى الماءين، تومئ إلىٰ أنّ الحياض كبيرة و ليست من قبيل حياضنا في دورنا، و لا أظنّ التزام القائل بطهارة القليل بدلالة مثلها علىٰ مقصوده.

و منها: ما رواه يونس عن بكّار بن أبي بكر، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحبّ في مكان قذر، ثمّ يدخله الحبّ.

قال: «يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ، ثمّ يدلك الكوز» «4».

______________________________

(1) الفقيه 1: 8/ 10.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة: 15/ السطر 21.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

(4) الكافي 3: 12/ 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 247

و هي ربّما تدلّ على الانفعال؛ لأنّ الأمر بالصبّ على الكوز و الدلك، دليل علىٰ تنجّس ما في الحبّ به عرفاً، و تنجّسِ الكوز بالقذر الموجود في المحلّ، و لا معنىٰ للمراجعة إليهم (عليهم السّلام) في المسائل العاديّة.

و يمكن دعوى: أنّه ابتلي بذلك فأدخله، فقال (عليه السّلام) بلزوم الصبّ؛ لرفع الإشكال، و لزوم الدلك لئلّا يلزم بعد ذلك، فيعلم منه عدم تنجّس ماء الحبّ.

و يشهد لذلك

مضافاً إلىٰ قوله: «يدخله» قوله في نسخة اخرىٰ: «ثلاثة أكواز بذلك الكوز» «1» فإنّه عندئذٍ يتعيّن ظهوره في عدم تنجّسه، و لكن الرواية مجهولة السند و مختلطة، فليراجع.

و منها: معتبرة زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يُستقىٰ به الماء من البئر، هل يتوضّأ من ذلك الماء؟

قال: «لا بأس» «2».

و لا شبهة في ظهورها في حدّ ذاتها، في أنّ المشار إليه، الماء الخارج الممكن التوضّي به فعلًا، لا الداخل الخارج عن محلّ الابتلاء، و لا وجه لبناء الأصحاب علىٰ تخريب ما استدلّ به خصمهم على الطهارة «3»؛ فإنّه خالٍ عن الإنصاف، و لذلك الظهور التزم السيّد بطهارة شعر

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 6، جامع الأحاديث 2: 23، كتاب الطهارة، أبواب المياه، الباب 6، الحديث 13، الهامش 2.

(2) الكافي 3: 6/ 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 2.

(3) مستند الشيعة 1: 47.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 248

الخنزير، علىٰ ما نسب إليه «1».

و في بعض المآثير ما يدلّ علىٰ أنّ الفرض من السؤال، الانتفاع بماء البئر «2»، و لكنّه غير كافٍ لصرف هذا الظاهر؛ لإمكان الأسئلة الكثيرة جوانب الموضوع الواحد.

نعم، هي لا تدلّ علىٰ عدم تنجّس القليل بملاقاة عين النجس؛ لأنّ القطرة المتنجّسة بالشعر، ربّما لا تورث النجاسة، فلا دلالة لها علىٰ ما هو المقصود.

كما أنّ دعوى القطع بوقوع القطرة في كلّ دلو من الحبل، غير مسموعة، و العلم الإجماليّ في مثله لا ينفع، كما لا يخفى، فليس المفروض في السؤال وقوعها فيه حتّى ينتفع به الخصم، كما لا يخفى.

كما ليس المفروض اتصال الحبل بالماء في الدلو، بل المتعارف

خلافه.

و في الرواية احتمالات أُخر:

منها: أنّه سأل بقوله: «هل يتوضّأ من ذلك الماء» بما أنّه وقع في المقدّمات حرامٌ؛ و هو الانتفاع بالشعر، لا بما أنّه نجس «3».

و منها: أنّ في الإتيان بكلمة «ذلك» للبعيد، إشعاراً إلىٰ أنّ المشار

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 163، الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 218، المسألة 19.

(2) الكافي 6: 258/ 3، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 3.

(3) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 162.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 249

إليه ما هو البعيد، و إلّا كان يقول: «هذا الماء».

و لا يخفىٰ ما فيهما.

و منها: مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد الهّٰ (عليه السّلام) في عجين عجن و خبز، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة.

قال: «لا بأس؛ أكلت النار ما فيه» «1».

و دعوىٰ: أنّها من أدلّة مطهّرية النار «2»، غير مسموعة، بل الذيل يفيد أنّ أجزاء الميتة قد احترقت بالنّار؛ أي أنّ النار أكلت ما في الماء من الميتة، لا أكلت ما في العجين من الماء.

و لكنّها مشكلة؛ لاحتمال كون الميتة طاهرة، مع إجمال «الماء» مع أنّ ما اشتهر في مرسلات ابن أبي عمير «3»، مورد البحث.

هذا مع أنّه لا يدلّ علىٰ عدم نجاسة الماء القليل بالميتة، بل غايته دلالته علىٰ عدم تنجّس المتنجّس العجين، و أجزاء المتنجّس الموجودة في العجين قد أكلتها النار، فلا تغفل.

و منها: الطائفة الواردة في المستعمل في الجنابة الناطقة بعدم الانفعال «4»، مع تعارف نجاسة بدن الجنب، خصوصاً مع ترك الاستفصال في جميع هذه الأخبار.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1304، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث

18.

(2) روضة المتقين 1: 70.

(3) اشتهر أنّه لا يروي و لا يرسل إلّا عمّن يوثق به، معجم رجال الحديث 1: 63.

(4) وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 250

و حملها علىٰ صورة عدم القذارة الخبثيّة «1»، في غاية الإشكال، و كذا حملها على استعماله في الحمّام «2»، فتكون من القليل المستثنىٰ بالأدلّة الخاصّة، فعليه يعلم عدم الانفعال، و هي تدلّ علىٰ تمام المقصود و المطلوب.

و منها: رواية الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في الرجل الجنب يغتسل، فينتضح من الماء في الإناء.

فقال: «لا بأس؛ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3».

و منها: رواية عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أغتسل في مغتسل يبال فيه، و يغتسل من الجنابة، فتقع في الإناء ما ينزو من الأرض.

فقال: «لا بأس به» «4».

و دعوىٰ: أنّه الحكم الحيثيّ، كدعوىٰ أنّ المتعارف التطهير قبل الاغتسال.

و مثلها دعوى: أنّ الأرض المبال عليها، غير الأرض التي ينزو منها الماء في الإناء «5».

و منها: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل هل

______________________________

(1) مرآة العقول 13: 46.

(2) نفس المصدر.

(3) الكافي 3: 13/ 7، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 5.

(4) الكافي 3: 14/ 8، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 7.

(5) مستند الشيعة 1: 47، جواهر الكلام 1: 129.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 251

يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب فيه، علىٰ أنّه يهوديّ؟

فقال: «نعم».

قلت: فمن ذلك الماء الذي يشرب منه؟

قال: «نعم» «1». و

الدلالة واضحة.

و توهّم: أنّها متعرّضة لصورة الشكّ، فاسد جدّاً؛ لأنّ قوله: «علىٰ أنّه يهوديّ» مرتبط بمفروض سؤاله؛ و هو «الرجل» و عندئذٍ يظهر أنّ مقصوده فرض كونه يهوديّاً، و قضيّة الجواب إمّا عدم نجاسة اليهوديّ، أو طهارة القليل، فلا يتمّ المطلوب، و تندرج الرواية في تلك المسألة.

و منها: الطائفة الواردة في ماء الحمّام «2»، فإنّها دالّة علىٰ عدم انفعال القليل، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة شمول الحكم لغير مورده، و لا سيّما بعد عدم اعتبار الكرّية في المادّة، و لا في المجموع.

و منها: الطائفة الواردة في ماء الاستنجاء «3»، الصريحة في عدم تنجّس الماء المستنجى به؛ لنفي البأس عن ملاقيه، و قضيّة إلغاء الخصوصيّة عدم الانفعال مطلقاً.

و هكذا لا فرق بين ما كان الماء وارداً أو بالعكس؛ لعدم مساعدة فهم العرف لغير ذلك.

فبالجملة: لا بدّ من عدم الخلط بين الماء النجس، و بين ما لا يجوز

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(3) وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 252

استعماله في الشرب و بعض الاستعمالات، فلو كان الماء في الشريعة قابلًا للتنجّس، لكان هو ماء الاستنجاء؛ لأنّه لاقاه أنجس القذارات العرفيّة، بل خالطه أجزاؤه الصغيرة قهراً و قطعاً.

و منها: التعليل الوارد في ذيل ما رواه الصدوق في «العلل» عن الأحول، قال: دخلت علىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، فقال: «سل عمّا شئت» فارْتِجَت عليّ المسائل.

فقال: «سل، ما لك؟!».

فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي يستنجي به.

فقال: «لا بأس» فسكت،

فقال: «أ وَ تدري لم صار لا بأس به؟».

قلت: لا و اللّٰه جعلت فداك.

قال: «إنّ الماء أكثر من القذر» «1».

و هذا مضافاً إلىٰ كونه دليلًا علىٰ عدم تنجّسه واقعاً و ليس عفواً دليل علىٰ عدم انفعال الماء إلّا بالكثرة و الغلبة و القهر؛ و أشباهها الواردة في الطائفة الاولىٰ من المآثير، و لا يمكن تخصيصها بأدلّة الانفعال؛ لأنّ موردها داخل في هذه الكبرى، و هو أسوأ حالات اللّقاء مع النجس، و بذلك يثبت عموم دعوى الخصم في المسألة إذا تمّ سندها. و لكنّه مشكل من جهات شتّىٰ.

______________________________

(1) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2، مع اختلاف يسير.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 253

كما أنّه لو تمّ، يورث امتناع الجمع العرفيّ بين الطائفتين من الروايات؛ فإنّه لولاها يمكن الجمع العرفيّ بحمل المطلقات من هذه الطائفة على المقيّدات في الطائفة الآتية، و لكنّها تمنع من ذلك؛ لورودها في مورد القليل فالجمع المذكور يستلزم طرح هذه الرواية، فلا يكون جائزاً.

و منها: معتبرة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين، فإن غسلته في ماء جارٍ فمرّة واحدة» «1».

و «المِرْكَن»: «هي الإجَّانة التي تغسل فيها الثياب» قاله الجوهريّ «2».

و في «الأقرب»: «الإجَّانة إناء تغسل فيه الثياب، و ما حول الغراس شبه الأحواض» «3».

و في «المنجد»: «الإجّانة جرّة كبيرة» «4».

فكونها موضوعة للإناء الصغير، غير ثابت، مع ما قيل: «إنّ الظروف القديمة المهيّأة لحفظ المياه، كانت كبيرة؛ لما قد يتّفق الاحتياج إلى الماء، و ما كان من المطر أثر، و لا من غيره خبر» «5» فهو من المطلقات.

إلّا أنّ

انصرافها إلىٰ أنّه كان أقلّ من الكرّ، غير بعيد إنصافاً، و إن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(2) الصحاح 5: 2126.

(3) أقرب الموارد 1: 5.

(4) المنجد: 4.

(5) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 41.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 254

كان للمنع وجه.

و قد يشكل الرواية؛ لأجل عدم التزام الخصم بمفادها من التفصيل.

و منها: غير ذلك من المآثير المشابهة لها في السند و الدلالة «1»، و ما ذكرناها جلّها لولا كلّها.

التحقيق في تنجّس القليل بالملاقاة

أقول: لا شبهة في أنّ هذه المسألة، كانت من قديم الأيّام موردَ الكلام، و من كان يقول باعتبار حدٍّ في الماء، فلا بدّ أن يريد منه الأثر المخصوص، و لا أثر له- علىٰ ما استقصينا إلّا الطهارة و النجاسة، فإذن يعلم أنّ الجهة المبحوث عنها ليست حديثة، و ليست أمراً مغفولًا عنها، و لا غير مبتلى بها في كلّ يوم مرّات عديدة، خصوصاً في تلك الأمصار و الأعصار، فهل يعقل دعوى أنّ مثل هذه الجهة كانت كذلك، و مع هذا خفي علىٰ علماء الشيعة، و رواة الشريعة، و أرباب الفتوىٰ، و أصحاب الحديث و الآراء؟! فلو كان مذهب الإماميّة ذاهباً إلى الطهارة، لكانت القصّة معلومة، و هكذا النجاسة، فلا تمسّ الحاجة في مثلها إلى الرواية و الخبر، سواء كان مفادها الطهارة، أو النجاسة، بل لا بدّ من المراجعة إلىٰ تأريخ المسألة، و فتوى الصحابة في رسائلهم و كتبهم، و ما يستفاد من بنائهم و مرامهم.

و لا شبهة عند كلّ أحد، في أنّ الواصل إلينا منهم هي النجاسة، و لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب

الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 255

يعهد من أحد منّا إلّا من هو شاذّ من المتأخّرين و القدماء، كابن أبي عقيل، و قد مرّت الشبهة في النسبة «1».

و هذا أمر يصدّقه الاغتراس، و يجد كلّ عاقل أنّ معنى النجاسات هو الاحتراز عن المتنجّسات، و بناء العرف على الاستقذار من الملاقيات، من غير فرق بين الجامدات و المائعات، بل هو في الثواني أكثر.

و ذهاب المخالفين إلىٰ تنجّس القليل في الجملة إلّا بعضاً منهم يشهد علىٰ أنّ المسألة كانت من الصدر الأوّل معلومةً، و أنّ علماء العامّة يتمسّكون في آرائهم بالكتاب، و السنّة النبويّة، و بعض الأُمور المشابهة لها، و لا معنى لاختلافهم في حدّ الكرّ اختلافاً فاحشاً كثيراً مع عدم بلوغ شي ء إليهم من صاحب الشريعة.

و لعمري، إنّ التدبّر في المسألة و الفحص حولها، يمنع عن توهّم طهارة الماء القليل، و لا يجوز لأحد البحث حولها؛ فإنّه لا يكون عندي إلّا عن البناء علىٰ إيجاد الاشتباه، و الميل إلى التفرّد في الرأي و الفتوىٰ.

و لا يخفى الفرق بين الشبهات العلميّة المذكورة لتشحيذ الأذهان، و بين اختلاط الأباطيل بالحقّ العيان، و لا ينحلّ لي هذه المعضلة؛ و هي رضا شخص واحد بمخالفة الطوائف الكثيرة من الروايات البالغة علىٰ ما قيل إلىٰ مئات «2»، للعمل بخبر واحد أو أخبار، مع عدم وضوح الدلالة وجداناً و إنصافاً، و قصور الإسناد.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 232.

(2) مهذّب الأحكام 1: 168.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 256

و بناءً علىٰ ما ذكرناه إلىٰ هنا تبيّن: أنّ الأدلّة من حيث السند و الدلالة

قاصرة، و لا حاجة إلى الجمع و الترجيح.

توهّم دلالة المآثير علىٰ أنّ للطهارة مراتب و دفعه

و لو فرضنا تماميّة السند و الدلالة، فقد يقال: بأنّ قضيّة الجمع هو القول بمراتب الطهارة «1»؛ و ذلك كما في ماء البئر، فما يدلّ على الطهارة، مثل ما يدلّ هناك عليها، و ما يدلّ على النجاسة، مثل ما يدلّ على النجاسة هناك، فالأوامر الواردة في لزوم الغسل، كالأوامر الواردة في لزوم النزح، و الأخبار الواردة للحدّ الذي لا يتنجّس معه الماء، كالواردة لمقادير النزح لرفع القذارة العرفيّة في ماء البئر.

و أنت خبير: بأنّ المآثير الدالّة على الانفعال، لا تنحصر بتلك الأوامر؛ ضرورة أنّها لا تفي لإثبات النجاسة إلّا استظهاراً، فيمكن حملها على الطهارة لظهور أقوى، بخلاف ما دلّ علىٰ نجاسته؛ فإنّ مآثير الكرّ تدلّ على النجاسة.

و لو كان في مآثير البئر ما يدلّ على النجاسة، فهو معارض مع ما يدلّ علىٰ عدمها، و لا يمكن الجمع العرفيّ بين هذه الطوائف؛ بحمل الدالّ على النجاسة على القذارة العرفيّة، و الدالِّ علىٰ عدم النجاسة علىٰ عدم تلك المرتبة من القذارة، أو عدمها مطلقاً، فلا تغفل

.

______________________________

(1) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 106.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 257

الأمر الثالث: في أدلّة تنجّس القليل بالملاقاة
اشارة

حجّة المشهور مضافاً إلى الإجماعات الكثيرة «1»، و مفروغيّة المسألة في كلمات جمع «2»، و الشهرات المتحقّقة في كلّ عصر، و عدم احتياجهم إلى الأدلّة اللفظيّة كما أُشير إليه آنفاً الطوائفُ المختلفة من المآثير و الأخبار.

و قد استقصاها فقيه العصور المتأخّرة صاحب «الجواهر» عليه الرحمة «3»، و أنهاها الآخرون، إلىٰ أن ادّعي أنّها بلغت ثلاثمائة رواية «4».

و لو أمكن الخدشة في كثير منها سنداً و دلالة؛ لأجل أنّ الشهرة ليست جابرة، أو لا تكون جابرة في خصوص المسألة.

و لأنّ كثيراً منها لأجل النهي عن الشرب

و الاغتسال و التوضّي توهّم دلالتها على النجاسة، مع أنّها أعمّ كما هو الظاهر، بل الروايات الصريحة في الترخيص مع الضرورة بعد النهي عن التوضّي قرينة علىٰ أنّ النواهي في غيرها ليست كاشفة عن النجاسة.

و لأنّ حجّية مفهوم الشرط و القيد ممنوعة، كما تقرّر في الأُصول «5».

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 105، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 141.

(2) الوسيلة: 73، شرائع الإسلام 1: 4، الدروس الشرعيّة 1: 118.

(3) جواهر الكلام 1: 106 116.

(4) لاحظ مهذّب الأحكام 1: 168.

(5) تحريرات في الأُصول 5: 21 و ما بعدها.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 258

و لأنّ أخبار النجاسة، توافق مذهب جماعة من العامّة، كما مضى «1».

و لأنّ القذارة العرفيّة منهيّ عنها، و لكنّها غير النجاسة الشرعيّة، فربّما تكون الروايات متعرّضة للأُولىٰ، دون الثانية.

و لأنّ القول بالنجاسة، يستلزم الحرج و الضيق، و قد ورد في الأخبار «2» التمسّك بالآية لعدم تشريع الحكم الحرجيّ بالذات، و لا ينحصر دلالتها علىٰ تضييق المطلقات و تقييدها.

و لأنّه يستلزم طرح ما يدلّ علىٰ طهارة القليل، كما عرفت.

و يستلزم الابتلاء بأخبار الكرّ مع اضطرابها، فهي بذاتها تدلّ علىٰ أنّ مسألة الكرّ، مبنيّة على التنزّهات العرفيّة بمراتبها، أو علىٰ أنّ ما لا يتغيّر من الماء هو البالغ كرّاً.

و يستلزم التفصيل بين المياه القليلة، فيكون ماء الغسالة طاهراً، و هكذا ماء الاستنجاء و الحمّام.

و يستلزم الوسواس؛ لوقوع الناس فيما لا يرضى به الشريعة السهلة السمحة.

و يستلزم القول بخلاف إطلاقات الكتاب، الدالّة علىٰ أنّ كلّ ماء طاهر مطهّر؛ من غير فرق بين قليله و كثيره «3».

هذا مع أنّ التطهير بالماء الوارد على المتنجّس، غير ممكن،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 230 231.

(2) تقدّم في الصفحة 250.

(3) الأنفال (8): 11،

الفرقان (25): 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 259

و الالتزامَ بعدم لزوم طهارته على الإطلاق مشكل، و فرار عن الشبهة.

فلو أمكن جميع ذلك، لما يمكن المصير إلى القول بالطهارة؛ لأنّ سيرة المتشرّعة المتلقّاة يداً بيد من الأسلاف، ليست منشؤها المآثير و الروايات، فهي على النجاسة كهي علىٰ أنّ صلاة الصبح ركعتان و هكذا، و هذا أمر يعرفه كلّ صغير و كبير، و من البديهيّات الملحقة بالقطعيّات.

كلام المحدث الكاشاني و الجواب عنه

و العجب منه (قدّس سرّه)!! حيث قال في «الوافي»: «و ممّا لا شكّ فيه، أنّ ذلك لو كان شرطاً، لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة، مكّةَ و المدينةَ المشرّفتين؛ إذ لا يكثر فيها المياه الجارية، و لا الراكدة الكثيرة، و من أوّل عصر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ آخر الصحابة، لم ينقل واقعة في الطهارة، و لا سؤال عن كيفيّة حفظ الماء عن النجاسات، و كانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان و الإماء الذين لا يتحرّزون عن النجاسات، بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع» انتهىٰ «1».

و أنت خبير: بأنّ المشهور بين معاصري الصحابة و الخلفاء، القول بالتحديد في المياه، و هل هذا إلّا لذهابهم إلىٰ تنجّسه كما صرّح به أبناؤهم؟! و لو كان الأمر كما توهّمه، لمّا كان وجه لاختلاف فقهاء تلك العصور في هذه المسألة مع قرب عهدهم، و قد مضى أنّ عبد اللّٰه بن عبّاس المتوفّىٰ

______________________________

(1) الوافي 6: 20.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 260

سنة سبع و ثمانين، و عبد اللّٰه بن عمر المتوفّىٰ سنة أربع و سبعين، و أبا هريرة المتوفّىٰ سنة سبع و خمسين، و هكذا الفقهاء المعاصرين للسجّاد عليه الصلاة و السلام، ذهبوا إلىٰ نجاسة القليل

«1».

و توهّم أنّ ما ذكروه للتحديد في أمر آخر غير النجاسة، فاسد و إن احتملناه؛ لتنصيص الفخر في التفسير: «بأنّ ابن عمر قال: إذا كان الماء أربعين قلّة، لم ينجّسه شي ء» و عن سعيد بن جبير المتوفّىٰ سنة خمس و تسعين: «أنّ الراكد إذا كان قدر ثلاث قلال، لم ينجّسه شي ء» «2» .. و هكذا، فعليه يعلم خلاف ما توهّمه.

مع أنّ الأحكام الشرعيّة تدريجية الإبلاغ، فليكن القول بوجوب الاجتناب عن المياه القليلة في العصر المتأخّر عن العصر الأوّل، فعليه لا وجه لما ظنّه، فافهم و تبصّر.

تذنيب: في حكم التعارض بين روايات نجاسة القليل و طهارته

لو سلّمنا دلالة عدّة من الروايات على الطهارة، فلا شبهة في دلالة الأكثر منها على النجاسة، و لا يمكن إنكار ذلك بعد المراجعة إليها، فيلزم التعارض.

فإن قلنا: بأنّ الشهرة مورثة للوهن في سند الطائفة الأُولىٰ، فيتميّز الحجّة عن اللاحجّة.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 230.

(2) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 24.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 261

و إن قلنا: بأنّها لا تورث شيئاً، أو لأنّ المشهور من باب الجمع بين الأخبار قالوا بالنجاسة، فتستقرّ المعارضة، فتكون الشهرة الفتوائية مرجّحة.

مع أنّ المعروف في عصر هذه المآثير، عدم انفعال الماء القليل، فتكون تلك الطائفة موافقة للعامّة فتطرح؛ إمّا لأجل المعارضة كما هو المشهور، أو لتميّز الحجّة عن اللاحجّة، كما هو الحقّ عندي.

نعم، قضيّة إطلاق الكتاب مطهّرية كلّ ماء، و هذا يستلزم عرفاً عدم تنجّسه، و الالتزام به مع كونه مطهّراً مشكل، فيقع التهافت بين المرجّحات و المميّزات. و لكن قد عرفت عدم دلالة الكتاب على العموم المذكور «1»، فتأمّل.

و قد يشكل حملها على التقيّة؛ لأجل إمكان التوصّل إلى الحكم الواقعيّ، معلّلًا بذهاب جمع من قدمائهم إلىٰ ذلك، كما عرفت.

و لكنّه مدفوع:

بأنّ المناط في التقيّة، ليس فتوى فقيه العصر، بل المناط اشتهار الحكم بين الناس، و التزام الخلفاء به، و هذا هو الموجب للاتّقاء، و لا يشترط إمكان التفصي؛ لأنّ الخوف من الظالم، يوجد مع الاحتمال الضعيف، و لا سيّما في تلك المواقف الحرجة، و خصوصاً رعاية التقيّة في حقّهم (عليهم السّلام) ربّما كانت أوجب من غيرهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 22 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 262

الأمر الرابع: في التفصيل بين ملاقاة النجس للقليل و المتنجّس

حكي عن العلّامة الخراسانيّ (رحمه اللّٰه)، التفصيل في الماء القليل بين النجاسات و المتنجّسات؛ و قال بعدم الانفعال في الثواني، دون الأوائل «1». و هو الوحيد في هذا القول البعيد عن الأفهام.

و ما استدلّ به، قصور الأدلّة عن إفادة عموم الحكم؛ ضرورة أنّ مفهوم أدلّة الكرّ إيجاب جزئيّ، و القدر المتيقّن منه عين النجس، بل كلمة «شي ء» فيها ظاهرة في الأعيان النجسة، كما قال به المشهور في كلمة «وجوه النجس» «2» في رواية «تحف العقول» «3».

و دعوىٰ: أنّ المنطوق مفاده سلب العموم، لا العموم المسلوب، فيكون مفاد المفهوم أيضاً إيجاب العموم، لا الإيجاب الجزئيّ، غير مسموعة؛ لأنّه و إن كان كذلك في جانب المنطوق، و لكنّه علىٰ سبيل الإجمال، لا التفصيل؛ بمعنى أنّ مفاده منطوقاً «أنّ الماء القليل ينجّسه كلّ شي ء، و كلّ واحد من النجاسات» لا «أنّه ينجّسه هذا و ذاك ..» إلىٰ آخر النجاسات، فإنّه باطل قطعاً، فإذا كان مفاده في المنطوق ذلك، فالسلب المرتبط بالعامّ الاستغراقيّ، ظاهر عرفاً في الإيجاب الجزئيّ.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(2) جواهر الكلام 22: 8 9، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 2/ السطر 25، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 3/ السطر 9.

(3) تحف العقول: 333.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص:

263

هذا، و لكنّه لو تمّ ما ظنّه، يلزم القول بأنّ القدر المتيقّن هي النجاسات العرفيّة و القذارات الأصليّة، دون النجاسات الجعليّة الملتحقة بها في الاعتبار و الشرع.

هذا مع أنّ المفهوم هو «هذا الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ، ليس بأن لا ينجّسه شي ء» و لعلّ ظهورها في عموم السلب أقوى، كما لا يخفى.

و ربّما يدلّ عليه معتبر زرارة في مسألة الحبل من شعر الخنزير الماضية «1»؛ فإنّ المتعارف تقاطر الماء منه في الدلو، فعلى هذا يتعيّن التفصيل.

و لو توهّم دلالة جمع من المآثير، علىٰ عدم الفرق بين النجس و المتنجّس «2» كموثّقة سَماعة «3»، و معتبر شهاب بن عبد ربّه «4»، و صحيحة أبي بصير «5» .. و غير ذلك «6»؛ لاشتمالها علىٰ لزوم الاجتناب عن الماء

______________________________

(1) الكافي 3: 6/ 10، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 2.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 147.

(3) تهذيب الأحكام 1: 37/ 99، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 9.

(4) الكافي 3: 11/ 3، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 3.

(5) الكافي 3: 11/ 1، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 4.

(6) تهذيب الأحكام 1: 39/ 105، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 264

الملاقي مع القذر، و هو أعمّ من العين القذرة فلا بدّ من التقييد؛ لأنّها بالإطلاق، مع أنّ المنصرف منها هي الأعيان، فلا تغفل.

فبالجملة: القول بالتفصيل حسب الصناعة قويّ.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ

معقد إجماع المجمعين مطلق؛ لأنّ كثرة الابتلاء بالمسألة تلجئ الأُمّة إلى السؤال، و تورث وجوب التنبيه على العلماء و الفقهاء، فمن سكوتهم و عدم تصريحاتهم بالفرق، يعلم قطعاً عدم الفرق «1».

نعم لو قلنا: بعدم تماميّة الإجماع التعبّدي في المقام، فلك دعوى إعراضهم عن هذه الرواية؛ لظهورها في التفصيل.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ كفاية عمل السيّد (رحمه اللّٰه) بها في عدم توجّه الوهن إليها «2»، مع أنّ مجرّد عدم العمل لا يورث الوهن؛ ضرورة أنّ من المحتمل القويّ استظهارهم منها صورة الملاقاة مع العين، كما صرّح به الشيخ (رحمه اللّٰه) «3».

هذا، و قد عرفت عدم احتياج المسائل المبتلىٰ بها في كلّ ساعة مراراً إلى الرواية، بل تلك المسائل من المتلقّاة عن الآباء و الجدّات إلىٰ عصر الأئمّة الهداة عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام، فلا ينبغي الخلط بين المقام، و سائر المسائل و الأحكام.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 146.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 218، المسألة 19.

(3) تهذيب الأحكام 1: 409، ذيل الحديث 1289.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 265

الأمر الخامس: في تنجيس ما لا يدرك و لا يمكن التحرز عنه
اشارة

قال الشيخ في «الاستبصار» بعد ذكر صحيحة عليّ بن جعفر الماضية، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) «1»:

«فالوجه في هذا الخبر، أن نحمله علىٰ أنّه إذا كان الدم مثل رأس الإبرة التي لا تحسّ و لا تدرك، فإنّ مثل ذلك معفوّ عنه» «2».

و في «المبسوط» بعد اختيار تنجس القليل بالنجاسات، قال:

«إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه، مثل رؤوس الإبر من الدم و غيره، فإنّه معفوّ عنه؛ لأنّه لا يمكن التحرّز عنه» انتهىٰ «3».

و أنت خبير: بأنّ مصبّ البحث هنا، حول تنجّس الماء القليل بالنجس، فلا بدّ من كون الملاقي معه، مفروغَ النجاسة، لا المشكوك نجاسته بالشكّ

الحكميّ أو الموضوعيّ، و ظاهره (قدّس سرّه) معفويّة الدّم و غيره، لا الماء القليل، و هذا في الحقيقة يرجع إلىٰ بحث آخر في مباحث النجاسات.

و يشهد لذلك تجاوزه عن مورد النصّ، و تعدّيه إلىٰ غيره، و يؤيّده تعليله بأنّه الحرج و المشقّة، فكأنّه كان يرىٰ نجاسة كلّ شي ء

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 240.

(2) الاستبصار 1: 23/ 57.

(3) المبسوط 1: 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 266

بالأجزاء الصغيرة المتصاعدة من العَذِرات الموجودة في شوارع النجف و أزقّته.

فعلى هذا، لو تمّ دلالة الصحيحة علىٰ عدم التنجّس، فهي غير معمول بها، و الإجماع علىٰ خلافها، فتأمّل جدّاً.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 266

هذا مع أنّك قد عرفت حالها «1»، و المحتملات الكثيرة فيها، مع اختلاف نسخها، و الرواية التي شأنها استدلال المتخاصمين من الجوانب الثلاثة أو الأربعة بها، و كلّ يدّعي ظهورها في مرامه، ممّا يشكل الخروج عنها بدعوى الظهور المستقرّ لها، كما لا يخفىٰ.

ارادة العلم الإجمالي من الصحيحة لا التفصيلي

و لكنّه بعد التدبّر في تلك الصحيحة، يعلم أنّ السؤال ظاهر في العلم الإجماليّ بإصابة الأجزاء الصغار للإناء؛ لأنّه مع العلم التفصيليّ بإصابة نفس الإناء، لا معنىٰ لسؤال مثل ابن جعفر؛ لوضوح المسألة، و عدم الحاجة إلىٰ فرضها، مع عدم مناسبة الجواب من التفصيل لذلك، كما هو الظاهر.

و أمّا العلم التفصيليّ بإصابة الدم بما في الإناء، فهو غير تامّ؛ لعدم صحّة إطلاق الإناء بما فيه، و لذلك فرض السائل في ذيل الرواية فيما وقعت القطرة في الإناء صورةَ المسألة على الوجه الآخر، فعليه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة

240 241.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 267

يستظهر بعد المراجعة إلى اللّوازم العاديّة في تقطّر الأجزاء الصغار المنتشرة في الهواء و الأرض، العلمُ الإجمالي، كما أفاده الشيخ الأعظم في اشتغال «الرسائل» «1».

و أمّا إضافة الجملة الأُخرىٰ إلى السؤال كما في «الوسائل» الموجودة عندنا و هو قوله: «و لم يستبن ذلك في الماء» «2» فهي مخدوشة، مع أنّه لا يناسبها الجواب أيضاً عرفاً، فلو قيل بناءً عليه يلزم الاجتناب؛ للعلم الإجماليّ.

و توهّم: أنّه خارج عن محلّ الابتلاء، فاسد كما عن الشيخ «3»؛ ضرورة أنّه في محلّه؛ للعلم الإجماليّ بعدم صحّة السجدة على الإناء، أو الوضوء بما في الإناء. مع أنّ شرطيّة محلّ الابتلاء لتنجيز العلم، ممنوعة.

نعم، دعوى قيام السيرة العمليّة علىٰ عدم الاعتناء في هذه المواقف بهذه المشتبهات، قويّة جدّاً، فتكون الرواية مؤيّدة لها.

و يمكن دعوى دلالتها علىٰ عدم نجاسة الأجزاء غير المحسوسة من النجاسة، و أنّ الأمر بالتوضّي عند عدم الاستبانة، كاشف عن طهارة الماء؛ لعدم نجاسة تلك الأجزاء، فافهم و تدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم اختلاف المعنى مع اختلاف قراءة كلمة «شي ء» في الرواية نصباً و رفعاً «4»، و لكنّه غير تامّ.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 421.

(2) لاحظ ما تقدّم في الصفحة 240، الهامش 2.

(3) نفس المصدر.

(4) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 268

الأمر السادس: في التفصيل بين القليل المتصل بالكر و غيره

حكي عن صاحب «المعالم» التفصيل في الماء القليل بين ما كان متّصلًا بالكرّ، و ما كان بالغاً حدّ الكرّ، فإنّ الثاني لا يتنجّس، بخلاف الأوّل؛ ضرورة أنّه ليس من المياه المعتصمة، كالمطر و البئر و غيرهما «1».

و غاية ما يتوهّم لاعتصامه، توهّم أنّه بمجرّد الاتصال، يكون متّحداً في الاسم مع الكثير، و هذا

واضح البطلان عرفاً، بل و عقلًا؛ لأنّ المراد من «الماء البالغ كرّاً»، ليس طبيعته، و إلّا فلا ينجس ماء أصلًا، و لا صنفه، بل المقصود هو الشخص المورد للملاقاة، فلا بدّ من الوحدة العرفيّة حتّى يقال: «هذا ماء بالغ حد الكرّ» فلا ينجس.

و إذا فرضنا القليل المتّصل بالكثير، بعيداً عنه بفرسخ، أو أقلّ إلىٰ أن يكون في جنبه، و لكنّه في الإناء، و يجري الماء من المخزن فيه، فإنّه لا يعدّ واحداً قطعاً مع ما في المخزن، سواء كان عالياً، أو مساوياً، أو دانياً و يخرج الماء بقوّة كهربائيّة إلى الفوق، فعليه إذا لاقاه النجس ينجس؛ لعدم بلوغه كرّاً.

و لكنّه مع هذا التقريب الذي سمعته منّي، يمكن دعوى عدم انفعاله، لا لاتحاده مع الكثير؛ فإنّه واضح البطلان، بل لأنّ المستفاد من أدلّة ماء

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 149.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 269

الحمّام «1»، و قوله هناك: إذا كانت «له مادّة» أنّ المادّة أعمّ من مادّة البئر، و يتمّ حينئذٍ التمسّك بصحيحة ابن بَزيع «2»، فالقليل المتّصل بالكثير معتصم؛ لاتصاله بالمعتصم.

نعم، عندئذٍ لا بدّ من كون الماء الكثير كرّاً، للزوم سراية النجاسة إليه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المثال المفروض من تلك الجهة كالحمّام، فلو أمكن الالتزام هناك بعدم اعتبار الكرّية مطلقاً أمكن هناك. هذا فيما كان الماء يجري من المخزن في الإناء.

و إذا كان الماء راكداً، و موجوداً في الأواني المختلفة، المتّصلة بالثقُب الموجودة فيها، فالظاهر أنّه ينجس الماء بالملاقاة؛ لاختلاف المياه عنواناً، و عدم كون أحدها مادّة للآخر؛ ضرورة عدم صدق «هذا الماء كرّ» مشيراً إلىٰ ما في أحد الإناءين و الإناء الآخر في محلّ بعيد منه، و صدق «هذه

المياه كرّ» لا يكفي، و إلّا يلزم عدم وجود الماء القليل بالضرورة، فليتدبّر.

الأمر السابع: في نفي الفرق بين الوارد و المورود عليه
اشارة

قال السيّد (رحمه اللّٰه) في «الناصريّات» في المسألة الثالثة: «و لا فرق بين ورود الماء على النجاسة، و بين ورود النجاسة على الماء، و هذه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1168، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 270

المسألة لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً، و الشافعيّ يفرّق بين ورود الماء على النجاسة، و ورودها عليه، فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة.

و يقوى في نفسي عاجلًا إلىٰ أن يقع التأمّل لذلك، صحّةُ ما ذهب إليه الشافعيّ؛ و الوجه فيه أنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة، لأدّى ذلك إلىٰ أنّ الثوب لا يطهر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه، و ذلك يشقّ، فدلّ علىٰ أنّ الماء إذا ورد على النجاسة، لا يعتبر فيه القلّة و الكثرة، كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه» «1» انتهىٰ.

و حكي «2» موافقة الحلّي له، و قال في ذيل المسألة: «إنّه الموافق لأصل المذهب و فتاوى الأصحاب» «3» انتهىٰ.

و لكنّه غير ظاهر؛ لعدم إمكان اطلاع الحلّي (رحمه اللّٰه) علىٰ ما خفي على السيّد، بعد تصريحه بعدم عرفانه نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً.

فبالجملة: في المقام مسائل؛ مسألة طهارة الغسالة، و مسألة كيفيّة تطهير المتنجّس بالماء القليل، و سيأتي حكمهما «4»، و مسألة اعتصام السافل بالعالي،

و تقوّي العالي بالسافل، و قد مضى حكمها «5»، و مسألة

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة.

(2) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 118، السرائر 1: 181.

(3) السرائر 1: 181.

(4) يأتي في الجزء الثاني: 98 و ما بعدها.

(5) تقدّم في الصفحة 98.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 271

ورود الماء على النجس و بالعكس، و هو المقصود هنا بأن يقال: لو ورد النجس في الماء القليل فهو ينجس، دون عكسه؛ بأن ورد الماء على النجس.

و لكن هنا أيضاً مسألتان:

أُولاهما: ما إذا ورد الماء على النجس و انفصل عنه.

و ثانيتهما: ما إذا لم ينفصل.

فإنّه ربّما يمكن القول بالنجاسة في الثاني، و إن قيل بالطهارة في الفرض الأوّل؛ و ذلك لأنّ الملاقاة المورثة للنجاسة أعمّ من المعنى المصدريّ و حاصله، فليتدبّر.

و البحث حول عبارة السيّد (رحمه اللّٰه) لا يرجع إلىٰ محصّل، و ربّما تكون العبارة الواصلة منه، ظاهرةً في المسألة الأخيرة، و يكون ذيلها دليلًا علىٰ منع الكبرى؛ لأنّ الالتزام بتلك الكبرى يؤدّي إلى المشقّة.

و الذي يمكن أن يكون دليلًا للفرق، قصور أدلّة تنجيس النجاسات أوّلًا.

و ظهور الموارد الخاصّة في كون المدار على اللّقاء من قبل النجاسة، لا العكس، ثانياً.

و إطلاق النبويّ الشاهد على أنّ جميع المياه لا ينجّسه شي ء «1»، إلّا الماء القليل الثابت بمفهوم أخبار الكرّ «2»، و هو في حكم الموجبة الجزئيّة ثالثاً، و مجرّد الاستبعاد غير كافٍ؛ للزومه في الماء المستنجى

______________________________

(1) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 272

به و الحمّام أيضاً.

و أنت

خبير: بأنّ التفصيل المستبعد في أنظار المتشرّعة، يحتاج إلى النصوص الخاصّة، كالموردين المشار إليهما، و الالتزام هناك لا يورث قرب التفصيل هنا، كما هو الواضح.

مع أنّ الفرق بين الوارد و المورود، بعد أنّ العرف لا يدرك إلّا دخالة خصوصيّة اللّقاء فقط، في غاية المنع.

كلام الوالد المحقق و الجواب عنه

و عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: أنّ قضيّة الصناعة عدم الفرق؛ لأنّ العامّ الأُصوليّ و الإطلاق الأحواليّ الثابت في منطوق أخبار الكرّ، لا ينتفي في مفهومها بالمرّة، بل الاستيعاب المستفاد من النكرة في سياق النفي في المنطوق ينتفي، دون الإطلاق الأحواليّ، فيكون المفهوم دليلًا في مورد القدر المتيقّن علىٰ عدم الفرق بين الوارد و المورود «1».

و فيه: أنّه إن أُريد أنّ مقدّمات الحكمة في المنطوق، تكفي عن المقدّمات في المفهوم، فهو في محلّ المنع؛ لأنّ المفهوم قضيّة أُخرى.

و إن أُريد الملازمة العرفيّة بين المقدّمتين، أو تماميّة المقدّمات في المفهوم أيضاً، فهو يحتاج إلى الدليل، و بعد الإهمال في العامّ الأُصوليّ، يشكل ذلك في الأحواليّ، كما لا يخفى.

هذا خصوصاً علىٰ مذهبه؛ من عدم الاحتياج إلى المقدّمات في

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 19 (مخطوط).

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 273

العمومات اللفظيّة، و منها النكرة في سياق النفي، فإذن يلزم الالتزام بالإهمال؛ لأنّ انتفاء الأفراديّ يستتبع الانتفاء الأحواليّ قهراً، فلا تغفل.

نعم، إطلاق معقد الإجماع لما عرفت، دليل علىٰ بطلان التفصيل، إلّا أنّ تماميّة أصل الإجماع في المسألة، ممنوعة كما عرفت «1».

الأمر الثامن: في المراد من «القليل» و «الكثير» و حدّهما
اشارة

قد مضى: أنّ الذي عليه المسلمون إلّا من شذّ، انفعال الماء القليل في الجملة «2». و الذي هو المهمّ بالبحث؛ هو أنّ المراد من «القليل» و «الكثير» ما هو، و أنّ حدّ القلّة و الكثرة بالكمّ المتّصل، أو المنفصل، و أيّ شي ء هو؟

أقول: لا شبهة في أنّ الماء، ذو الوحدة العرفيّة الاتصاليّة القابلة للانقسام إلى القسمة بالوزن، و المساحة و هي الكيل، و إنّما البحث حول أنّ الشرع المقدّس، عيّن بالتعيين الشرعيّ اللّازم رعايته حدّا، أو لم يعيّن، بل أوكل

الأمر إلى العرف، فيكون المدار على القلّة و الكثرة بنظرهم، و تكون تصرّفات الشريعة من باب ذكر المصاديق للمعنى الكلّي المعتبر؛ و هو أصل الحدّ، و أنّه يعتبر كثرةٌ ما، و مقدارٌ ما في عدم الانفعال، قبال من ينكر أصل اعتبار الحدّ، كمالك و داود و أمثالهم ممّن مضى «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 232 233.

(2) تقدّم في الصفحة 254.

(3) تقدّم في الصفحة 230.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 274

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك، و استكشاف الحدّ الشرعيّ فرضاً، يقع البحث في الجهات الأُخر من التحديدات المرويّة في الأخبار، الواصلة إلينا من حملة الدين، و أُولي الأمر صلوات اللّٰه تعالىٰ عليهم.

الجهة الاولىٰ: في أنّ المدار في تحديد الكثير هو العرف
اشارة

قد مضى: أنّ ابن سيرين و مسروق، ذهبا إلىٰ أنّ الذي ينفعل هو القليل، و الذي لا ينفعل هو الكثير، و لم يعيّنا حدّا «1».

و هذا هو الحكم الذي يصدّقه الوجدان و العرف بالضرورة؛ لأنّ التحديدات في المسائل الاغتراسيّة، ترجع إلى الإشكالات الكثيرة، بخلاف ما إذا كان الأمر بيد العرف فإنّه تارة يرىٰ أنّ القطرة من البول في الأقلّ من الكرّ بمثقال لا تورث النجاسة، و العَذِرة الواقعة في الأكثر منه تورث القذارة، و هكذا.

و أبواب النجاسات و الطهارات، مبنيّة على الاتساعات الشرعيّة و العفو في كثير من المواقف الموجبة لوقوع الناس في المشقّات، و الحرج، و اختلال النظام.

فعلى هذا، الذي يعرفه العرف و يصدّقه الذوق، أنّ المياه مختلفة في الاستقذار بالملاقيات، و أنّ الملاقيات متفاوتة في التأثير، إلّا أنّه ليس حسبما مرّ المدار علىٰ عدم حصول القذارة العرفيّة من الماء الملاقي للعين القذرة؛ لأنّه يرجع إلى التفصيل في المياه و النجاسات،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 275

و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به؛ حسب ما يؤدي إليه النظر، و يدلّ عليه الأثر.

بل المدار على الكثرة العرفيّة القريبة من المصاديق المعيّنة في المآثير و الروايات حسب الأوزان و الأكيال. و تلك الحدود المشار إليها في الأخبار، متسامح فيها؛ لأنّ المناط هي الكثرة الجامعة لها، و المشتركة فيها.

و غير خفيّ: أنّ هذا المطلب لو تمّ، يرتفع به تعارض المآثير، و اختلاف التحديدات، و الإشكالات غير القابلة للانحلال، حسب ما يؤدّي إليه نظر العرف في الجمع بين الروايات، و كأنّه حدّ وسط بين القول بانفعال الماء القليل، و بين نفي الماء الكثير الشرعيّ، و لا يكون خرقاً للإجماع، إلّا أنّه ليس من الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم بالضرورة، بعد الاختلاف الكثير الناشئ عن المآثير الواصلة، فالمناط هو ما يؤدّي إليه النظر في الجمع بين شتات المآثير و الروايات.

فتحصّل: أنّ دعوى حكم العقل بإيجاب التحديد الشرعيّ لئلّا يلزم الحيرة على المكلّفين في معنى «القلّة» و «الكثرة» فاسدة جدّاً.

و تعيين الحدّ في مفهوم «الإقامة» في السفر بالعشرة أيّام، لا يورث شيئاً؛ ضرورة أنّ كثيراً من العناوين المأخوذة في الأدلّة، مختلفة الصدق حسب الأنظار، و أيّ عنوان أعظم تشتّتاً فيه مثل عنوان «الخبيث» الذي حرم حسب ما قيل في الشريعة؟! مع أنّ الخبائث و الرذائل، كثيراً ما تختلف باختلاف العادات في الملل و الأقوال، بل و الأشخاص، و عناوين «المكيل» و «الموزون» تختلف في العصور و الأمصار، بل أفتى المشهور بأنّ كثير السفر يتمّ، و أحالوا ذلك إلى العرف.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 276

مع أنّه يمكن دعوى: أنّ ما هو الأقلّ هو الأقلّ؛ من مجموع ما ورد في الشرع، فبعد المراجعة إلى المآثير يظهر

لك ذلك إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

أقسام العناوين المأخوذة في الأخبار و منها «الكثير»

فنقول: العناوين المأخوذة في المآثير علىٰ أنحاء:

فتارة: تكون هي العناوين الاسميّة المطلوبة بالنظر المستقلّ، ك «الأكثر».

و أُخرى: تكون في الأدلّة عناوين كثيرة، إلّا أنّ بعضاً منها إرشاد و أمارة و طريق إلى الآخر، كعنوان «البلوغ» و «الاحتلام» و «نبات الشعر» و «الخمس عشرة سنة» فإنّها عناوين، إلّا أنّ الكلّ ربّما تكون طريقاً إلى الاحتلام، و العناوينِ المذكورة في الرضاع، فإنّ بعضاً منها طريق إلى الآخر.

و ثالثة: تختلف العناوين في المآثير، إلّا أنّ من الممكن رجوع المجموع إلى العنوان الآخر المشترك بين الكلّ غير المذكور مثلًا في الأخبار، و لكن العرف يجد ذلك بعد الدقّة في أطراف المسألة، كما ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة، و قوّينا هناك أنّ عنوان «خفاء الأذان و الجدران» من العناوين المترشّحة عن الأمر الآخر؛ و هو عنوان «البعد عن المنزل، و انقطاع المسافر عن البلد» بحيث يكون مسافراً بالإطلاق الصحيح و منقطعاً «1»، و بذلك تنحلّ الشبهة الواردة في تلك المسألة، و إلّا فالشبهة غير قابلة للحلّ حسب النظر العلميّ، فليراجع.

______________________________

(1) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 277

و من ذلك ما نحن فيه، فإنّه بعد التأمّل الشديد في المآثير، و التدبّر التامّ في الأخبار، ربّما يظهر أنّ المقصود ليس عنواناً خاصّاً و تحديداً إلزاميّاً شرعيّاً، بل المقصود من المجموع بيان الحدّ العرفيّ المتسامح فيه ل «الكثير» و أنّ ما هو القليل هو القليل حسب نظر العرف، كالمياه في الأواني و الظروف و القدور، و شدّة الاختلاف في الأخبار تشهد علىٰ ذلك.

كما أنّ بعض الأُمور الأُخر، يبعّد هذا المرام، إلّا أنّ الفقيه كلّ

الفقيه لا بدّ له من مراعاة جميع المقرّبات و المبعّدات، حتّى يتوجّه إلىٰ ما هو المقصود الأصلي بين الروايات.

فإذا تمكّنت من تصوير مصبّ البحث، و عرفت أنّه ليس بحثاً إبداعيّاً بعيداً عن الأذهان، و علمت أنّ بعض المسلمين ذهبوا إلىٰ ذلك، كما صرح به الرازي في كتابه «الكبير» نقلًا عن ابن سيرين و مسروق «1»، قائلين: باعتبار الكثرة و القلّة، من غير التحديد لهما، فإنّه يعلم من ذلك، أنّ المناط في الانفعال هو القلّة العرفيّة، و المناط في عدمه هي الكثرة العرفيّة، و يستظهر من المآثير الحدود المتعارفة من الكثرة و القلّة، فيسهل لك تصديق ما أبدعناه إذا ساعدته الروايات، و إلّا فلا بدّ من الغور في المباحث الأُخر.

الأخبار الدالّة أو المؤيدة لإرادة الكثرة العرفيّة

فإليك أخبار تدلّ أو تؤيّد من النصوص و الإطلاقات ذلك الأصل الذي يصعب الآن عليك تصديقه

______________________________

(1) التفسير الكبير 24: 94/ السطر 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 278

فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده الصحيح في «التهذيب» «1» و «الاستبصار» «2» عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن الحسين و الظاهر أنّه ابن [أبي] الخطّاب الثقة عن عليّ بن حديد، عن حمّاد بن عيسىٰ (عثمان) عن حَريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة، أو جُرَذ، أو صَعْوَة ميّتة.

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ منها، و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه، و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القربة؛ و أشباه ذلك من أوعية الماء».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم

ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء».

و ربّما يستظهر من ذكر «الكافي» الذيلَ بطريق آخر، كونُه رواية مستقلّة جمعها معها زرارة، و حكاها حَريز، قال فيه محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن حمّاد بن عيسىٰ، عن حَريز، عن زرارة، قال: «إذا كان الماء أكثر من ..» «3».

البحث السندي في الرواية السابقة

و هذه الرواية لأجل عليّ بن حديد و محمّد بن إسماعيل في السند

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298.

(2) الإستبصار 1: 7/ 7.

(3) الكافي 3: 2/ 3، وسائل الشيعة 1: 140، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 279

الثاني، مورد الإشكال، و لكن الذي قوّاه النوريّ في «الخاتمة» وثاقتَه «1»، و من تدبّر في كلمات القوم، و توجّه إلىٰ خلوّ نصوص أرباب الرجال من تضعيفه، يطمئنّ بأنّ منشأ الوهن كان اعتقاده بالفطحيّة، علىٰ إشكال في تماميّة النسبة «2»، و قد وردت روايات تدلّ علىٰ مكانته العالية عند المعصوم (عليه السّلام) زائداً على العدالة و الوثاقة «3»، و التفصيل يؤدّي إلى الملال، فما عن الشيخ في بعض كتبه «4» محلّ منع.

و أمّا محمّد بن إسماعيل، المشترك بين الجماعة الكثيرة البالغة إلىٰ ثلاثة عشر نفراً، فهو و إن كان غير ممكن فعلًا تعيينه، و لكنّه غير لازم؛ لظهور قول الكلينيّ: «جميعاً» في أنّ ابن أبي عمير الموجود في «التهذيب» «5» مطابق نسخة «الكافي» فيصحّ السند، و يعتبر عندنا.

البحث الدلالي للرواية السابقة

ثمّ إنّ الأصحاب أطالوا الكلام في فقه الحديث، و الذي نتعرّض له

______________________________

(1) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 689 690.

(2) معجم رجال الحديث 11: 304.

(3) عن أبي علي بن راشد، عن أبي جعفر الثاني (عليه السّلام) قال: قلت جعلت فداك قد اختلف أصحابنا فأُصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال: عليك بعلي بن حديد، قلت: فآخذ بقوله؟ قال: نعم، فلقيت علي بن حديد، فقلت: نصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال: لا. رجال الكشّي 2: 563.

(4) تهذيب الأحكام 7: 101/ 435، الإستبصار 3: 95/ 325.

(5) انظر تهذيب الأحكام 1: 42/ 117،

جامع أحاديث الشيعة 2: 22، كتاب الطهارة، أبواب المياه، الباب 6، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 280

- و قد ذكرنا بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة «1» هو أنّ الظاهر من الرواية ما هي الأقلّ من الكرّ، و الظاهر من «التفسّخ» هو الانفجار، دون التغيّر، و حمله عليه باطل في حدّ نفسه، و يشهد له الذيل أيضاً، كما لا يخفى.

و المقصود علىٰ ما يظهر، ليس نجاسة الماء المتفسّخ فيه، بل النهي لأجل الملازمة العرفيّة بين استعمال الماء، و لصوق أجزاء الميتة المتفسّخة في الماء بالبدن، أو شربها ضمن شرب الماء، فالنهي كأنّه تنزيهيّ، أو تحريميّ، و لا أقلّ من احتمال الملازمة، فيصحّ النهي حينئذٍ.

فيعلم من الحديث: أنّ الأوعية الكبيرة البالغة إلى الحدود المعيّنة في الرواية، لا تنجس بالملاقاة، كما نصّ به في قوله حينما أمر بالشرب و الوضوء مع وجود الملاقاة، و تدلّ على أنّ الأواني الصغيرة، هي ليست من الأشباه المقصودة في الرواية، فما كان أشباه تلك الظروف في الكبر، لا ينجس، دون الأواني غير المشابهة معها فيه. هذا حكم المسألة بعد النظر إلى الصدر.

و أمّا قضيّة النظر إلى الذيل، فهو أنّ المفهوم من القضيّة الشرعيّة، أنّ الماء البالغ حدّ الراوية ينجس، دون الأكثر، مع أنّ الصدر يقول بعدم تنجّسه، و عندئذ يمكن تقييد المفهوم، فيكون ما ينجس ما كان الأقلّ من راوية. هذا بناءً على القول بالمفهوم و إمكان تقييده.

و أمّا علىٰ ما تقرّر؛ من امتناع تقييد مفهوم الشرط، للزوم الخلف «2»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 238 239.

(2) تحريرات في الأُصول 5: 47 48.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 281

فيقال: بأنّ في هذه الرواية لا يثبت المفهوم؛

لعدم ثبوت الاستقلال للذيل، فربّما يكون الصدر قرينةً علىٰ أنّ المراد من قوله: «أكثر» البالغ حدّ الراوية، و «الأكثر» قبال «الأقلّ» و هذا إطلاق عرفيّ بعيد عن مساق المستعملات العقلائيّة، فلو فرضنا استقلال الذيل فيحمل علىٰ ذلك؛ لاقتضاء الفهم العرفي.

و دعوىٰ ظهور الرواية في تنجّس الماء البالغ إلىٰ حدّ الراوية بالتفسّخ، و عدم تنجّسه بالملاقاة، و عدم تنجّس البالغ إلى الأكثر منها بالتفسّخ و عدمه، و تنجّس غير البالغ إلى الراوية بالتفسّخ و الملاقاة، و تنجّس الأكثر من الراوية بالغلبة و التغيّر، قريبة، إلّا أنّ عدم إمكان الالتزام بتمام المراد، لا يورث سقوط الرواية، إلّا إذا قلنا: بأنّ التفكيك في المقام لأجل الإعراض، لا عدم العمل للجمع بين المآثير، و لكنّه غير معلوم، فليراجع، و تدبّر.

و ممّا يشهد علىٰ صحّة الاستعمال المذكور آنفاً، قوله في «فقه الرضا (عليه السّلام)»: «كلّ غدير فيه من الماء أكثر من الكرّ، لا ينجّسه شي ء ..» «1».

و منها: معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، أ يتوضّأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 91، مستدرك الوسائل 1: 189، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 282

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من الماء» «1».

فإنّه يشهد علىٰ أنّ الميزان هي الكثرة، و تعيين الكرّ بعد الاختلاف مع سائر المعيّنات في الروايات، من باب تعيين أحد المصاديق الواضحة من الكثير.

و توهّم لزوم حمل المجمل على المبيّن، غير تامّ، لعدم الإطلاق في دليله، بل المدار علىٰ مساعدة العقلاء، فربّما يساعد العكس،

فيحمل المبيّن على المجمل؛ لقيام القرينة علىٰ عدم خصوصيّة شرعيّة في المبيّن.

و منها: رواية عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن حبّ (جرّة) ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أُوقِيّة بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟

قال: «لا يصلح» «2».

و هي بعد كون السائل مثله، تشهد علىٰ أنّ مسألة الكرّ، ليست من المسائل الشرعيّة، و إلّا فهي علىٰ خلاف ما نطقت به كافّة المآثير في باب الأوزان، و لا ينبغي خفاؤه علىٰ مثله؛ فيَفرض مثلَ هذا السؤال، فكأنّه كان الأمر عنده مبنيّاً علىٰ مرتكزاتهم، فسأل فيما شكّ في مرتكزه العقلائيّ، و إلّا فلا معنىٰ للسؤال عن الشبهة الموضوعيّة للتغيّر في المثال المذكور،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 419/ 1326، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 197/ 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 283

أو عمّا يقرب منها كما لا يخفىٰ.

و منها: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا تشرب من سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه» «1».

فإنّها أيضاً من أحسن الشواهد علىٰ ما أبدعناه في المسألة.

و منها: «الكافي» عن عليّ بن محمّد، عن سهل، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن صفوان الجمّال، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الحياض التي ما بين مكّة إلى المدينة، تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها، و يغتسل منها الجنب، و يتوضّأ منه.

فقال: «و كم قدر الماء؟».

قلت: إلىٰ نصف الساق،

و إلى الركبة و أقلّ.

قال: «توضّأ منه» «2».

و مثلها «التهذيب» «3» و «الاستبصار» «4» مع الاختلاف اليسير.

فإنّ الظاهر منها، أنّ المقصود ليس الاطلاع على الحدّ الشرعيّ؛ فإنّه غير وافٍ بذلك، و لو كان المتعارف كافياً لما كان وجه للسؤال؛ لأنّ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.

(2) الكافي 3: 4/ 7، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.

(3) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317.

(4) الاستبصار 1: 22/ 54.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 284

المتعارف في مثلها ذلك، و لأجل حمل المشهور المطلقات في المسألة السابقة علىٰ ذلك.

فعليه يعلم: أنّ الرواية تدلّ علىٰ أنّ المناط، حصول الكثرة العرفيّة، التي هي حاصلة بعد كون العمق إلى الركبة.

و منها: رواية بكّار بن أبي بكر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «1» .. المستدلّ بها علىٰ أنّ المناط هو الحبّ، و هو ممّا ورد في الرواية الأُولىٰ، و يكون من أشباه الراوية.

و منها: «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء نحو حبّي هذا» و أشار إلىٰ حبّ من تلك الحباب التي تكون بالمدينة «2».

فما أحسن دلالته علىٰ ما ذكرناه؛ فإنّه مضافاً إلىٰ دلالته على انفعال القليل يدلّ على الحدّ العرفيّ.

فإنّ الضرورة قاضية باختلاف الحباب في القلّة و الكثرة، و المتعارف حاكم بعدم بلوغ نوع منها إلىٰ حدّ الكرّ؛ على الوجه المعروف بين الأصحاب رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم.

و الإشكال في الإرسال، مرفوع بعبد اللّٰه الحاكي عن بعض أصحابنا، فإنّه ظاهر في كونه من

المعتبرين، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 17.

(2) الكافي 3: 3/ 8، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 285

و منها: «التهذيب» «1» و «الاستبصار» «2» محمّد بن عليّ بن محبوب، عن العبّاس- و الظاهر أنّه ابن المعروف الثقة عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: «إذا كان الماء قدر قُلَّتين لم ينجّسه شي ء».

و «القُلَّتان»: الجرّتان.

و كون القلّة نصف الكرّ ممنوع قطعاً، فيكون دليلًا علىٰ أنّ المناط أمر آخر يتسامح في حدوده.

و في حديث الأعرج: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجرّة تسع مائة رطل، يقع فيها أُوقِيَّة من دم، أشرب منه و أتوضّأ؟

قال: «لا» «3».

و في هذه شهادة علىٰ أنّ الحدود كثيرة الاختلاف، و ربّما يختلف الحكم باختلاف مقدار النجاسة الملاقية، و الالتزام بأنّ القلّتين أكثر من الكرّ كثيراً ممّا لا بأس به، إلّا أنّه شاهد علىٰ ما ذكرناه، و سنذكر تفصيله إن شاء اللّٰه تعالىٰ «4».

و منها: معتبر محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309.

(2) الاستبصار 1: 7/ 6.

(3) تهذيب الأحكام 1: 418/ 1320، وسائل الشيعة 1: 153، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 8.

(4) يأتي في الصفحة 287 289.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 286

قال: «اغسله في المِرْكَن مرّتين ..» «1» إلىٰ آخره.

فإنّ «المِرْكَن» كما مضى، من الظروف الكبيرة غير البالغة حد الكرّ بالضرورة، و يكون من أشباه الحبّ و

الجرّة «2».

و منها: المطلقات الكثيرة التي استدلّ بها القائل بعدم الانفعال، و قد مضى حالها «3»، إلّا أنّها تدلّ على الإطلاق بالنسبة إلىٰ خصوصيّة الحدّ الشرعيّ، فهي منفيّة بها قطعاً؛ ضرورة أنّ الالتزام بكون جميع تلك الموارد تزداد على الكرّ، غير صحيح، و يشهد له سؤاله (عليه السّلام) في الرواية السابقة، و ترك الاستفصال دليل علىٰ أنّ الحكم موضوعه الأعمّ، فافهم.

و منها: نفس روايات الأوزان «4» و المساحات «5»، فإنّها شاهدة علىٰ أنّ الحدّ الذي لا ينجّسه شي ء، لا يتسامح فيه كثيراً، فالمدار علىٰ أن لا يكون الأقلّ ممّا ورد في الأخبار و المآثير، و لا نبالي بالالتزام بعدم لزوم ذلك أيضاً، بل الميزان هي الكثرة العرفية المعبّر عنها بكلمة «الأشباه» في الرواية، و بكلمة «الكبير» بل و «الكثير» فيها كما عرفت، و حدود ذلك ممّا يعرفه العرف، و ربّما تختلف مصاديقها حسب النجاسات و مقدارها الواردة عليه؛ لشهادة بعض الأخبار بذلك، كما أُشير إليه.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(2) تقدّم في الصفحة 253.

(3) تقدّم في الصفحة 238 253.

(4) وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11.

(5) وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 287

و منها: التقييد الوارد في بعض المآثير، كقوله (عليه السّلام) في مرسلة حَريز: «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه» «1» فإنّ كلمة «في الإناء» ليست واردة مورد الغالب؛ بعد ما ترى في المآثير من الحكم بعدم لزوم الصبّ في الظروف الكبيرة.

شواهد على إرادة الكثير العرفي

ثمّ إنّ الشواهد الكثيرة قائمة علىٰ ما ذكرناه:

فمنها: استعمال كلمة «الإناء» في نوع مآثير

المسألة فليراجع؛ فإنّ ذلك دليل علىٰ أنّ المتشرّعة كانت أذهانهم حول انفعال الماء البالغ إلىٰ هذه الحدود، لا الحدود الأُخرى التي تكون أكثر.

و منها: التحديدات الشرعيّة مع قطع النظر عن القرائن الخاصّة، منزّلة على الدقّة العرفيّة، و معها يتسامح في حدودها، و التدبّر في معاني «الكرّ» لغةً و إطلاقاً، يعطي أنّ الشرع المقدّس لا يكون مراده من «الكرّ» معناه الحديث، و لا حقيقة شرعيّة له، فعليه كيف يمكن الجمع بين المعنى الواصل من اللّغوي للكرّ، و المعنى الوارد في المآثير من الشرع؟! و الالتزام بأنّ «الكرّ» في الأخبار، مطلق على المعنى الآخر المتعارف في تلك العصور؛ و هو أصل المقدار، و التعيينُ في خصوص منه لا ينافي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 225/ 645، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 288

الاستعمال الحقيقيّ، أو الالتزام بأنّ للشرع استعمالًا خاصّاً و إطلاقاً قبال العرف، كما قيل به؛ لعدم الملائمة بين قول اللغويّين و ما في المآثير، أو الالتزام بأنّه للحدّ الكثير، و الشرع أراد منه الحدّ الخاصّ منه، كلّها غير مبرهن و بعيد جدّاً.

و هذه الشبهة و العويصة غير قابلة للانحلال إنصافاً؛ ضرورة أنّ المراجعة إلى الكتب المدوّنة في اللغة، تعطي أنّ المراد من «الكرّ» في الأخبار، لا ينطبق على المراد من «الكرّ» في اللّغات، فعلى هذا يمكن دعوى أنّ المقصود ليس الحدّ الخاصّ، بل المقصود بيان ما لا ينفعل من الماء؛ و هو البالغ إلىٰ هذه المقادير على الوجه المتسامح فيه.

و العجب أنّ أصحابنا الإماميّة في مسألة كثير السفر، اختاروا من بين العناوين المستثناة عنوانَ «كثرة السفر»!! و لا دليل لهم إلّا الاستظهار الخالي

من الشاهد؛ ضرورة عدم اضطراب المآثير هناك، و عدمِ قيام الشاهد اللفظيّ على المعنى الأعمّ الشامل لتلك الخصوصيّات، بخلاف ما نحن فيه كما عرفت.

ثمّ إنّ المحكيّ عن ابن طاوس «1»، هو العمل بكلّ ما روي، و هذا لا يستقيم إلّا علىٰ ما أبدعناه، و لعلّ في نفسه الشريفة كان الأمر كذلك، فنعم الوفاق.

هذا، فعلى طلّاب الفقه التدبّر فيما هو المتفاهم، و التفكّر في المسألة بين الإنصاف و البصيرة، و التتبّع حول ما ورد عن المعصومين

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 70/ السطر 14.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 289

- صلوات اللّٰه تعالىٰ عليهم فلعلّهم يقفون علىٰ ما لا وقفنا عليه و بذلك تنحلّ المعضلات الكثيرة المبتلىٰ بها في المقام، التي لا يمكن الخروج عن حدودها بالوجه الصحيح الشرعيّ، فإنّ فهم معنى «الرِّطل» و «الكرّ» و سائر اللّغات الموضوعة في شرح هذه الكلمات، من أصعب الأُمور، كيف و المشهور في الرطل هو أنّه الوزن، و ظاهر اللغويّين كما يأتي أنّه الكيل؟! كما عرفت الأمر في الكرّ أيضاً، و سيتّضح زيادة توضيح من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

الجهة الثانية: في تحديد الكرّ وزناً و حجماً
اشارة

لو سلّمنا التحديد الشرعيّ، و أنّ الحدود المذكورة في المآثير محمولة على المقدّرات الدقيقة غير المتسامح فيها إلّا بتسامح يسير فرضاً، فالبحث يتمّ في مقامين؛ لأنّ الحدود الواصلة إلينا منه تارة: تكون من قبيل الكم المنفصل، و أُخرى: تكون من قبيل الكم المتّصل؛ و هي المساحة.

المقام الأوّل: في مقدار الكرّ حسب الأوزان و الأرطال
اشارة

فالمشهور بينهم المدّعىٰ عليه الإجماع في «الناصريّات» و «الانتصار» و «الغنية» و «المعتبر» و «المفاتيح» «2» و عن الصدوق: «أنّه

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 295 297.

(2) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 214، المسألة الثانية، الانتصار: 8، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 33، المعتبر 1: 47، مفاتيح الشرائع 1: 85.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 290

من دين الإماميّة» «1» و في «التنقيح»: «أنّه المشهور بين الأصحاب» «2» و يظهر من «المدارك» دعوى الإجماع عليه «3»؛ هو أنّه ألف و مائتا رِطل.

و اختلفت كلماتهم في المراد من «الرِّطل» فالذي نسب إلى المشهور «4»، و عليه دعوى الإجماع عن الشيخ «5»؛ أنّه الرِّطل العراقيّ.

و ذهب الصدوقان «6» و المرتضىٰ «7» إلىٰ أنّه مدنيّ، و نقل في «الانتصار» عليه الإجماع «8»، و قال: «إنّه الذي دلّت عليه الآثار المعروفة المرويّة» و جعله الصدوق من دين الإماميّة «9».

و في «مفتاح الكرامة» «10»: «و قد يلوح من «الخلاف» و «النافع» و «المعتبر» و «المنتهىٰ» و «التذكرة» و «الذكرى» التردّد «11»، فليلاحظ» انتهىٰ.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 69/ السطر الأخير، الأمالي: 514، المجلس 93.

(2) التنقيح الرائع 1: 41.

(3) مدارك الأحكام 1: 47.

(4) مستند الشيعة 1: 57.

(5) لاحظ كشف الرموز 1: 48، مفتاح الكرامة 1: 70/ السطر 8.

(6) مفتاح الكرامة 1: 70.

(7) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 214، المسألة الثانية.

(8) الانتصار: 8.

(9) الأمالي، الصدوق: 514.

(10) مفتاح الكرامة

1: 70/ السطر 10.

(11) الخلاف 1: 190، المختصر النافع: 2، المعتبر 1: 47، منتهى المطلب 1: 7/ السطر 17، تذكرة الفقهاء 1: 19، ذكرى الشيعة: 8/ السطر 33.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 291

و هذا يستظهر من ابن حمزة؛ لجعله هذا أحوط «1».

و المعروف بين العامّة: أنّه خمسمائة رطل.

و عن الحسن بن صالح بن حيّ: أنّه ثلاثة آلاف رطل بالعراقيّ «2».

و الذي يظهر: أنّ الدعوات المذكورة غير واضحة؛ ضرورة أنّ المحكيّ عن جميع القمّيين في «الخلاف» قبال الأرطال، هو الأشبار «3»، فكيف تصحّ الإجماعات، أ و ليسوا هؤلاء الأعاظم من الفقهاء منهم؟! و مخالفة الصدوقين بذكر «الرطل» في بعض كتبهم، و عدم ذكره في «المقنع» و إن يضرّ بما عن «الخلاف» في نقل الاتفاق عنهم، إلّا أنّ المجموع من هذه المحكيّات، عدم وجود الشهرة الكاشفة عن النصّ في المسألة، أو الرأي المنسوب إلى الحجّة (عليه السّلام).

و أيضاً يظهر: أنّ المآثير في هذا المقام، غير قابلة للحمل على التقيّة؛ لعدم موافقتها لمذهب العامّة، اللّهمّ إلّا أن يستكشف من اضطراب الروايات وجود الفتاوى عنهم، و لكنّه في غاية الإشكال و إن يورث الوهن في بعض الفروض، فليتدبّر.

نعم، مرسلة ابن المغيرة و «الفقيه» الآتية تحمل على التقيّة، إلّا أنّ «القُلّة» فيها مفسّرة ب «الجرّة» و هي مفسّرة في موثّقة سعيد الأعرج بتسعمائة رطل، فتكون مخالفة لجميع فتاوى العامّة أيضاً.

______________________________

(1) الوسيلة: 73.

(2) الانتصار: 8، أحكام القرآن، للجصّاص 3: 341/ السطر 3.

(3) الخلاف 1: 190.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 292

نعم، في تفسير «القُلّة» عن الشافعيّ خلاف، و الأمر سهل.

المآثير المحددة لوزن الكرّ

ثمّ إنّ المآثير في هذه المسألة، علىٰ طوائف:

أوّلها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه

(عليه السّلام) قال: قلت له: الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب قال: «إذا كان قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء، و الكرّ ستمائة رطل» «1».

و ما في «التهذيب» و «الاستبصار» محمّد بن أبي عمير، قال: روي لي عن عبد اللّٰه يعني ابن المغيرة يرفعه إلىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): «إنّ الكرّ ستمائة رطل» «2».

و قد يستظهر اتحاد الخبرين.

و قد يشكل سندهما؛ لقول الشيخ: «إنّ ذلك لم يعتبره أحد من أصحابنا فهو متروك بالإجماع» «3»، و لأنّ مراسيل ابن أبي عمير علىٰ ما هو المشهور فيها من الاعتبار، و صحّة الاعتماد غير معتبرة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: باعتبار تلك المراسيل خصوصاً؛ لتصريح النجاشي في ترجمته بسكون الأصحاب إلىٰ مرسلاته «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1308، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 5.

(2) تهذيب الأحكام 1: 43/ 119، الاستبصار 1: 11/ 16.

(3) الاستبصار 1: 11 ذيل الحديث 17.

(4) رجال النجاشي: 326/ الرقم 887.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 293

نعم، كون المراد من «المراسيل» في عبارته ما هو المصطلح عليه، غير واضح، فلعلّه يريد المقطوعة، و هي ما يكون مسنداً إلى الراوي الأخير، دون ما لا يكون مسنداً أصلًا.

هذا مع أنّ هذه الرواية من مراسيل ابن المغيرة و ابن أبي عمير، فربّما يكون ما هو الحجّة هي الصورة الأخيرة، لا مطلق الصور، فليتدبّر.

و يمكن دعوى عدم ثبوت الإعراض الموهن؛ لما عرفت منّا مراراً: أنّ الرواية إذا كانت صريحة أو ظاهرة في أمر، و كانت بمرأىٰ و منظر من المجمعين، و أعرضوا عنها، فهي الموهونة، و لكنّها إذا كانت قابلة للجمع مع سائر

ما ورد، فلا يثبت الوهن؛ لجمعهم بينها و بين غيرها في المدلول، و فيما نحن فيه الأمر كذلك.

ثانيها: مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شي ء ألف و مائتا رطل» «1».

و في «المقنع» مرسلًا نحوه، قال: «و روى ..» إلىٰ آخره «2».

و الإشكال في السند بما مضى قد اتّضح.

و هنا خصوصيّة أُخرى قد تعرّض لها المتضلّع النوريّ في الخاتمة، و هو قوله: «عن بعض أصحابنا» أو «أصحابه» «3» فإنّه ظاهر في أنّه من الذين في رتبته فقهاً و حديثاً، ديناً و مذهباً و عملًا، أو أدنىٰ منه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 41/ 113، وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11، الحديث 1.

(2) المقنع: 31.

(3) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 541/ السطر 30.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 294

برتبة، و تكون المرسلة المذكورة مقطوعة، فلا تغفل.

ثالثها: مرسلة ابن المغيرة و هو من أصحاب الإجماع عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي ء، و القلّتان: جرّتان» «1».

و مقتضى الإطلاق في التفسير، و ظهور خبر سعيد الأعرج أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجرّة تسع مائة رطل، يقع فيها أُوقِيّة من دم، أشرب منه و أتوضّأ؟ قال: «لا» «2» في أنّ الجرّة المسئول عنها كانت تسع المقدار المذكور، هو أنّ الكرّ ألف و ثمانمائة رطل، و قد عرفت وجه إمكان الاعتماد عليها.

رابعها: عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه، قال: سألته عن جرّة (حبّ) ماء فيه ألف رطل، وقع فيه أُوقِيّة بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟

قال:

«لا يصلح» «3».

إن قلت: قضيّة هذه الرواية و سابقتها، فساد الماء بالملاقاة و لو كان كثيراً عرفاً، و هذه «الجرّة» قد وقعت في الرواية الأُولىٰ التي كانت عمدة ما استدلّ بها على ذلك.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 8.

(2) تهذيب الأحكام 1: 418/ 1320، وسائل الشيعة 1: 169، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 13، الحديث 2.

(3) مسائل علي بن جعفر: 197/ 420، وسائل الشيعة 1: 156، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 16.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 295

قلت: فيه نظر؛ لعدم تماميّة سندهما فتأمّل، و لعدم تماميّة دلالتهما؛ لما عرفت من أنّ المفروض وقوع الأُوقِيّة من الدم و البول، و هذا ربّما يورث المنع التنزيهيّ؛ لاستلزام استعمال ما لا ينبغي و هو أكل تلك الأجزاء، أو للزوم المنافرة، بل في السؤال المزبور قرينة علىٰ أنّ الماء البالغ إلىٰ هذه الحدود، ما كان ينجس، إلّا أنّ كثرة النجاسة ألجأتهم إلى السؤال، فلا تختلط.

فبالجملة: هذه الطوائف متكاذبة، و اتفاق الطوائف الثلاث علىٰ كذب الاولىٰ، لا يورث الوهن، و هذا من خواصّ الموضوع المتنازع فيه؛ لأنّه من الأمر الدائر بين الأقلّ و الأكثر.

كلام المحقّق الشيخ حسين الحلّي في المقام

و قد يقال: بعدم إمكان رفع الإجمال المتراءىٰ في موضوعها؛ لاختلاف اللغويّين في معنى «الرِّطل» و أنّه هو الكيل، أو الوزن، أو هما معاً، و تكون الروايات ناظرة إلى الوزن، أو الكيل، أو هما معاً، على الاختلاف أو الوفاق، فإليك نصّهم إجمالًا:

ففي «الجمهرة» فسّر «الرطل» بالكيل و الوزن، على حدّ سواء «1».

و في «المخصّص» بالكيل؛ باعتبار تشبيهه بالمنّ الذي هو الكيل كما في «الصحاح» «2».

______________________________

(1) لاحظ دليل

العروة الوثقىٰ 1: 77.

(2) الصحاح 4: 1709.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 296

و عن «التهذيب»: «ما يوزن به» «1».

و في «تاج العروس»: اعتبره كيلًا «2».

و عن الليث: «الرطل مقدار منٍّ» «3».

و في «المصباح» جمع بينهما، إلّا أنّه جعل معناه الأصليّ الشائع الوزنَ، ثمّ الكيل «4».

و عن كتب اللّغة الفارسيّة أيضاً ربّما يستظهر ذلك «5»، علىٰ إشكال فيه.

نعم، في «ترجمان اللّغة»: «رطل پيمانه نيم من است» «6».

و عن «تأريخ الطبريّ»: «شرب المأمون رطلًا آخر، و قال: اسقوه رطلًا، فأخذه في يده اليمنىٰ» «7» فإنّه ظاهر في كونه كأساً يشرب فيه أحياناً.

فكون هذه المآثير في مقام إفادة الوزن و الكم المنفصل في الكرّ ممنوع، أو قابل للمنع، و لا ظهور قطعيّ حسب اللّغة، فالنظر الأساسيّ حول المساحات، فتكون هذه الطوائف مورثة للخلاف مع ما ورد في المساحات، بناءً علىٰ ظهورها في الكيل، إلّا أنّه مشكل، فيشكل الاعتماد عليها.

ثمّ إنّ هذا الذي أفاده الفاضل الخبير على إشكال في بعض ما

______________________________

(1) دليل العروة الوثقىٰ 1: 78.

(2) تاج العروس 7: 346/ السطر 4.

(3) نفس المصدر/ السطر 9.

(4) المصباح المنير: 273.

(5) فرهنگ فارسي معين 2: 1660.

(6) لاحظ دليل العروة الوثقىٰ 1: 78.

(7) تأريخ الطبري 8: 578.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 297

أفاده الشيخ الفقير، و الذي يشار إليه بالبنان فضلًا، و لا يشار إليه بالعنوان فقراً؛ الحسين الحلّي مدّ ظلّه العالي، يؤيَّد بروايات ذكرها «الحدائق» في آخر المسألة العاشرة من الربا «1»، و منها صحيحة محمّد بن مسلم «2»، و رواية عمر بن يزيد «3»، و رواية الكلبيّ النسّابة في باب الأنبذة، عن الصادق (عليه السّلام) .. (إلىٰ أن قال:) فقلت: بأيّ الأرطال؟

فقال (عليه السّلام): «أرطال

مكيال العراق» «4».

و منه يعلم: أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى الكيل، كما كان ينصرف إلى العراقيّ، فتأمّل.

و الاستشكال في الروايات فرضاً من الجهة الأُخرىٰ، لا يورث خللًا في ظهورها في أنّ «الرطل» أُطلق فيها على الكيل، فتأمّل.

دعوى رفع إجمال الوزن بروايات المساحة و جوابها

هذا، و دعوىٰ رفع الإجمال بحسب الوزن بروايات المساحة «5»؛ فإنّها

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 19: 275.

(2) الكافي 5: 189/ 11، وسائل الشيعة 18: 141، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 9، الحديث 3.

(3) تهذيب الأحكام 7: 18/ 78، وسائل الشيعة 18: 133، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 2.

(4) الكافي 1: 283/ 6، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

(5) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 194.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 298

إذا كانت دالّة علىٰ أنّ العبرة بسبعة و عشرين شبراً، يلزم كون المراد من «الرطل» هو العراقيّ، و الرطل العراقيّ بحسب المساحة كان، أو الوزن يساويهما؛ ضرورة أنّ الرطل بحسب الوزن و المساحة واحد؛ أي أنّه كما يكون كيلًا متعارفاً، يكون المقدار المكيل به مائة و ثلاثين درهماً، و الدرهم بحسب المثقال الصيرفيّ، نصف المثقال و ربع عشره، و بحسب المثقال الشرعيّ الذي هو ثلاثة أرباع الصيرفيّ، نصف المثقال و خمسه، و هذا هو المدّعىٰ عليه الاتفاق و الإجماع، فكون الرطل وزناً أو كيلًا لا يضرّ بالمقصود.

نعم، الشبهة و العويصة في مسألة التطبيق بين المحدّدين- و هي مسألة أُخرى يأتي تفصيلها من ذي قبل إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1» غير نافعة؛ لأنّ الروايات في تلك المسألة أيضاً مختلفة كثيراً، و المشهور هناك علىٰ خلاف ذلك، و رفع إجمال تلك المآثير بهذه المسألة، يستلزم الدور الصريح، فما ذهب إليه

الشيخ المذكور (رحمه اللّٰه): من عدم معلوميّة الموضوع له، لا يضرّ بشي ء في المسألة، بعد كون مقدار الرطل معلوماً.

فبالجملة: كما يكون الكرّ كيلًا، فلا منع من كون الرطل أيضاً كيلًا صغيراً، و هما معلومان حسب الوزن بعد المراجعة إلىٰ أهله، فلا بدّ من رفع الإجمال في هذه الطوائف و الاختلاف في نفس المآثير.

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 339.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 299

وجه لرفع الإجمال عن روايات الوزن

و غاية ما يمكن دعواه: هو أنّ المراجعة إلىٰ وضع المدينة و وضع العراق، و ارتباط البلدين معاً، و ذهاب جماعة من العراقيّين بعناوين كثيرة إلىٰ تلك الناحية المقدّسة، بعد كون العراق مركز السلطنة الإسلامية، فيكون له النفوذ علىٰ سائر الممالك كما في عصرنا، يعطي الاطمئنان باشتهار الوزن العراقيّ في تلك البلاد النائية، فيكون المقصود من المرسلة العراقيّ، و يعرب عنه إطلاق رواية الكلبيّ و انصرافها في كلامه (عليه السّلام) علىٰ ما فيها إليه، و قضيّة الجمع العرفيّ بعد كون المكّي ضعف العراقيّ حملُ الصحيحة على المرسلة، و هذا هو الجمع العرفيّ قطعاً و بلا شبهة.

و أمّا رفع إجمال أحدهما بالنصّ الآخر، فهو و إن كان من بعض الفضلاء السابقين «1»، إلّا أنّه ليس من الجمع العرفيّ، و الأمر سهل.

هذا مع أنّ ابن مسلم ربّما كان مكّياً كما قيل «2»، أو كان في البين قرينة عليه.

الإشكال على الوجه السابق

و لكن الذي يورث الإشكال: أنّ ما اشتهر أنّ «الرطل» في المرسلة

______________________________

(1) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 100.

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 191.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 300

و الصحيحة عراقيّ و مكّي، غير قابل للتصديق؛ لاشتهار الرطل المدنيّ حسب المآثير في عصر الأئمّة أيضاً، ففي المآثير: «الفطرة عليك و على الناس كلّهم و من تعول؛ ذكراً كان أو أُنثى، صغيراً كان أو كبيراً، حرّا كان أو عبداً، عظيماً كان أو رضيعاً، تدفعه وزناً ستّة أرطال برطل المدنيّ، و الرطل مائة و خمسة و تسعون درهماً» «1».

و في رواية عليّ بن بلال: في الفطرة، و كم تدفع؟

قال: فكتب: «ستّة أرطال من تمر بالمدنيّ، و ذلك تسعة أرطال بالبغداديّ» «2».

و في معتبر زرارة،

عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يتوضّأ بمدّ و يغتسل بصاع، و المدّ رِطل و نصف، و الصاع ستّة أرطال» «3» و هكذا.

فإنّه يعلم منه اشتهار هذا الرِّطل أيضاً، و لذلك حمل جماعة «الرطل» في المرسلة على المدنيّ، كما عرفت سابقاً، فالحمل المذكور غير مبرهن جدّاً.

بطلان ملاحظة بلاد الرواة لرفع إجمال روايات الوزن

و أمّا ما اشتهر: من ملاحظة بلاد الرواة في الحمل على المكّي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 4: 79/ 226، وسائل الشيعة 9: 342، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 4.

(2) الكافي 4: 172/ 8، وسائل الشيعة 9: 341، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 136/ 379، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 50، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 301

و المدنيّ و العراقيّ، فهو غير تامّ، بل ربّما ينعكس الأمر؛ ضرورة أنّ جميع رواة الصحيحة كوفيّون، فإنّ ابن أبي عمير كوفيّ، و هكذا ابن المغيرة و إبراهيم بن عثمان؛ أبو أيّوب. و أمّا محمّد بن مسلم، فقد قال النجاشي: «إنّه كان وجه الأصحاب بالكوفة» «1».

و أمّا المرسلة فمرسلها الكوفيّ، إلّا أنّ المرسل عنه غير معلوم، فلا يبقىٰ وجه لما توهّمه الأصحاب؛ من ملاحظة حال المخاطبين، و الاشتهار المتوهّم ضعيف بما ذكرناه.

المراد من الدرهم و الصاع

ثمّ إنّ الدرهم الذي جعل معرّفاً للأرطال، فيه خلاف أيضاً، و هكذا الصاع؛ فإنّ في الأعصار المتقدّمة كانت تختلف أوزان الدراهم، و يشهد لذلك بعض المآثير:

ففي «الكافي» عن سعد بن سعد الأشعريّ قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن أقلّ ما تجب فيه الزكاة من البُرّ و الشعير و التمر و الزبيب.

فقال: «خمسة أوساق بوَسْق النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)».

فقلت: فكم الوَسْق؟

فقال: «ستّون صاعاً» «2».

______________________________

(1) رجال النجاشي: 323.

(2) الكافي 3: 514/ 5، وسائل الشيعة 9: 175، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 302

و في موثّقة زرارة و بكير، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «أنبتت الأرض ..» إلىٰ

أن قال: «و الوَسْق ستّون صاعاً، و هو ثلاثمائة صاع بصاع النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)» «1».

و مثلها المرسلة عن أحدهما (عليهما السّلام) «2».

و في المجمع: «و في مكاتبة جعفر بن إبراهيم إلىٰ أبي الحسن (عليه السّلام): و أخبرني أنّه (يعني الصاع) يكون بالوزن ألفاً و مائتين و سبعين وزنة «3» .. إلىٰ أن قال: و في الحديث: «كان صاع النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) خمسة أمداد» «4»، و لعلّه كان مخصوصاً به، و إلّا فالمشهور أنّ الصاع الذي كان في عهده (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أربعة أمداد» «5» انتهىٰ.

و «الوزنة» تفسّر ب «الدرهم» حسب ما في المآثير، إلّا أنّه أيضاً يحتاج إلى الشاهد، مع اختلاف الدراهم حسب الأمصار و الأعصار؛ فإنّي قد رأيت في بعض المتاحف اختلاف الدراهم بكثير، و الأصغر منها يقرب رأس السبّابة، و هذا الاختلاف ليس في المساحة، بل الظاهر منها اختلافها في الوزن أيضاً.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 4: 19/ 50، وسائل الشيعة 9: 177، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 8.

(2) تهذيب الأحكام 4: 14/ 35، وسائل الشيعة 9: 179، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 1، الحديث 12.

(3) الكافي 4: 172/ 9، وسائل الشيعة 9: 340، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الفطرة، الباب 7، الحديث 1.

(4) مستدرك الوسائل 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 43، الحديث 3.

(5) مجمع البحرين 4: 362.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 303

فذلكة الموقف

فتحصّل إلىٰ هنا: عدم إمكان الخروج عن هذه المجملات المترائية في الكلمات و الروايات مع شدّة الاختلاف، خصوصاً مسألة اشتهار الرطل في المدنيّ، ففي مكاتبة الهمدانيّ بعد أن يقول: اختلف

أصحابنا في الصاع، فبعضهم يقول: الفطرة بصاع المدنيّ، و بعضهم يقول: الفطرة بصاع العراقيّ قال في ذيله: فأخبرني بالوزن فقال: «يكون ألفاً و مائة و سبعين درهماً».

هذا بحسب نقل «العيون» «1» فانظر كيف فسّر الصاع المدنيّ وزناً، و لم يفسّر غيره، مع أنّهما في السؤال مذكوران؟! و في الرواية السابقة قال: «و الرطل مائة و خمسة و تسعون» و هذا هو الرطل المدنيّ أيضاً.

و قد يتوهّم إمكان حمل الصحيحة على التقيّة «2»، و قد مضى فساده «3».

و مثله توهّم ضعف المرسلة بالإرسال «4»، و قد عرفت وجهه «5»، خصوصاً في مثلها المعمول بها، و المدّعىٰ علىٰ مضمونها الإجماع، فيكون الخبران مختلفين، فإن كانا ظاهرين «فبأيّهما أخذتم جائز».

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 1: 309/ 73.

(2) مستند الشيعة 1: 57.

(3) تقدّم في الصفحة 291.

(4) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 190.

(5) تقدّم في الصفحة 292 293.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 304

إلّا أنّه هنا غير ممكن، فلا بدّ من إثبات الإجمال، أو إرجاع المسألة إلىٰ ما قوّيناه؛ و هو أنّ الماء غير المنفعل، هو الكثير عرفاً المتسامح فيه جدّاً، فيكون المراد من الصحيحة الرطل المدنيّ الذي هو الشائع كما عرفت، و من المرسلة العراقيّ الذي هو أيضاً شائع، فيتقارب المضمونان في إفادة الكثير الموضوع في بعض المآثير السابقة لعدم التنجّس.

و مثل هذا التقارب في الوزن التقارب في المساحة بين فتوى المشهور و ما اشتهر في العصر.

إشكال في الجمع بين الأخبار المتعارضة

و ممّا يورث الإشكال في الجمع بين المآثير و الأخبار، ما عن «النهاية» و «المنتهىٰ»: «أنّ الرطل مائة و ثمانية و عشرون درهماً و أربعة أسباع» «1».

و عن «المقنع»: «أنّه مائة و أربعة و عشرون درهماً و

أربعة أتساع» «2».

و لعلّه للعمل برواية المروزيّ المتضمّنة كون المدّ مائتين و ثمانين درهماً «3».

و عن «المصباح» ما في «منتهى» العلّامة، و لكنّه ليس في «المصباح» منه أثر فتدبّر، و لعلّ العلّامة استند إلىٰ ما فيه من النسخ

______________________________

(1) لم نعثر عليه في النهاية، و لكن ذكره في التحرير كما في مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 1، تحرير الأحكام: 64/ السطر الأخير، منتهى المطلب 1: 497/ السطر 18.

(2) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 4، المقنع: 156.

(3) تهذيب الأحكام 1: 135/ 374، وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 50، الحديث 3.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 305

الموجودة عنده، و اللّٰه العالم.

المراد من الكرّ هو المكيال المعروف

ثمّ إنّ الظاهر في «الكرّ» أنّه الكيل المعروف، و يشهد له نفس رواياته؛ فإنّ قولهم (عليهم السّلام): «قدر كرّ» «1» ظاهر في أنّه الكيل، مع صراحة اللغويّين في ذلك:

ففي «المصباح»: «الكرّ كيل معروف، و هو ستّون قفيزاً، و القفيز ثمانية مكاكيك، و المكوك صاع و نصف» «2».

و في «النهاية»: «الكرّ بالبصرة ستّة أوقار، و قال الأزهريّ: الكرّ ستّون قفيزاً، و القفيز ثمانية مكاكيك، و المكوك صاع و نصف، فهو علىٰ هذا الحساب اثنا عشر وَسْقاً، و كلّ وَسْق ستّون صاعاً» «3» انتهىٰ.

فيعلم أمران: أنّه الكيل، و أنّه المختلف في البلاد.

و في «القاموس»: «الكُرّ بالضمّ مكيال للعراق، و ستّة أوقار حمار، و هو ستّون قفيزاً، أو أربعون أردباً» «4» انتهىٰ.

و لعلّ «الأوقار» هو (خروار) بالفارسيّة، حتّى يتوافق مع قول صاحب «ترجمة القاموس» حيث قال

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

(2) المصباح المنير: 640.

(3) النهاية، ابن الأثير 4: 162.

(4) القاموس المحيط 2: 130.

كتاب الطهارة (للسيد

مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 306

«كرّ پيمانه است براى اهل عراق، و بار شش خر است» «1».

فإنّ الظاهر أنّ كلمة (خروار) أصله (خربار) أي (بار خر) فصار (خروار).

و لكن المتعارف في حمل الحمير خلاف ذلك؛ لأنّ المراد منها في عصرنا، أكثر من حمل الحمير بغير يسير، كما لا يخفىٰ، فما ورد في المآثير ليس هو المراد من الإطلاقات العرفيّة.

إلّا أنّه يعلم من تلك الإطلاقات الخالية عن القرائن: اشتهار الكرّ في عصر المآثير، و لا شبهة في اختلاف الأكيال في بلدة واحدة، فضلًا عن البلاد، مع أنّ مآثير الكرّ كثيرة، و الرواة فيها مختلفون بلداً و منطقة، فيعلم علىٰ هذا أنّ الأمر على التسامح، فكان الكرّ في مختلف البلاد متقارب المساحة، كما هو كذلك قطعاً في بلدة واحدة؛ لاختلاف سائر الأكيال المستعملة في الحوائج أيضاً اختلافاً يسيراً، فما ذهب إليه المحقّقون في المسألة من الدّقة «2»، خلاف التحقيق قطعاً، كما أنّ ما أفدناه من التسامح الكثير، قريب من التحقيق جدّاً.

مع أنّ من الممكن استظهار ذلك من الشيخ، حيث قال في أوّل «الاستبصار»: بأنّه لا يروي فيه إلّا ما يعتمد عليه «3»، و قد تعرّض لشتات المآثير في المساحة «4»، و ما يمكن ذلك إلّا بالوجه الذي ذكرناه في

______________________________

(1) منتهى الإرب 4: 1089، باب الكاف.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 35، فصل في المياه، المسألة 4، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 162.

(3) الاستبصار 1: 5.

(4) الإستبصار 1: 10، باب كميّة الكرّ.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 307

الجهة الاولىٰ من البحث «1»، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في تحديد الكرّ حسب المساحة
اشارة

و حيث إنّ المسألة غامضة، لا بأس بصرف عنان الكلام فيها.

فنقول: اختلفت أرباب الرأي و الفتوى في ذلك إلىٰ أقوال:

أحدها: ما ذهب إليه

المشهور؛ و هو أنّه ثلاثة أشبار و نصف طولًا و عرضاً و عمقاً، و قد ادّعى عليه الإجماع في «الغنية» «2».

و في «الخلاف» نسبته إلىٰ جميع القميّين و أصحاب الحديث «3»، و لعلّ المراد من الأصحاب هنا هم الأخباريّون من العامّة، لا المحدّثين من الخاصّة، فإنّهم هم القميّون.

و قد يظهر المناقشة في الإجماع و الشهرة من «المعتبر» «4» و الشيخ البهائيّ «5».

ثانيها: ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب، كالصدوق في «الفقيه» «6» و في بعض نسخ «الهداية» «7» و هو أنّه ثلاثة أشبار عرضاً

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 274.

(2) لاحظ الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(3) الخلاف 1: 190.

(4) المعتبر 1: 46.

(5) الحبل المتين: 108.

(6) الفقيه 1: 6.

(7) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 17.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 308

و طولًا و عمقاً، و إليه ذهب «المختلف» «1» و «الروض» «2» و «المجمع» «3» و من العجب نسبته في «السرائر» إلى القميّين «4»!! و هو مختار «نهاية الإحكام» «5» و «الدلائل» «6» و بعض أساتيذ «مفتاح الكرامة» «7» و لعلّه المعروف بين المعاصرين، كما أنّ «مجمع البحرين» نسب القول الأوّل إلىٰ جمهور متأخّر الأصحاب (رحمهم اللّٰه) «8».

ثالثها: ما عن ابن الجنيد؛ و هو أنّه ما بلغ تكسيره مائة شبر «9»، و لا أعرف له وفاقاً.

رابعها: ما عن القطب الراونديّ؛ و هو أنّه ما بلغ تكسيره إلىٰ عشرة أشبار و نصف «10»، و هذا القولان بينهما غاية الخلاف.

خامسها: ما عن جماعة من المعاصرين تبعاً «للمدارك» «11» و هو أنّه

______________________________

(1) لاحظ مختلف الشيعة: 4/ السطر 6.

(2) روض الجنان: 140/ السطر 24.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 1: 260.

(4) السرائر 1: 60.

(5) مفتاح الكرامة

1: 71 و انظر نهاية الإحكام 1: 232.

(6) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 71.

(7) مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 14.

(8) مجمع البحرين 3: 472.

(9) لاحظ مختلف الشيعة: 3/ السطر الأخير.

(10) لاحظ مستند الشيعة 1: 61.

(11) مدارك الأحكام 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 309

ستّة و ثلاثون شبراً «1».

سادسها: ما في «مفتاح الكرامة» أنّه قال: «قال الأُستاذ في «حاشية المدارك»: الظاهر من الرواية الشكل المدوّر ..» إلىٰ أن قال: «و علىٰ هذا يصير مجموع مكسّرها ثلاثة و ثلاثين شبراً تقريباً» «2» انتهىٰ.

و قد اختاره الشيخ المعاصر الحلّي- مدّ ظلّه فقال: «و الظاهر هو ما بلغ مجموعة ثلاثة و ثلاثين شبراً و نصفاً و ثمناً و نصف الثمن» «3».

سابعها: ما عن ابن طاوس من تجويزه العمل بجميع ما روي «4»، كما يستظهر من «استبصار» الشيخ «5»، و لكنّه يرجع إلى ما أسّسناه، و ليس قولًا في مسألة المساحة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ أبناء العامّة، لا يقولون بهذا التحديد في الكرّ «6»، و علىٰ هذا لا معنى لرفع الاختلاف بين المآثير؛ بحملها على التقيّة، فتدبّر جيّداً.

و أيضاً ليست المسألة إجماعيّة، حتّى يستكشف به أو بالشهرة القريبة منه رأي المعصوم (عليه السّلام) لما تعرف أنّ الاختلاف الشديد منشؤه

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 35، فصل في الماء الراكد، المسألة 2، الهامش 5.

(2) مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 6.

(3) دليل العروة الوثقىٰ 1: 83.

(4) مدارك الأحكام 1: 52.

(5) لاحظ الاستبصار 1: 10 11.

(6) المغني، ابن قدامة 1: 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 310

الأخبار، فما يظهر من الاتكاء على الإجماع «1»، ساقط جدّاً.

مقتضى الروايات في تحديد حجم الكرّ
اشارة

فعليه يتعيّن الغور في الروايات، و تعيين مفادها إن أمكن، و إلّا فلا بدّ من

الطرح و الرجوع إلىٰ مقتضى الأصل، أو الذي اخترناه جمعاً بين جميع المآثير في الكرّ وزناً و مساحة، و تلك المآثير مختلفة و متشتّتة، و يبلغ مجموعها إلى طوائف:

الطائفة الأُولىٰ: ما تدلّ بظاهرها على أنّه ستّة و ثلاثون شبراً
اشارة

و هي صحيحة إسماعيل بن جابر التي قال في حقّها «المدارك»: «أنّها أصحّ ما وقفت عليها» «2» و قد رواها «التهذيب» و «الاستبصار» قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الماء الذي لا ينجّسه شي ء.

قال

ذراعان عمقه، في ذراع و شبر سعته

[1] «3».

و الإشكال في «الجواهر»: «بأنّها رواية قد أعرض عنها الأصحاب» «4» في

______________________________

[1] في نسخة: وسعه (منه (قدّس سرّه)).

______________________________

(1) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(2) مدارك الأحكام 1: 51.

(3) تهذيب الأحكام 1: 41/ 114، الإستبصار 1: 10/ 12، وسائل الشيعة 1: 164 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

(4) جواهر الكلام 1: 178.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 311

غير محلّه؛ لما عرفت أنّ الاختلاف المذكور، يوهن الركون إليهم في ذلك، و كون الإجماع المركّب كاسراً، ممنوع جدّاً. مع أنّ من المحتمل عدم وصول جمع منهم إليها، أو حملها علىٰ ما فهموا من غيرها، كما يأتي الإيماء إليه، و كيف أعرضوا عنها و قد اعتمد عليها ابن طاوس، بل و الشيخ كما مرّ البحث عنه «1»؟! و لعلّها مورد عمل الصدوق في «المقنع» حيث حكاها فيه مرسلًا «2».

و قد يشكل سندها بإسماعيل بن جابر، الذي روىٰ في هذه المسألة رواية أُخرى مخالفة معها «3»، فإنّ ذلك يورث القصور في جريان قاعدة عدم السهو و الغفلة في حقّه عند العقلاء، اللّهمّ إلّا على الجمع العرفي الذي أبدعناه، فتأمّل.

المراد من السعة

ثمّ إنّ المتفاهم العرفيّ منه، كون المراد من «السعة» هو الطول و العرض، و التعبير عنهما بذلك؛ لعدم الخصوصيّة لأحد الضلعين على الآخر، و ذكر «العمق» بخصوصه لعدم تماميّة المقصود إلّا به على

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 309.

(2) المقنع: 31.

(3) عن

إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) .. قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.

الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 312

الوجه السهل، و دعوى الخصوصيّة في ذلك «1»، غير قابلة للتصديق.

فعليه يلزم كون كلّ طرف منه ذراعاً و نصفاً، و عمقه ذراعين، و إذا كان كلّ ذراع شبرين، يلزم كون المجموع بعد ضرب أحد الضلعين في الآخر، و ضرب المجموع في العمق ستّة و ثلاثين شبراً، و لا حاجة إلى شاهد في ذلك بعد مساعدة الوجدان، و المناط في هذه التحديدات هي الأوساط العرفيّة.

و توهّم أنّ الحدّ الشرعيّ للذراع و هو القدمان «2» ممّا ورد في مآثير المواقيت «3»، في غير محلّه؛ لعدم دلالتها علىٰ أنّه المراد منه في جميع الأبواب، كما لا يخفى.

توهّم دلالة السعة على الشكل الاسطواني

و قد يشكل: بأنّ المتفاهم العرفيّ من قوله

سعته

هو الشكل الدوريّ «4»، فإنّه المتعارف في الكرّ أوّلًا مع عدم ذكر من الطول و العرض، مع أنّه لا يكون جميع الأطراف أشباراً ثلاثة؛ لأنّ بين النقطتين الذي هو قطر المربّع، أكثر من الأضلاع، فعندئذٍ لا بدّ من كون سطح الدائرة ثلاثة أشبار، و عمقها أربعة.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 199.

(2) جواهر الكلام 1: 178.

(3) وسائل الشيعة 4: 136 140، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 7.

(4) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 199.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 313

و إذا أردت معرفة المجموع، فعليك أوّلًا معرفة مساحة سطح الدائرة، ثمّ الضرب في العمق، و تلك المساحة تحصل من ضرب الشعاع و هو نصف القطر في نفسه، ثمّ ضرب

الحاصل في العدد «پي»، و هو 14/ 3، فإذا حصل منه 065/ 7 فاضربه في الأربعة أشبار، فيحصل منه الثمانية و العشرون شبراً و ستّة و عشرون في المائة؛ أي 26/ 28، فلا تدلّ الرواية علىٰ ما هو المعروف منها.

و أمّا توهّم دلالتها علىٰ أنّه السبعة و العشرون تسامحاً «1»، فهو فاسد؛ لعدم المعنى للتسامح في التحديدات إلّا على الوجه الذي ذكرناه، فعلى هذا تكون الرواية ظاهرة في غير ما ذهب إليه الأُمّة، و مفادها أمر وراء ما اختاره الأصحاب إلّا من شذّ.

إبطال التوهّم السابق

و في كون الظاهر منه الشكل الدوريّ إشكال، بل منع؛ ضرورة أنّ العرف لا يجد خصوصيّة للشكل، بل يجد أنّ هذه الرواية و أمثالها في جميع المقامات، ظاهرة في إفادة المقدار الذي يتسع به هذه المساحة، سواء كانت دوريّة أو مكعّبة، و اختيار الدور لكون بعض الظروف دوريّاً غير صحيح؛ للزوم توهّم خصوصيّة من بين الأشكال، فالمراد إفادة المقدار المذكور، و سواء فيه جميع الأشكال، و لا نظر إلى الشكل الخاصّ.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 201.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 314

توهّم إجمال الرواية و جوابه

و توهّم: أنّ الرواية مجملة «1»، في غير محلّه؛ لأنّ عدم إمكان الالتزام بمفادها، غير الإجمال في دلالتها.

و دعوىٰ: أنّ «الذراعين» مجمل حسب حمله على الأقدام أو الأشبار «2»، غير مسموعة بعد اتفاقه مع الشبر، و إرادة القدم منه في مورد أو موردين لا يورث الإجمال، فلا معنى لرفع اليد ما دام لم يكن في الكلام قرينة خاصّة، أو لم يكن الاستعمال شائعاً إلىٰ حدّ الحقيقة الشرعيّة؛ بحيث يكون «الذراع» ظاهراً في القدمين في محيط المتشرّعة و الشريعة، فعليه تكون الرواية ظاهرة في أنّ الكرّ ستّة و ثلاثون شبراً.

و لو سلّمنا الإجمال، و لكنّها في جميع محتملاتها نافية لما يستفاد من غيرها، فيدور الأمر بين كونها ظاهرة في الأكثر من ثمانية و عشرين قدماً أو شبراً، أو ظاهرة في ستّة و ثلاثين قدماً أو شبراً، أو تكون مجملة من الجهتين، و نافية لسبعة و عشرين و ثلاثة و أربعين، و هذا كافٍ.

و دعوىٰ رفع الإجمال في ناحية القدم؛ لأنّه زائد على الشبر بمقدار يسير و هو السدس «3»، فاسدة؛ لأنّه كذلك إذا كان «القدم» و «الشبر» موضوعين، دون الأقدام

و الأشبار، فإنّه إذا بلغت إلى كثير تزداد القلّة، و ربّما

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 65.

(2) دليل العروة الوثقىٰ 1: 87.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 155.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 315

يصير الاختلاف بين الأقدام و الأشبار في الرواية إلى أكثر من ثلاثة أشبار، كما لا يخفى.

بعد المحتملات الأُخر

ثمّ إنّ الاحتمالات الأُخر الكثيرة في الرواية، بعيدة في الغاية: بأن تكون الرواية ناظرة إلى العمق و الطول، و ساكتة عن العرض، فمن هذا الضلع يكون الأمر بالخيار.

أو تكون ناظرة إلى العرض، فلا بدّ من كون الضلع الآخر أزيد من الذراع و الشبر.

أو تكون ناظرة إلى الأبعاد الثلاثة، فيكون الطول ذراعاً، و العرض الذي أُريد من كلمة

سعته

يكون شبراً، فلا بدّ حينئذٍ من قراءة «الشبر» بالرفع «1».

فبالجملة: قد مضى أنّ المحقّق في «المعتبر» أفتىٰ بمضمونها علىٰ ما يظهر منه، حيث قال بعد الإشكالات في سائر الأخبار: «فهذه» مشيراً إليها «حسنة، و يحتمل أن يكون قدر ذلك كرّاً» «2» انتهىٰ.

و مراده من «الحسنة» هي الموافقة للتحقيق، لا مقابل الصحّة و الضعف.

و هذه مورد فتوى «المدارك» أيضاً حيث قال في ذيله: «و هو متّجه» «3»

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 178.

(2) المعتبر 1: 46.

(3) مدارك الأحكام 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 316

فما في «الحبل المتين» من نفي عمل واحد من الأصحاب بها «1»، غير موافق للصواب.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علىٰ أنّه ثلاثة أشبار و نصف، في ثلاثة أشبار و نصف، في ذلك أيضاً
اشارة

فمنها: رواية أبي بصير، ففي «التهذيب» و «الاستبصار»: أخبرني الشيخ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد «2»، عن عثمان بن عيسىٰ، عن ابن مُسْكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكرّ من الماء، كم يكون قدره؟

قال (عليه السّلام)

إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفاً «3»، في مثله ثلاثة أشبار و نصف، في عمقه في الأرض، فذلك الكرّ من الماء «4».

و مثله في «الكافي» «5».

و منها: ما رواه «الكافي» عن محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن

صالح الثوريّ، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

إذا

______________________________

(1) الحبل المتين: 108/ السطر الأخير.

(2) في التهذيب إضافة «ابن يحيى» (منه (قدّس سرّه)).

(3) في الاستبصار: «و نصف» (منه (قدّس سرّه)).

(4) تهذيب الأحكام 1: 42/ 116، الإستبصار 1: 10/ 14، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 6.

(5) الكافي 3: 3/ 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 317

كان الماء في الرَّكيّ كرّاً لم ينجّسه شي ء.

قلت: و كم الكرّ؟

قال

ثلاثة أشبار و نصف عمقها، في ثلاثة أشبار و نصف عرضها «1».

البحث الدلالي

و دلالتها عليه واضحة، و يصير المجموع عشرة أشبار و نصفاً، و إليه ناظر كلام الراونديّ «2»، و النظر إلى الضرب غير موافق للأنظار السطحيّة؛ لعدم الحاجة إلى الاطلاع عليه، بل الاطلاع على الأضلاع، كافٍ في حصول المطلوب.

و توهّم قصور دلالة الرواية الأُولىٰ علىٰ مقالة المشهور؛ لعدم ذكر البعد الثالث فيها «3»، في غير محلّه؛ إمّا لعدم الحاجة إليه، أو لظهور قوله

في مثله

في البعد الثاني، و الجملة الثالثة في البعد الثالث.

و إن شئت قلت: استفادة الأبعاد الثلاثة، لا يمكن إلّا من العبارة الشاملة للجمل الثلاث و الرواية مشتملة عليها؛ فإنّ قوله

في مثله

الجملة الثانية، و إلّا يلزم التكرار، فيحصل البعدان من هذه الكلمة، و الجملة الثالثة صريحة في العمق، و لا يتصوّر العمق إلّا فيما كان

______________________________

(1) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

(2) تقدّم في الصفحة 308، الهامش 10.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 208.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 318

للشي ء جنبان آخران، فإنكار دلالة هذه الطائفة علىٰ ما هو المشهور بل المدّعىٰ عليه

الإجماع «1»، في غاية المكابرة، فلا حاجة إلى الجملة الأُولىٰ الزائدة في «الإستبصار» في الرواية الثانية «2».

مع أنّ تقديم أصالة عدم النقيصة علىٰ عدم الزيادة، قريب من حكم العقلاء.

و الذي يخطر بالبال: إبدال كلمة

في الأرض

إلىٰ: «في العرض» في الرواية الأُولىٰ؛ فإنّه يناسب المقام، و لا يناسبه تلك الجملة جدّاً.

نعم، في التركيب الواصل إلينا، لا يمكن تغيّر كلمة «في العرض» بوجه عرفيّ، فلعلّ الراوي قدّم و أخّر في العبارة، و كان غرضه إفادة الأبعاد الثلاثة، و اللّٰه العالم.

البحث السنديّ

ثمّ إنّ الذي هو المهمّ في المقام، تصحيح سند هاتين الروايتين، و لقد تصدّى الأصحاب رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم في كتبهم الاستدلاليّة لذلك «3»، و أطالوا المقال في المقام، و الذي يمكن المصير إليه في هذه المرحلة وجوه

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 318

______________________________

(1) الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 34.

(2) الاستبصار 1: 33/ 88.

(3) الحدائق الناضرة 1: 268، جواهر الكلام 1: 173، مهذّب الأحكام 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 319

أحدها: انجبار الضعف بعمل المشهور «1»، و توهّم أنّه الشهرة غير العمليّة، في غير محلّه؛ لتمسّكهم بها في كتبهم، و لظهور أنّ مستندهم ليس إلّا ذاك.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بعدم تماميّة الشهرة؛ لذهاب القمّيين إلىٰ خلافهم «2»، و فيهم الصدوق في بعض كتبه «3»، و والده (رحمه اللّٰه)، بل في عدم اعتمادهم على مثلهما وهن عليهما، بل هو ظاهر كلّ من ألغى التحديد بالمساحة، و اكتفىٰ بذكر حدّ الكرّ بالوزن.

ثانيها: وجود ابن محبوب في الرواية الثانية، فإنّه من

أصحاب الإجماع، و السند إليه معتبر؛ لأنّ المراد بابن يحيىٰ هو العطّار، و بأحمد بن محمّد إمّا ابن عيسىٰ، أو ابن خالد، و كلاهما جليلان ثقتان «4»، و من بعده و إن كان محلّ الخلاف، إلّا أنّ رواية ابن محبوب عنه كثيراً، تكفي لوثاقته و حسنه.

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25، مستند الشيعة 1: 62، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 152.

(2) لاحظ الخلاف 1: 190.

(3) لاحظ الفقيه 1: 6، الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 17.

(4) أحمد بن محمّد بن عيسىٰ بن عبد اللّٰه بن سعد بن مالك بن الأحوص بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري، من بني ذخران بن عوف بن الجماهر بن الأشعر، يكنّى أبا جعفر و أوّل من سكن قم من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص.

ثقة له كتب، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا (عليه السّلام).

رجال الطوسي: 366، رجال النّجاشي: 81/ 198، معجم رجال الحديث 2: 296.

أحمد بن محمّد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمّد بن علي البرقي أبو جعفر، أصله كوفي و كان جدّه محمّد بن علي .. كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء و اعتمد المراسيل و صنّف كتباً ..

رجال النجاشي: 76/ 182، معجم رجال الحديث 2: 261.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 320

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ حديث أصحاب الإجماع، غير راجع إلىٰ محصّل «1»، فعليه لا بدّ من استفادة الوثاقة له من كلمات القوم.

و الّذي يظهر لي: أنّ طعن الشيخ (رحمه اللّٰه) في «التهذيب» محصور بالنسبة إلىٰ ما يختصّ بروايته، و ظاهره ترخيص العمل بجميع رواياته التي لا يختصّ بها، و مثلها هذه الرواية.

هذا، مع أنّ ظاهر الوحيد حسنه «2»؛ لأنّ

عدم استثنائه و إن لم يستلزم الوثاقة، و لكنّه دليل عدم المجروحيّة، و هو يلازم مرتبة من الحسن، فما في «التنقيح» «3» في غير محلّه من وثاقته.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ أيضاً، عدم ثبوت حسنة إلّا بتصريح أرباب الرجال الأقدمين، و هم ساكتون عنه، فتدبّر جيّداً.

ثالثها: تصحيح سند الرواية الأُولىٰ ذاتاً؛ و ذلك بدعوىٰ أنّ أحمد بن محمّد هو ابن عيسىٰ، أو هو ابن خالد، و كونه ابن يحيىٰ كما في «التهذيب» غير تامّ، أو أنّه معتبر في نفسه أيضاً.

و بدعوىٰ: أنّ ابن عيسىٰ موثوق به.

و بدعوىٰ: أنّ أبا بصير أمّا أحد الثلاثة الذين هم كلّهم ثقات، كما عن

______________________________

(1) قال الشيخ في تهذيب الأحكام 1: 408، ذيل الحديث 1282: و الراوي له الحسن بن صالح و هو زيدي بتري، متروك العمل بما يختصّ بروايته.

تنقيح المقال 1: 285/ 2579، معجم رجال الحديث 4: 361.

(2) تعليقة الوحيد البهبهاني علىٰ منهج المقال (الطبعة الحجريّة): 101.

(3) تنقيح المقال 1: 285/ 2581.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 321

الوحيد «1»، أو هو الليث المراديّ كما استظهره «الجواهر» «2» أو يكفي رواية عبد اللّٰه بن مُسْكان عنه في الوثوق «3»؛ لأنّه من أصحاب الإجماع.

فعليه لا بدّ من إثبات هذه الدعاوي الثلاث حتّى يتبيّن الحقّ.

المراد من أحمد بن محمّد في المقام

أمّا الدعوى الأُولىٰ، فإثباتها قليل المئونة؛ لأنّ ابن يحيىٰ في هذه الطبقة، ليس الذي يروي عنه الصدوق بلا واسطة، و لا الفارسيّ الذي يروي عنه التلعُكْبريّ سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة، فينحصر بكونه ابن العطّار، و لزوم رواية الأب من الابن ممّا لا بأس به جدّاً و قطعاً، و هو ثقة و معتبر على الأصحّ.

إلّا أنّ الالتزام به أيضاً غير صحيح؛ لرواية التلعُكْبريّ المتوفّىٰ سنة

385 عنه أجازه في سنة ستّ و خمسين و ثلاثمائة، فهذا ابن يحيىٰ من المهملين، لا الضعفاء و المجاهيل.

و من المحتمل كونه ابن يحيى الكوفيّ، أخا كامل بن محمّد، من أصحاب الكاظم (عليه السّلام) إلّا أنّه لا يفيد شيئاً.

و لأجل ذلك التجأ الأصحاب (رحمهم اللّٰه) إلى إثبات أنّه ابن عيسىٰ، و قد وقع

______________________________

(1) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9، جواهر الكلام 1: 174.

(2) جواهر الكلام 1: 174.

(3) مهذّب الأحكام 1: 182.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 322

التصحيف أو اشتبه الأمر على بعض النسّاخ «1»؛ ذاكرين: «أنّه هو الذي يروي عنه العطّار كثيراً، و يروي عن عثمان بن عيسىٰ مراراً» و قد ادّعى «الحدائق» القطع بذلك «2»، و استوجهه الآخرون «3» حتّى الوالدُ «4»، مؤيّدين ذلك بتفرّد نسخة «التهذيب» بذكر ابن يحيىٰ و عدم طعن جملة من المتأخّرين كالعلّامة «5» و غيره «6» في سند الرواية إلّا بعثمان بن عيسىٰ و أبي بصير، و إلّا كان هو الأولىٰ؛ لتقدّمه و مجهوليّته المطلقة.

و لك دعوى: أنّ الرواية مرويّة مرّتين؛ مرّة بابن عيسىٰ، و مرّة بابن يحيىٰ، فما في «الكافي» «7» و «الاستبصار» «8» هو ابن عيسىٰ علىٰ ما قيل: «بأنّ أحمد بن محمّد عند الإطلاق في أوائل السند هو ذاك» أو هو و ابن خالد البرقيّ؛ لكونهما في الطبقة الواحدة، و قد روىٰ عنهما الكلينيّ بالعدّة المذكورين في محلّه، و ما في «التهذيب» هو ابن يحيىٰ «9»؛ للتصريح به، فتكون الرواية من هذه الجهة نقيّة كما هو الواضح. و لكنّه بعيد في حدّ ذاته، كما لا يخفى.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 173.

(2) الحدائق الناضرة 1: 268.

(3) الحدائق الناضرة 1: 268، مستند الشيعة 1:

62، جواهر الكلام 1: 173.

(4) الطهارة (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) اللنكراني (مخطوط).

(5) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25.

(6) كشف الرموز 1: 47، روض الجنان: 140/ السطر 15.

(7) الكافي 3: 3/ 5.

(8) الإستبصار 1: 10/ 14.

(9) تهذيب الأحكام 1: 42/ 116.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 323

وثاقة أحمد بن محمّد بن عيسىٰ

و أمّا الدعوى الثانية، فإثباتها حسب ما يؤدّي إليه النظر الدقيق ممكن؛ و ذلك لأنّ اجتماع الوجوه الكثيرة، كافٍ في حصول الوثوق و إدراج مثل ابن عيسىٰ في المعتبرين؛ ضرورة أنّ أمره دائر بين كونه من الثقات الأجلّاء، أو الموثّقين، أو من الذين عثروا في برهة، ثمّ تابوا و رجعوا.

و أمّا احتمال كونه متروك الرواية كما يظهر من العلّامة، فقال: «الوجه عندي التوقّف فيما ينفرد» «1» و في كتب الاستدلال جزم بضعفه «2» فهو غير تامّ، مع احتمال كونه راجعاً إلىٰ غيره، و لو كان الأمر كما قيل، لكانت الرواية في هذه المسألة معتبرة؛ لافتائه بها في كتبه الكثيرة «3».

و لقد تصدّى المتضلّع النحرير، و الخبير البصير، شيخ إجازتنا النوريّ في «الخاتمة» لوثاقته، فأتىٰ بما هو حقّ النظر إلّا ما شذّ «4».

و لكنّ الذي يسهّل الخطب: أنّ إمعان الأنظار الدقيقة، و إعمال القوى الفكريّة، في إخراج الرجالات العلميّة من المطاعن المحكيّة، إلىٰ معالي و مدارج المحاسن الجليّة، خارج عن الطرق العقلائيّة في حجّية أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة الأطهار صلوات اللّٰه تعالىٰ

______________________________

(1) رجال العلّامة الحلّي: 244.

(2) منتهى المطلب 1: 7/ السطر 25.

(3) إرشاد الأذهان 1: 236، قواعد الأحكام: 4، تذكرة الفقهاء 1: 19.

(4) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 602/ السطر 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 324

عليهم أجمعين.

و الذي هو المهمّ في المقام، أنّه

لم يضعّفه أرباب الرجال، و الالتزام بالفسق و الفجور و الشرك و الكفر في رواة الأحاديث، إذا كانوا متحرّزين عن الأكاذيب، ممّا لا بأس به، و ابن عيسىٰ منهم؛ أي ممّن لم يضعّف. و لو فرضنا اندراجه في القسم الثاني، و لكنّه معتبر ظاهراً؛ لعدم الحاجة إلىٰ تلك النظرة العلميّة بعد الغور فيما وصل إلينا في حقّه، فراجع و تدبّر.

وثاقة أبي بصير

و أمّا الدعوى الثالثة، فيمكن إثباتها:

تارة: برواية ابن مُسْكان الذي هو من أصحاب الإجماع، و فيه ما قد أُشير إليه «1».

و أُخرى: بأنّ «أبا بصير» كنية المكفوفين؛ و هم ليث بن البختريّ المراديّ أبو يحيىٰ، و أبو بصير الأصغر الذي عدّ من أصحاب الباقرين و الكاظم (عليهم السّلام) و يحيى بن القاسم الأسديّ أبو محمّد، و هو أبو بصير الأكبر الذي عدّ من أصحاب الصادق و الكاظم (عليهما السّلام) و يحيى بن أبي القاسم الحذّاء المكفوف، الذي عدّ من أصحاب الباقر (عليه السّلام).

و لا شبهة في وثاقه الثاني؛ لتصريح أربابه «2»، و قد مات سنة خمسين و مائة، التي مات فيها جمع من الأقدمين من الأصحاب رضي اللّٰه عنهم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 320.

(2) رجال النجاشي: 441.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 325

و الظاهر وثاقة الأوّل أيضاً؛ لشهادة المآثير الكثيرة المرويّة في «الكشّي» و عدم طعن أحد منهم فيه «1»، و صريح كلام ابن الغضائريّ في وثاقته «2» كافٍ و إن جرح في دينه، و هو لا يتمّ و لا يضرّ، و التفصيل في محلّه، و ما ورد من المآثير الذامّة لا يعارض المادحة؛ لمحموليّتها علىٰ ما حمل عليه ما ورد في حقّ زرارة و ابن مسلم «3»، مع أنّها لو كانت ساقطة بالتعارض،

يكفي لحسن حاله الشواهد و القرائن الأُخر، فتدبّر.

و لقد تعرّض لتفصيل البحث، العالم المعاصر صاحب «قاموس الرجال» حفظه اللّٰه تعالىٰ في رسالة علىٰ حدة «4»، فإن شئت فعليك بالمراجعة إليها.

و أمّا ابن أبي القاسم، فالذي يظهر لي هو أنّه السابق آنفاً، و ما في «التنقيح» تبعاً لجماعة من الأصحاب أنّه الثالث «5»، غير ثابت، بل الثابت أنّه أبو بصير الأكبر حذاء الأصغر، و لو كان الثالث غير الثاني ليلزم التوصيف على عكسه؛ لأنّ الأصغر عدّ من أصحاب الثلاثة، و الأكبر عدّ من أصحاب الاثنين، فهو و الثاني واحد، فيكون أبو بصير اثنين، و هما من أصحاب الثلاثة، إلّا أنّ أحدهما أكثر علماً و ورعاً و عنواناً؛ و هو الذي لم

______________________________

(1) رجال الكشي 1: 398.

(2) جامع الرواة 2: 34.

(3) معجم رجال الحديث 7: 226، و 17: 255.

(4) الرسالة المبصرة في أحوال أبي بصير، المطبوع في ملحق الجزء الحادي عشر من قاموس الرجال.

(5) تنقيح المقال 3: 309/ 12975.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 326

يصرّح الأصحاب بوثاقته إلّا «جامع الرواة» في ذيل كلامه «1»، و الآخر في الرتبة المتأخّرة مع كونه واقفيّاً، و قد صرّح النجاشي فقط بوثاقته و وجاهته «2»، و اللّٰه العالم.

هذا، و أمّا دعوى وثاقة الكلّ، فهي غير مبرهنة، و مجرّد توثيق الآقا (رحمه اللّٰه) «3» غير كافٍ، و لكن حسب ما يؤدّي إليه نظرنا في الطريقة العقلائيّة في حجّية أخبار الآحاد، وثاقة الكلّ.

و أمّا دعوى: أنّ أبا بصير في الرواية أحدهم المعيّن؛ و هو الليث المراديّ؛ لرواية ابن مُسْكان عنه، كما في «الجواهر» «4» فغير ناهضة عليها الحجّة الشرعيّة.

نعم دعوى: أنّه إمّا الليث أو الأسديّ، و احتمال كونه الثالث «5» بعيد؛

لعدم كونه من أصحاب الصادق (عليه السّلام) فتكون الرواية لأحد الأوّلين، قريبة، و ربّما تقوم عليها الحجّة؛ لما أُشير إليه كما لا يخفى.

و غير خفيّ: أنّ الليث المراديّ هو أبو بصير الذي لم يصرّح الأقدمون بوثاقته، فكان على «الجواهر» استظهار أنّه الأسديّ، فتكون الرواية لأجله موثّقة، فلا تغفل.

فبالجملة: بعد اللّتيّا و التي، دعوى الوثوق بالصدور بعد اعتضادها

______________________________

(1) جامع الرواة 2: 338.

(2) رجال النجاشي: 441.

(3) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.

(4) جواهر الكلام 1: 174.

(5) ذخيرة المعاد: 122/ السطر 23.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 327

بالشهرة القويّة «1» مسموعة جدّاً، و بعد ما عرفت وضوح دلالتها على الأبعاد الثلاثة، و أنّ معناها هو أنّ الكرّ هو أن يكون الماء ثلاثة أشبار و نصفاً، في نفسها ثلاثة أشبار و نصفاً، في العمق في الأرض، و التركيب واضح؛ فإنّ الخبر بعد الخبر في الأدب معروف و جائز، و هناك هو الأقرب إلىٰ أُسلوب الكلام من غيره؛ لأنّ المراد بيان أمر واحد متعدّد الجهة و الأبعاد، فلا بدّ من عدّ هذه الطائفة معارضة مع سائر الطوائف.

بطلان إرادة الشكل الاسطواني

فما ترى في بعض الكتب الحديثة؛ من دلالتها على الدوريّة، فيكون المجموع ثلاثة و ثلاثين شبراً، و نصفاً، و ثمناً، و نصف الثمن «2»، لا يرجع إلى المحصّل، و خروج عن الأفهام السوقيّة في فهم الأحاديث المرويّة.

و أمّا الشبهة تارة: في رواية ابن يحيىٰ «3»؛ بأنّها في الدوريّة، لأنّ موضوعها

الرَّكي

و هو دوريّ «4».

و أُخرى: بأنّ صدرها متضمّن لاشتراط الكرّية في عدم انفعال ماء

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 152.

(2) مهذّب الأحكام 1: 183.

(3) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب

9، الحديث 8.

(4) حاشية الوحيد البهبهاني (المطبوعة بهامش مدارك الأحكام): 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 328

البئر، و هو غير مقبول «1».

و ثالثة: بأنّ النسخة الصحيحة الأصليّة و هي «الكافي» و «التهذيب» بل و النسخة المصحّحة من «الإستبصار» خالية عن الجملة الأُولىٰ، فتكون هي مشتملة للبعدين: العمق، و العرض «2».

فكلّها واهية واضحة:

أمّا الأُولىٰ فتدفع: بأنّ الأخذ بخصوصيّات الحدّ، يورث شرطيّة الدوريّة في عدم انفعال الماء، و هو واضح المنع، فعليه يعلم أنّ جميع المآثير بصدد بيان المقدار الذي لا ينفعل، و هو الذي يملأ هذه المساحة، من غير النظر إلى الدوريّة أو المكعّبية، مربّعية أو مستطيليّة أو غير ذلك، سواء كان أحد البعدين أكثر من الآخر، أو البعدان أزيد من الثالث، أو يكون أحد الأبعاد نصف شبر، و الآخران إلىٰ حدّ ينجبر نقصان البعد الناقص و هكذا، فحمل هذه التحديدات على الشكل الخاصّ من الهندسيّ، من سوء الدرك.

و أمّا الثانية: فلأنّ من الأصحاب من يقول بذلك «3»، فلا يلزم التفكيك بحسب الصدور، بل هو قضيّة الجمع بين المآثير، و هذا ممّا لا يورث الوهن في ذيلها، كما لا يخفى.

و أمّا الثالثة فتدفع: بعدم الحاجة إلى تلك الجملة؛ لما عرفت من

______________________________

(1) مرآة العقول 13: 11، مصباح الفقيه، الطهارة: 29/ السطر 12.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 205.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 329

أنّ العمق لا يتصوّر إلّا مع البعدين، و أمّا كون البعدين شخصين بعنوان «العرض» و «الطول» فهو غير لازم، بل يستلزم توهّم خصوصيّة الدوريّة في عدم الانفعال، كما مضى.

مع أنّ العرض في مقابل العمق بدون ذكر الطول، ظاهر في السعة، بل أُريد منه

ذلك في قوله تعالىٰ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ «1» و هكذا في قوله عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ «2» فليتدبّر.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على أنّه ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار ضرباً
اشاره

فيكون المجموع سبعة و عشرين.

فمنها: ما رواه المشايخ الثلاثة بالأسانيد الأربعة، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد ابن خالد البرقيّ، عن ابن سِنان، عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء.

فقال

كرّ.

قلت: و ما الكرّ؟

قال

ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار «3».

و في كون ما في «المجالس» من أنّه قال: «و روى: أنّ الكرّ هو ما

______________________________

(1) الحديد (57): 21.

(2) آل عمران (3): 133.

(3) الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 330

يكون ثلاثة أشبار طولًا، في ثلاثة أشبار عرضاً، في ثلاثة أشبار عمقاً» «1» روايةً غيرَ ما مرّ «2» إشكال، و لعلّه نقل بالمعنى مضمونها، مع أنّها لا فائدة فيها لإرسالها، فتبقى الاولىٰ وحيدة مستند الصدوقين على ما حكي «3» و سائر القمّيين، علىٰ ما نسبه إليهم «السرائر» «4» و جماعة من المتأخّرين «5».

البحث الدلاليّ لرواية إسماعيل بن جابر

و الكلام فيها بحسب الدلالة واضح؛ لأنّها حسب المتفاهم العرفيّ ظاهرة في الضرب، و احتمال تعرّضها للبعدين، و عدم ذكر العمق؛ لعدم لزوم كونه مثلهما، بل هو علىٰ حسب المتعارف في مثله، غير مضرّ؛ لعدم مساعدة العرف معه. و هكذا لو كان العمق مورد التعرّض دون أحد الضلعين الآخرين.

و أمّا تتميم الضلع الآخر بالإجماع «6»، فهو لا يخلو من غرابة. هذا كلّه حول دلالتها.

______________________________

(1) الأمالي، الصدوق: 514.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 157، مهذّب الأحكام 1: 185.

(3) حبل المتين: 108/ السطر 10.

(4) السرائر 1: 60.

(5) حبل المتين: 108/ السطر 10، مدارك الأحكام 1: 49.

(6) الحدائق الناضرة 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 331

البحث السندي للرواية السابقة

و الذي هو المهمّ تصحيح سندها، ففي «التهذيب»: «أخبرني الشيخ أيّده اللّٰه تعالىٰ، عن أحمد بن محمّد بن الحسن» و هو ابن الوليد الثقة «عن أبيه» و هو الجليل الثقة المتوفّىٰ سنة 343 «عن محمّد بن يحيىٰ» و هو العطّار الثقة «عن محمّد بن أحمد بن يحيىٰ» و هو الثقة المعتمد «1».

و في «الاستبصار»: «أخبرني الحسين بن عبد اللّٰه، عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار» و هو الثقة و إن لم يصرّح الأقدمون به «عن أبيه، عن محمّد بن أحمد بن يحيىٰ» و هو الماضي آنفاً «عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ» و هما الثقتان «عن عبد اللّٰه بن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «2».

و في «التهذيب»: «أخبرني الشيخ أيّده اللّٰه تعالىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد، عن عبد اللّٰه، عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ، عن محمّد بن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «3».

و في «الكافي»: «محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن البرقيّ،

عن ابن سِنان، عن إسماعيل بن جابر» «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 41/ 115.

(2) الاستبصار 1: 10/ 13.

(3) تهذيب الأحكام 1: 37/ 101.

(4) الكافي 3: 3/ 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 332

الإشكال في صحّة السند لأجل محمّد بن سنان

و قضيّة ما أُشير إليه في أثناء السند، اعتبار جميع الإسناد إلى ابن سِنان، و حيث أنّه سواء كان عبد اللّٰه، أو محمّداً ثقة علىٰ ما تقرّر، فلا تبقىٰ شبهة فيه، فتصير هذه الطائفة أيضاً قابلة ذاتاً للمعارضة مع ما سبق.

و لو سلّمنا أنّ محمّداً ليس ثقة؛ لتصريح كثير من أرباب الرجال و العلم بضعفه، و لكنّه في هذه الرواية موثوق به، مقبولة روايته لدى القمّيين، الذين هم معلومو الحال في الدقّة الخاصّة بهم في السند و الرواية، بل ذلك إمّا دليل وثاقته، أو دليل أنّه عبد اللّٰه الذي صرّح الأصحاب بوثاقته.

و قد يشكل ذلك كلّه: بأنّ محمّداً ضعيف، و من في السند هو محمّد، أو يحتمل قويّاً كونه هو، فيسقط الخبر عن الاستدلال به، و لا شهرة علىٰ طبقها حتّى تكون جابرة «1»، و ما ترى من تصحيح السند من زمن العلّامة إلى العصور المتأخّرة، للغفلة عن حقيقة الحال؛ و ذلك أنّ محمّداً المتوفّىٰ سنة العشرين و المائتين بحسب الطبقة معاصر للبرقيّ، و لم يعهد في الإسناد رواية البرقيّ إلّا عن محمّد، فإمكان روايته عنه غير كافٍ، بل لا بدّ من القرينة علىٰ وقوعها، و إذا كان الواقع منحصراً بهذه الرواية المختلفة أيضاً في الإسناد كما عرفت، فلا يمكن دعوى أنّه عبد اللّٰه جدّاً.

______________________________

(1) لاحظ منتقى الجمان 1: 51.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 333

فبالجملة: إشكال صاحب «المعالم» على الرواية سنداً «1» و إن كان مدفوعاً بجوانبه بما

عن البهائيّ «2»، إلّا أنّ ما هو الحجر الأساس أمران:

عدم رواية البرقيّ عن عبد اللّٰه بحسب ما في الأسانيد «3»، و إن أمكن ذلك بحسب الطبقات.

و عدم رواية عبد اللّٰه عن جابر بن إسماعيل أيضاً بحسب ما حكي في الأسانيد الموجودة «4».

و أمّا دعوى روايتهما معاً، فهي بذاتها ممكنة، و لكنّها بعيدة جدّاً، فعليه لا يمكن حلّ المشكلة إلّا بما أُشير إليه؛ و هو وثاقة ابن سِنان، و لقد تصدّى لها الشيخ المعظّم النوريّ (قدّس سرّه) في «الخاتمة» «5»، و السيّد بحر العلوم في «رجاله» «6».

و الذي هو المشكل، قصور أدلّة حجّية خبر الواحد عن شمول هذه المآثير، التي بالاجتهادات العلميّة و القواعد الفكريّة يمكن توثيق رواتها، فلاحظ و تدبّر.

نعم، في خصوص هذه الرواية، يمكن دعوى الوثوق بالصدور بما مرّ من الشواهد.

______________________________

(1) منتقى الجمان 1: 36.

(2) مشرق الشمسين: 387.

(3) انظر جامع الرواة 1: 487.

(4) انظر جامع الرواة 1: 93.

(5) مستدرك الوسائل (الخاتمة) 3: 558.

(6) رجال السيّد بحر العلوم 3: 278.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 334

توهّم الفقيه الهمداني و الجواب عنه

و أمّا توهّم حذف كلمة «نصف» من هذه الرواية، كتوهّم زيادة «نصف» علىٰ رواية أبي بصير، فكلاهما ممّا لا يصغى إليه، و لا ينبغي للفقيه- و هو الهمدانيّ (رحمه اللّٰه) «1» و غيره «2» التدخّل في هذه المجالات؛ لاستلزامه الملاعبة في الطرق الاجتهاديّة، و لا معنىٰ للجمع بين المآثير بمثل ذلك و أمثاله.

الطائفة الرابعة: ما يكون ظاهرها أنّه ذراعان و شبر، في ذراعين

و هو مفاد ما روي عن «المقنع» «3» و النسخ مختلفة:

ففي «الوسائل»

في ذراعين و شبر «4».

و في بعض النسخ

ذراع و شبر، في ذراع و شبر «5».

فما أفاده «الوسائل» من الحمل «6» لا يصحّ على النسخ الأُخر، فعليه يلزم الإشكال، و الأمر سهل؛ لعدم تماميّة السند أيضاً.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 29/ السطر 27.

(2) شرح تبصرة المتعلّمين، المحقّق العراقي 1: 102.

(3) المقنع: 31.

(4) وسائل الشيعة 1: 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 3.

(5) وسائل الشيعة (الطبعة الحجريّة) 1: 81/ السطر 19.

(6) لاحظ وسائل الشيعة 1: 164 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 335

تعارض الطوائف السابقة و علاجه

فبالجملة: هذه الطوائف الأربع متكاذبة.

و من العجب، كلّ من ذهب إلىٰ جانب، خدش سند الطوائف الأُخر!! و حيث هم أرباب الفضل و الرجال، يلزم الوهن في جميع الأسانيد.

أو يقال: لعدم تدبّرهم في المسألة حقّه، وقعوا في حيص و بيص، و كلّ يجرّ النار إلى قرصه، و الاستظهار بالقرائن الكلّية و الجزئيّة، يختلف حسب اختلاف الأفهام و الأذواق و النفوس، فلا خير في ذلك كما هو واضح.

و من بنائهم على الخدشات السنديّة، يعلم أنّ الجمع الدلاليّ العقلائيّ في محيط التقنين و التشريع، غير ممكن بين هذه الشتات.

و حمل الأقلّ على الإلزام، و الأكثرِ علىٰ مراتب الندب و الاستحباب كما يلوح من بعض الأعلام «1» ليس من الحمل العرفيّ في هذه المواقف، خصوصاً في هذه الطوائف التي هي في مقام التحديد و الحصر، كما هو الواضح.

فعلى ما تقرّر، كما لا يمكن الجمع العقلائيّ بينها، لا يمكن ترجيح طائفة على أُخرى؛ لأنّ ما ورد في الترجيح بالشهرة، ناظر إلى الشهرة الفتوائيّة،

دون الروائيّة، و لا بدّ من كونها شهرة بحيث كان الغيّ في الطرف

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 52.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 336

الآخر بيّناً، و ليس الأمر في هذه المسألة كذلك.

و أمّا الترجيح بالكتاب و بمخالفة العامّة أيضاً فغير ممكن هنا؛ لما عرفت أنّ العامّة بين قائل بعدم الانفعال، و بين قائل بالانفعال في القليل العرفيّ، و بين قائل بالوزن «1»، و لا خبر من المساحة بينهم حتّى يكون بعض الطوائف ناظراً إليه.

هذا، و في شمول أخبار التعارض لهذه المسألة إشكال؛ ضرورة أنّ مفادها الأقلّ و الأكثر، و الأخذ بالأكثر أخذ بالأقلّ، و ظاهر المآثير في باب التعارض هو ما يكون الخبران مختلفين؛ بحيث لا يلزم من الأخذ بأحدهما الأخذ بالآخر، فليتدبّر.

فعلى هذا، تصبح المسألة مشكلة، فلا بدّ من الطرح و ردّ علمها إلى أهلها. و العملُ علىٰ طبق القواعد و الأُصول العمليّة و الالتزام بذلك، أيضاً في غاية الإشكال.

و توهّم الجمع الدلاليّ؛ بدعوىٰ أنّ الكرّ كيل، و البلاد مختلفة بحسب الكيل، كما قد مضى شطر من الكلام حول ذلك «2»، فلا بدّ من حمل الأخبار علىٰ مختلف البلاد، فما كان من البلاد كيله و كرّه المتعارف فيه ثلاثة أشبار، في ثلاثة أشبار، فذلك المقدار من الماء عاصم، و هكذا سائر البلاد، فتصبح الطوائف المتكاذبة متوافقة، فهو و إن كان غير بعيد في ذاته، إلّا أنّه يحتاج إلى الشاهد القطعيّ و العرفيّ، و هو غير ناهض، بل

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 229 231 و 291.

(2) تقدّم في الصفحة 305 306.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 337

الظاهر من السؤال عن الكرّ، عدم معلوميّة ذلك في عصر صدور الأخبار.

دفع التعارض بإرادة القليل و الكثير العرفيّين

فعند ذلك ترى:

أنّ ما سلكناه في هذا المضمار متعيّن، و أنّ جميع هذه الطوائف متوافقة في الإفادة، و أنّ المدار على القليل و الكثير العرفيّين، و ما ورد في الأخبار مصاديق الكثير العرفيّ، و هذا أمر يساعده الذوق السليم، و يناسبه الارتكاز و الوجدان، و تؤيّده الشواهد النقليّة المزبورة سابقاً؛ من الأخبار و الآثار، من غير لزوم التسامح؛ لأنّ الكلّ مصداق الكثير واقعاً، و بذلك يجمع بين هذه المآثير طرّاً، و ما ورد في الكرّ وزناً أيضاً، فلا تغفل، و لا تخلط جدّاً.

الجمع باختلاف المياه حسب الخلط و الصفاء و جوابه

و أمّا الجمع الدلاليّ بين المآثير؛ بدعوى اختلاف المياه حسب الخلط و الصفاء «1»، فغير جائز؛ للخروج عمّا هو الطريق الصحيح في الجمع، مع أنّه لو كان ذلك هو مراد المتكلّم، لكان عليه أن يجعل الطريق المتوسّط بين السبعة و العشرين و الثلاثة و الأربعين، ما هو المتوسّط بين المقدارين، و ليس الأمر كما توهّم.

و بعبارة اخرىٰ: و إن يمكن أن يجعل هذه المساحات الثلاث أمارة الكرّية، فإذا كان الماء صافياً خالصاً عن جميع الشوائب و الزيادات،

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 183 184.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 338

فالكرّ كذا، و إن كان خليطاً بمقدار متوسّط عرفي كالمياه المتعارفة في المدينة و العراق فالكرّ كذا، و إن كان خليطاً كثيراً جدّاً فالكرّ كذا، و لكنّه بلا شاهد، بل الشواهد كلّها علىٰ خلافه كما لا يخفى.

و أمّا ترجيح الطائفة الأُولىٰ على غيرها بالأصحّية، فقد أُشير إلىٰ ما فيه: من قصور شمول أخبار العلاج لما نحن فيه.

الجمع بالأماريّة و ما فيه

و ممّا ذكرنا مراراً يظهر: أنّ دعوى الجمع الدلاليّ بين شتات المآثير؛ بجعل الأقلّ كرّاً واقعاً، و جعل الأكثر أمارة و علامة لتحقّق ذلك قبله «1»، غير قابلة للتصديق؛ لإباء المآثير عن ذلك، و عدم المناسبة لاختلاف الأمارة عن ذي الإمارة بهذه المثابة.

و جعل الوزن أصلًا، و المساحة أمارة، أو بالعكس، أو جعل بعض الأوزان أمارة لبعض المساحات، و بعض المساحة علامة لبعض الأوزان، أو غير ذلك، فكلّه من التوهّم البارد الذي لا يجوز الإصغاء إليه، فما يظهر من بعض أفاضل العصر «2» و غيره «3» في المقام، غير مستقيم جدّاً.

و قد مضى: أنّ من القمّيين من يقول في الأوزان بالأزيد، و في

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 213.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 339

المساحة بالأنقص «1»، و المشهور علىٰ عكسه، فكيف التوفيق بين الفتاوي التي هي المأخوذة من المآثير و الأخبار بالأفهام العرفيّة؟! فعليه يتقرّر لك أنّ الأمر كما حقّقناه.

الجهة الثالثة: فيما يتوجّه إلى القوم و الأصحاب صدراً و ذيلًا فيما اختاروا في حدّ الكرّ وزناً و مساحة

فالمشهور القائلون: «بأنّه بحسب الوزن مائتان و ألف رطل عراقيّ» كيف ارتضوا أن يقولوا: «هو بحسب المساحة ثلاثة و أربعون إلّا ثمن شبر» مع أنّ الحدّ الأوّل دائم السبق على الثاني، و يكون الاختلاف بينه و بين المساحة كثيراً؟! فعن الأسترآباديّ: «أنّ ماء المدينة يساوي ستّة و ثلاثين شبراً» «2».

و عن المجلسيّ: «أنّه يساوي ثلاثة و ثلاثين» «3».

و قيل: «يساوي سبعة و عشرين» «4».

و قيل: «ثمانية و عشرون تقريباً» «5».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 290 291 و 307.

(2) لاحظ الحدائق الناضرة 1: 276، جواهر الكلام 1: 178.

(3) مرآة العقول 13: 15، و انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 158.

(5) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 340

و القمّيون القائلون: «بأنّه مائتان و ألف بالرطل المدنيّ» «1» كيف ارتضوا في المساحة بأنّه سبعة و عشرون؟! و القائلون: «بأنّه في الوزن مثل الأوّل» كيف ارتضوا في المساحة بستّة و ثلاثين؟! مع أنّهم متوجّهون إلى اختلاف المياه خفّة و ثقلًا حسب الخلط و الصفاء، و ربّما يختلف ذلك حسب الجواذب ضعفاً و قوّة؛ فإنّ من الممكن اختلاف البلدان في ذلك، فيكون الشي ء الواحد في منطقة، أخفّ منه في المنطقة الأُخرىٰ.

و الذي يقول بالوزن مثل المشهور، كيف ارتضىٰ بأنّه بحسب المساحة، سبعة و عشرون، مع الاختلاف الشديد المرئي في المياه خفّة و

ثقلًا؟! فقد يتصدّى جمع لحلّ المعضلة المتوجّهة إلىٰ مقالة المشهور بما عرفت و مرّ؛ بحمل المساحة علىٰ أنّها علامة الكرّ، و أنّ ما هو الكرّ المضبوط هو الموزون «2»، و أمّا الأشبار فهي مختلفة جدّاً، فلا بدّ من صرف النظر عن الظهور في هذه الطائفة، و هذا ما يساعده العرف أيضاً.

و أنت خبير: بأنّه غير مقبول؛ لعدم الوجه الصحيح لذلك، مع أنّ جعل الأشبار الكثيرة علامة المقدار القليل، غير موافق للذوق السليم، خصوصاً إذا كان المتعارف في المياه بين الثلاثين و الأربعين، و لا يتّفق أن يصل الموزون إلىٰ أربعين، كما عليه الكلّ ظاهراً.

و تصدّى الآخرون لحلّ الإشكال على الآخرين: بأنّ النسبة بين

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 47.

(2) تقدّم في الصفحة 337 338.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 341

الحدّين عموم من وجه، فمن يأخذ بالرطل العراقيّ، فلا بدّ و أن يأخذ بسبعة و عشرين، و من يأخذ بالرطل المدنيّ، لا بدّ و أن يأخذ بستّة و ثلاثين.

و هذا من الغريب؛ للزوم طرح الظاهر جمعاً بين الآثار بطريق غير عقلائيّ.

و أمّا دعوى: أنّ الصناعة في المساحة قاضية بسبعة و عشرين، و هذا يوافق المشهور في الأرطال، الذي هو أيضاً يوافق الصناعة «1»، فهي غير مرضيّة من الجوانب الثلاثة.

و هي عدم موافقة الصناعة للطرفين؛ لما مضى في ذيل الطوائف الماضية، و لما مضى في مسألة الرطل.

و عدم تماميّتها في نفسها؛ ضرورة أنّ النسبة بين الحدّين و لو كانت من وجه، و لكنّه يستلزم صرف النظر عن ظاهر كلّ واحد من الحدّين في نفي الأمر الآخر في الحدّية، و هذا بلا وجه، غير جائز.

مع أنّ أقلّية الموزون عن المساحة، ممنوع حسب ما قيل في التوزين؛ فإنّه

كما يتوجّه إلى المشهور تقدّم الوزن على المساحة دائماً، يتوجّه إلى القائل بسبعة و عشرين، تقدّم المساحة على الوزن دائماً إلّا ما شذّ، فيكون المدار على المساحة، فيلزم لغويّة الوزن أيضاً.

مع أنّ التطابق مجرّد ادعاء لا يثبت؛ لبعده عن الأفهام جدّاً، فلا تخلط.

فتحصّل: أنّ هذه الشبهات واردة علىٰ جميع الأعلام في ذكر الحدّين للكرّ، من غير فرق بين المشهور و غيره.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 182 183.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 342

نعم، بناءً علىٰ ما أسّسناه و اخترناه، لا يلزم شبهة حتّى يحتاج إلى الدفاع، كما هو الظاهر البارز.

الجهة الرابعة: في قضيّة الأدلّة و الأُصول العمليّة
اشارة

إذا سقطت الأدلّة اللّفظيّة عن الاستدلال سنداً أو دلالة، فهل عند ذلك لا بدّ من القول: بأنّ القدر المتيقّن من المنفعل، ما كان أقلّ من سبعة و عشرين؛ لأنّ الأصل الأوّلي عدم انفعال الماء مطلقاً؟

أو القول: بأنّ القدر المتيقّن من اللّاانفعال هو الثلاثة و الأربعون، فلو نقص منه شي ء ينفعل؛ لأنّ الأصل انفعال الماء إلّا إذا كان كرّاً؟

و قد مضى شطر من البحث حول ما هو الحقّ في المسألة؛ حسب الأدلّة اللفظيّة «1».

و الذي هو الأقرب: أنّ الماء إذا ثبت قابليّته للنجاسة في الجملة، فلا بدّ فيه من العاصم، و هو البالغ إلى الحدّ الأكثر لدى الشكّ؛ لرجوعه إلى الشكّ فيما يعصمه.

و توهّم: أنّ القلّة مقتضية للانفعال، في غير محلّه؛ لأنّها ليست أمراً خارجيّاً حتّى يكون مقتضياً لشي ء.

اللّهمّ إلّا أن يقال: ظاهر النبويّ «2»، هو أنّ الماء لا ينجّسه شي ء إلّا إذا

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 274 277.

(2) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 343

كان متغيّراً بالاستثناء، أو قليلًا بالتخصيص المنفصل، و إذا كان مفهوم «القليل» و «الكرّ» و «الكثير» مجملًا، فلا بدّ من المراجعة إلى العامّ؛ و هو عدم تنجّس الماء، و القدر المتيقّن منه الذي ينجس، هو غير البالغ إلى الحدّ الأقلّ.

فبالجملة: قضيّة ما حرّر في الأُصول، هو الرجوع إلى العمومات في الشبهة المصداقيّة المفهوميّة للمخصّص «1»، و أمّا النظر إلى المقتضيات؛ و أنّ الكثير فيه الاقتضاء دون القليل، فغير جائز؛ للزوم الاجتهاد في مقابل النصّ كما لا يخفى.

نعم، في ثبوت النبويّ سنداً، و في وضوحه دلالة، مباحث هامّة مضت «2».

و لو فرغنا عن جميع تلك المباحث، و فرضنا الإطلاق له من هذه الجهة أيضاً، فالذي هو المحرّر عندي: عدم جواز الرجوع إلى العمومات في المفروض من الكلام أيضاً، لما تقرّر من رجوع الشبهة المصداقيّة إلى الموضوعيّة في محيط التقنين و التشريع مطلقاً «3».

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 5: 237 238.

(2) تقدّم في الصفحة 118 121.

(3) لاحظ تحريرات في الأُصول 5: 236 و 251 و 254 255.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 344

فروع
الأوّل: في عدم تحقّق العصمة بالاتصال بالثلوج

إذا جمد بعض ماء الحوض، و كان الباقي قليلًا غير كرّ، أو ذابت الثلوج و (البروف) الموجودة في الشوارع و الجوادّ، و لم يكن الذائب قدر كرّ، أو كان قليلًا عرفاً، فهو عند الكلّ ماء قليل، و الوجه واضح.

و توهّم اعتصامه بالثلوج؛ لأنّها المياه، بل هي أولىٰ بكونها ماء من السائل الجاري كما عن «منتهى» العلّامة «1»، في غير محلّه، و هكذا توقّف «التحرير» «2» و «القواعد» «3».

نعم، يمكن دعوى اندراجه في عموم تعليل صحيحة ابن بَزيع «4»؛ لعدم الفرق بين المياه المعنونة في الكتب الفقهيّة، و هذا الماء السائل

في الزقاق و الشارع المستند إلىٰ ملايين الأطنان من (البروف) النازلة الموجودة أطراف الشارع، فالمناط صدق التعليل المذكور، و لعلّه قريب في بعض الفروض و الصور.

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 29/ السطر 34.

(2) تحرير الأحكام: 6/ السطر 18.

(3) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 163.

(4) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 345

ثمّ إنّه قد يشكل: بأنّ الماء بعد الجمود يخرج عن عنوان المائيّة، و يكون الجامد منه غير ذاك عرفاً «1»، فعليه إذا جمد القليل المتنجّس فهو كالكلب الصائر ملحاً، فيلزم طهارته حال جموده، بل بعد الذوبان؛ لامتناع إعادة المعدوم العرفيّ، إلّا إذا كان الإعادة عرفيّة أيضاً، فليتدبّر جيّداً.

الثاني: في حكم الشكّ في الكريّة
اشارة

الماء المشكوك كرّيته، إن كان معلوم الحال في السابق من القلّة و الكثرة، فبمقتضى الاستصحاب الموضوعيّ و الحكميّ، يترتّب عليه جميع الأحكام السابقة، إلّا إذا تعدّد الموضوع، كما لو كان في الحوض أكراراً، ثمّ وضع عنه جميع الماء دفعة، فبقي المشكوك، فإنّه لا يمكن الإشارة إليه فيقال: «هذا كان كرّاً» كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على كون «الكرّ» موضوعاً للأحكام.

و أمّا بناءً علىٰ ما قوّيناه؛ من أنّ موضوعه «الكثير العرفيّ» «2» فالشكّ عندئذٍ يرجع إلى الشبهة المفهوميّة، و في جريان الأصل فيها بحث مضى تفصيله في الماء الجاري «3».

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 187.

(2) تقدّم في الصفحة 274 و ما بعدها.

(3) تقدّم في الصفحة 222.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 346

حكم الماء مجهول الحال

و إن كان مجهول الحال، فقد يقال: بأنّه مجرّد فرض؛ لأنّ المياه كلّها- حسب الخلقة الأوّلية تكون مسبوقة بالقلّة «1».

و فيه منع واضح؛ لأنّ مياه البحار ليست كذلك، لأنّ السحاب منها، و لو كانت هي منها يلزم الدور أو التسلسل، و الالتزام بصحّة التسلسل هنا كما هو المحقّق في محلّه «2» لا يورث رفع الشبهة هنا كما هو الظاهر؛ لتقدّم الأصل و هو الماء على البخار و هو الفرع عند خلق الأرض.

هذا، و لا تحتاج المسألة إلى هذا البحث المضحك بعد صيرورة القليل كثيراً؛ فإنّه يزول عنه وصف «القلّة» فإذا أُخذ من البحر مقدار مشكوك الكرّية، فلا يمكن إجراء العدم النعتيّ؛ لعدم إمكان الإشارة إليه ب «أنّ هذا كان قليلًا و غير كرّ» كما هو الواضح.

و لا ينبغي التعرّض لمثل هذه المسائل، إلّا أنّ في عصرنا الطلّاب في النجف الأشرف، بلغوا و لم يدركوا، و إنّي بعد

ما جئت من تركيا إلى هذه البلدة، و بقيت فيها مدّة، وجدت أنّ أهل العلم هنا في سطح دانٍ جدّاً، و محتاجون إلىٰ عالم قويّ الدرك، راقية أفكاره، و لعلّ اللّٰه بعد ذلك يحدث أمراً.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 223.

(2) الشفاء، الإلهيات، المقالة الثالثة، الفصل الأوّل: 330، و شرح المنظومة، قسم الحكمة: 132 135.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 347

فبالجملة: في هذه الصورة قضيّة التحقيق، عدم نجاسة الماء الملاقى كما مرّ تفصيله في مباحث الماء الجاري «1»، فلا نعيده.

حكم مطهّرية مشكوك الكرّية بالملاقاة

و أمّا مطهّريته بالملاقاة، فهي عند الأكثر مفروغة العدم، و لكنّه يمكن توهّم الإشكال؛ لأنّ كلّ ماء طاهر و مطهّر، خرج منه القليل حسب الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة؛ فإنّه طاهر و ليس مطهّراً بالملاقاة، و أمّا هذا الماء فهو طهور و مطهّر حسب العمومات، و إخراج القليل إذا كان حسب فهم العرف، ظاهراً في كون الحكم منوطاً بالإحراز كما قيل في أمثاله لا يضرّ بالعموم المزبور، و لكنّه مجرّد و هم مضى فساده «2».

و يمكن دعوى الملازمة بين ماء لا ينفعل، و ماء يطهّر بالملاقاة عرفاً و شرعاً، و لكنّها تحتاج إلى الاستدلال. هذا كلّه في مطهّريته بالملاقاة.

و أمّا مطهّريته بإلقائه على المتنجّس، فإن كان قبل ملاقاته مع النجس، فهو الواضح.

و أمّا بعد ملاقاته، ففي استكشاف الموضوع الشرعيّ المقيّد و هو «الماء الطاهر» بقاعدة الطهارة، إشكال مضى البحث حول ذلك في الماء القليل و الجاري، فراجع «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 214.

(2) تقدّم في الصفحة 217.

(3) تقدّم في الصفحة 219.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 348

الثالث: في حكم الكرّ المسبوق بالقلّة
اشاره

الكرّ المسبوق بالقلّة، إذا علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم السابق من الملاقاة و الكرّية، فإن جهل تأريخهما، أو علم تأريخ الكرّية، فالمعروف الحكم بطهارته «1»، و عن بعض الأفاضل الحكم بالنجاسة «2»، و احتاط بعض آخر «3».

و إن علم تأريخ الملاقاة، حكم بنجاسته، و قيل: بطهارته.

و النظر في هذه المسألة يقع في جهتين:

الجهة الاولىٰ: في مفاد الأدلّة الاجتهادية.

و الجهة الثانية: في مقتضى الأُصول العمليّة.

مفاد الأدلّة الاجتهادية

أمّا الأُولىٰ: ففيما هو المستفاد منها ثبوتاً احتمالات:

الأوّل: كون القلّة و الكثرة أمرين وجوديّين، و يكون الماء نوعين: نوع منه- و هو القليل ينجس، و النوع الآخر و هو الكرّ لا ينجّس.

أو لو سلّمنا أنّ «القلّة» هي عدم الكثرة، و لكنّ المعتبر في الدليل

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 166، مهذّب الأحكام 1: 191.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 195.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، التعليقة 4، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 194.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 349

يكون علىٰ وجه التنويع، لا التخصيص، فكلّ واحد من القلّة و الكثرة شرط الانفعال و اللّاانفعال.

و هذا ممّا يشكل استفادته من الأدلّة إثباتاً؛ لعدم ظهور فيها يساعد ذلك، فتأمّل.

الثاني: كون الماء بطبعه قابلًا للنجاسة، و معتبراً عدم عصمته، و أمّا عصمته فهي من خصوصيّات بعض أصنافه، كالكرّ و الجاري، و هذا هو الظاهر من الشيخ (قدّس سرّه) «1»، و عليه مبنى قاعدة المقتضي و المانع. و قد فرغنا عن ذلك في السابق «2»؛ و أنّ التقريب و الاستحسانات العقليّة، لا تقاوم ظواهر الأدلّة.

الثالث: عكس الثاني، فتكون قضيّة العمومات طهوريّة الماء كتاباً و سنّة، و قد خرج منه الماء

المتغيّر و القليل.

و توهّم: أنّ ظاهر أدلّة الكرّ هو التنويع؛ و أنّ الماء ماءان: ماء بالغ كرّاً فلا ينجّسه شي ء، و ماء غير بالغ إليه فينجّسه الشي ء، في غير محلّه؛ لأنّ الظاهر منها نظارتها إلى الأدلّة المتعرّضة لطهوريّة الماء؛ و أنّه ليس علىٰ إطلاقه، بل لا بدّ من شرط فيه، و هو الكرّية، فالأصل و العموم الأوّلي هو «أنّ اللّٰه تعالىٰ خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء» «3» و الإشكال في سنده واضح الدفع، و في دلالته من جهات أُخر لا يضرّ بالمقصود هنا،

______________________________

(1) الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 162.

(2) تقدّم في الصفحة 83 84.

(3) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 350

و يستظهر لك بعض المحتملات الأُخر.

مقتضى الأُصول العمليّة في مجهولي التأريخ

و أمّا الثانية: فقضيّة الأُصول العمليّة في مجهولي التأريخ هي الطهارة؛ لتساقط الاستصحابين، أو لعدم جريانهما؛ لأجل فقد شرط اتصال زمان الشكّ باليقين، كما في «الكفاية» «1» أو لأجل انصراف أدلّة الاستصحاب عنهما، أو لكون كلّ واحد منهما مثبتاً.

و ربّما يخطر بالبال دعوى نجاسته؛ لما عرفت أنّ من المحتملات، عدمَ كون الاعتصام مجعولًا للماء، بل المجعول عدم الاعتصام للماء القليل، فإذا أُحرز بالاستصحاب القلّة أو عدم الكرّية إلىٰ زمان الملاقاة، فالتنجّس من الآثار الشرعيّة، بخلاف استصحاب تأخّر الملاقاة عن الكرّية، فإنّه لا أثر له؛ لعدم جعل من الشرع على الكرّ الملاقي للنجس.

و أمّا مع فرض جعل العصمة للكرّ الملاقي للنجس، فاستصحاب عدم الملاقاة إلىٰ زمان حصول الكرّية، مثل الاستصحاب الأوّل، فإن كان هذا مثبتاً فهو مثله، فما توهّمه بعض الأفاضل في المقام من مثبتيّة هذا دون ذاك «2» غفلة و ذهول.

كما أنّ

توهّم: أنّ عدم مثبتيّة الأصل الأوّل؛ لأجل أنّ الموضوع مركّب

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 480.

(2) لاحظ دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 196.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 351

من جزءين؛ أحدهما: يثبت بالاستصحاب، و الآخر: بالوجدان «1»، في غير محلّه؛ لامتناع كون موضوع الحكم الواحد متعدّداً، فإنّ المركّب من جزءين، إن كان بين جزءيه ربط و توصيف، فلا يمكن إثبات الكلّ بإجراء الأصل في جزء، و ضمِّ الوجدان إليه في الجزء الآخر.

و إن لم يكن ربط بينهما، فلا يعقل تعلّق الحكم الواحد بالمتباينين بالضرورة و الوجدان.

فتحصّل: أنّ قضيّة الأُصول العمليّة، تابعة لما يستفاد من الأدلّة الاجتهاديّة، و حيث إنّ الظاهر من الأدلّة، أنّ طهوريّة الماء علىٰ أصل خلقته، و ليست من المجعولات الشرعيّة، و يوافقه العرف في ذلك، فتكون المآثير في الباب، إخباراً عن الأمر العرفيّ المعلوم عند العقلاء، فلا يجري إلّا الأصل الواحد؛ و هو ما يقتضي نجاسته.

إن قلت: إذا لم يكن الموضوع في المقام مركّباً و مقيّداً، فلا بدّ من تصويره علىٰ وجه معقول.

قلت: ما هو المستفاد هو القضيّة الشرطيّة، و هي «أنّ الماء إذا كان قليلًا ينجس بالملاقاة» و هذا الماء قليل بالاستصحاب، فينجس بالملاقاة الوجدانيّة، فما توهّم من أنّ الموضوع مركّب و مقيّد، و يكون الأصل مثبتاً، في غير مقامه.

فتحصّل: أنّ الموافق للذوق و ظواهر الأدلّة، عدم جعل الطهارة أو عدم النجاسة للماء الكرّ، بل المجعول شرعاً هي النجاسة للقليل، و إذا

______________________________

(1) نفس المصدر: 195.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 352

كانت القضيّة المتكفّلة لهذا الجعل، علىٰ نعت القضيّة الشرطيّة، فلا يلزم كون الأصل الجاري في المسألة من الأصل المثبت.

و ما قيل: «من رجوع القضايا

الشرطيّة إلى القضيّة البتّية؛ برجوع الشرط إلىٰ وصف الموضوع» في غاية الوهن و السقوط.

ثمّ إنّ العلّامة النائينيّ أخذاً عن نكاح «الجواهر» بنىٰ علىٰ أمر واضح المنع «1»، علىٰ ما مرّ تفصيله «2»، و هو نجاسة الماء هنا؛ لأجل ما قال به في المشكوك كرّيته مع الجهل بحالته السابقة، و لا نعيده؛ حذراً عن اللغو المنهيّ، فتدبّر.

مختار صاحب الكفاية و نقده

و أمّا إطالة البحث حول المسائل الأُصوليّة المتعلّقة بالمسألة من جهات عديدة، فهي مزعجة جدّاً.

و إجمالها: أنّ حديث اعتبار اتصال زمان الشكّ باليقين، أجنبيّ عن هذه المواضيع، و إن توهّمه صاحب «الكفاية» «3» و ثلاثة من أتباعه «4»، و مثبتيّة الأصلين معاً ممنوعة، فجريانه ذاتاً غير ممنوع.

إلّا أن يقال: بأنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب، كون الشكّ في الأمر السابق فعليّاً في الزمان الحال، دون الماضي و الاستقبال، فإذا شكّ في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 107.

(2) تقدّم في الصفحة 217.

(3) كفاية الأُصول: 480.

(4) فوائد الأُصول 4: 515، نهاية الدراية: 211 212، نهاية الأفكار 4: 213 214.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 353

عدالة زيد في الحال، فهو مجرى الاستصحاب، بخلاف ما إذا شكّ في بقائها إلىٰ يوم الجمعة مع القطع بفسقه يوم السبت.

و هكذا إذا شكّ في بقائها إلى يوم كذا مع القطع بوجودها فعلًا، كما مثّلوا لذلك بالشكّ في بقاء رمضان إلىٰ يوم الاثنين مثلًا، و هو فعلًا في أثناء رمضان؛ فإنّ جريانه فيهما محلّ الكلام، و لكن النظر إلىٰ قضيّة عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، يعطي عدم الفرق بين الصور الثلاث، فتدبّر.

عدم الفرق بين احتمال مقارنة الحادثين و عدمه

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق فيما أسلفناه، بين كون المفروض عدم احتمال المقارنة بين الحادثين الكرّية و المُلاقاة و بين احتمالها؛ فإنّ استصحاب بقاء القلّة إلى الملاقاة، إذا كان أثره موقوفاً على إجرائه إلىٰ ما بعد الملاقاة، فهو يجري؛ لتماميّة أركانه كما لا يخفى.

نعم، إذا كان أمر الملاقاة، دائراً بين تقدّمها على الكرّية، أو مقارنتها معها، و لا يحتمل تأخّرها عنها، فعند ذلك يلزم كون أمر الكرّية أيضاً، دائراً بين المقارنة مع الملاقاة، و التأخّر

عنها كما هو الظاهر، فعلى هذا يشكل جريان الاستصحاب.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الحكم في صورة تقارن الكرّية و الملاقاة هو النجاسة، و سيأتي تحقيقه في بعض الفروع الآتية، فإنّه عند ذلك يحكم بنجاسة الماء المفروض في المسألة؛ و هو الكرّ المسبوق بالقلّة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 354

بيان للمعارضة بين الأصلين

و ربّما يخطر بالبال أن يقال: بمعارضة الأصل الجاري في ناحية إبقاء القلّة إلى الملاقاة، بالجاري في الطرف الآخر بوجه آخر؛ و هو أنّ المقصود من تأخّر الملاقاة إلى الكرّية، إن كان إثبات أنّ اللقاء كان على الكرّ، أو أنّ الكرّ لاقى النجس، فهو من المثبت بالمعنى الذي ذكرناه، لا بالمعنى الذي أفاده القوم رضي اللّٰه عنهم.

و إن كان المقصود نفس التعبّد بعدم الملاقاة إلى الكرّية، فهو ليس مثبتاً بالضرورة، فعليه يرجع إلىٰ قاعدة الطهارة أو استصحابها.

و لو صحّ ما قيل: «من أنّ الأصل الجاري في الطرف الأوّل كان مثبتاً» يلزم جريان هذا الأصل بلا معارض.

هذا كلّه فيما كان تأريخ الحادثين مجهولًا.

مقتضى الأُصول العمليّة في معلوم الكرّية تأريخاً

و أمّا لو كان تأريخ الكرّية معلوماً، فإن قلنا: بعدم جريان الأصل في معلوم التأريخ؛ لقصور الأدلّة عن شموله، فالقول بالطهارة متعيّن؛ لأنّ نفس التعبّد بعدم الملاقاة إلىٰ زمن الكرّية، كافٍ في ترتيب آثار الطهارة.

و لو أشكل الأمر في جريانه و هو أنّ نفي السبب، لا يستلزم نفي المسبّب إلّا عقلًا، فنفي الملاقاة لا يكفي لترتيب آثار الطهارة فلا محيص عن قاعدة الطهارة.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 355

و إن قلنا: بجريانه؛ و إنّ معلوميّة تأريخ الكرّية، لا تورث معلوميّة نسبتها إلىٰ زمان حدوث الملاقاة؛ فإنّ معلوميّة الشي ء بحسب أصل الوجود، لا تنافي مجهوليّته بحسب بعض الخصوصيّات، فإذا كانت الكرّية معلومة العدم، فهي بجميع خصوصيّاتها معلومة العدم، و إذا تحقّق وجودها يشكّ في وجود بعض خصوصيّاتها، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلىٰ تلك الخصوصيّة؛ و هي هنا المقارنة مع الملاقاة، و هكذا تقدّمها عليها، فيتعارض الأصلان: أصل عدم ملاقاة هذا الماء مع النجس إلى الكرّية، و أصل عدم تقدّم كرّية هذا الماء على

الملاقاة.

و أنت خبير بما فيه، لا من أجل كونه من الأصل الجاري في العدم الأزليّ، فإنّه عندنا في خصوص بعض الصور جارٍ، بل لأجل مثبتيّته الظاهرة، فلا تغفل.

ثمّ إنّ حكم الفرض الأخير و هو ما إذا كان تأريخ الملاقاة معلوماً يظهر ممّا سبق، و القائل بنجاسته تشبّث بتعارض الأصلين أوّلًا، و إجراء الأصل في الطرف المقتضي للنجاسة فقط ثانياً؛ بدعوىٰ مثبتيّة الأصل الآخر، فتدبّر.

الرابع: في حكم القليل المسبوق بالكرّية الملاقي للنجاسة
اشارة

القليل المسبوق بالكرّية الملاقي لها، إن جهل التأريخان، أو علم تأريخ الملاقاة، فالمعروف فيه هي الطهارة «1»، و قيل

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 167، مهذّب الأحكام 1: 193.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 356

بالنجاسة «1».

و إن علم تأريخ القلّة، فالأكثر علىٰ نجاسته، و عن جماعة طهارته «2».

أقول: قضيّة الأدلّة الاجتهاديّة ما عرفت، و مقتضى الأُصول العمليّة هنا في مجهولي التأريخ على المشهور بين الأصحاب تعارضها و التساقط، و علىٰ قولٍ عدم جريانهما ذاتاً، و قد مرّ ما يتعلّق بذلك «3».

الكلام حول أصالتي عدم القلّة و عدم الملاقاة

يبقى الكلام: في أنّ أصالة عدم القلّة إلىٰ حال الملاقاة، ليست ذات أثر شرعيّ على ما احتملناه؛ من أنّ عدم النجاسة ليس من الأحكام المجعولة على الكرّ الملاقي للنجس.

و أمّا أصالة عدم الملاقاة إلى القلّة، فإن أُريد بها إثبات وقوع الملاقاة على القليل، فهو من المثبت.

و إن أُريد بها نفس التعبّد بعدم الملاقاة، فلا يكون مثبتاً؛ لأنّه يحرز به موضوع القضيّة الشرعيّة، و هو «أنّ الماء القليل إذا لم يلاقه النجس لا ينجس» و هذه القضيّة مفهومة من منطوق القضيّة الواردة و هي «أنّ القليل إذا لاقاه النجس ينجس».

و أمّا دعوى: أنّ استصحاب بقاء الكرّية إلىٰ حال الملاقاة، يورث

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 199.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 200، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 167.

(3) تقدّم في الصفحة 350 351.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 357

سقوط أثر الملاقاة، و أمّا أصالة عدم الملاقاة إلى القلّة، فليست ذات أثر شرعيّ؛ لأنّ نفي سبب النجاسة إلىٰ حال حدوث القابليّة لها و هي القلّة

لا يورث تأثير السبب فيها إلّا بالأصل المثبت؛ لعدم دليل علىٰ جعل القضيّة المذكورة بنحو القضيّة الشرطيّة.

و بعبارة اخرىٰ: الواصل إلينا من الشرع، إن كان هكذا: «الكرّية علّة عدم الانفعال، و القلّة علّة الانفعال» فإنّ التعبّد بعدم العلّة لا يستلزم شرعاً التعبّد بعدم المعلول؛ لعدم تكفّله بجعل الحكم الشرعيّ.

و إن كان هكذا: «إذا كان الماء قليلًا ينجس بالملاقاة» فإذا أُحرز عدم قلّته بالأصل، فهو من قبيل إحراز الموضوع بالنسبة إلى الحكم، فيصحّ التمسّك به «1».

فغير مسموعة؛ لما يمكن أن يقال: بأنّ الأمر لو سلّمنا يكون كذلك، فظاهر الأدلّة هو الثاني؛ فإنّ مفهوم أخبار الكرّ هو «أنّه إذا لم يبلغ كرّاً ينجّسه الشي ء بالملاقاة» و إذا أُحرز عدم الملاقاة إلى القلّة فيترتّب عليه الطهارة؛ لأنّ المفهوم من القضيّة المذكورة هو «أنّ القليل إذا لم يلاقه النجس لا ينجس» فليتدبّر جدّاً.

و من هنا يعلم وجه القول بالنجاسة في جميع صور المسألة، و لا نحتاج إلى التفصيل؛ لخروج المسألة عن طور الكتاب.

كما ظهر وجه القول بالطهارة في جميعها؛ فإنّ أصالة بقاء الكرّية ليست مثبتة، بخلاف أصالة عدم الملاقاة إلىٰ حدوث القلّة، ففي المجهولين يجري الأصل الأوّل دون الثاني، و فيما كانت القلّة معلومة

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 200.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 358

لا يجري الأصل الأوّل ذاتاً، أو يجري و لا يعارضه الثاني، و فيما كانت الملاقاة معلومة إمّا لا تجري ذاتاً، أو تجري و لا تعارض الأوّل أيضاً.

الوجه في تفصيل الفقيه اليزدي

و أيضاً انقدح ممّا مرّ وجه القول بالتفصيل، كما هو مختار الفقيه اليزدي (رحمه اللّٰه) «1» و جماعة «2»، فإنّه (قدّس سرّه) بنىٰ علىٰ طهارة الماء في المجهولين و معلوم

الملاقاة، و على النجاسة في الصورة الثالثة، و احتاط في الأوّلين؛ و ذلك لتعارض الأصلين، و عدم جريان الأصل في معلوم التأريخ.

و وجه الاحتياط، قوّة جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أو قوّة موافقة العرف علىٰ أنّ المستثنىٰ في مثل المسألة، هو محرز الكرّية، ففي الماء المشكوك كرّيته غير الجاري فيه الأصل المحرز به قلّته، يرجع إلى العامّ المخصّص.

و من العجب، أنّ بعض شرّاح كلامه غفل عن وجه احتياطه «3»!! فلا تخلط.

الخامس: في حكم المسبوق بالكرّية و القلّة

المسبوق بالكرّية و القلّة، المجهول حالته السابقة و الفعليّة،

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 37، فصل في المياه، المسألة 8.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 37، المسألة 8.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 199.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 359

الملاقي للنجس، محكوم بالطهارة؛ لتعارض الأصلين، و لا أصل يحرز به كون الملاقاة حال القلّة، فيرجع إلىٰ قاعدتها أو استصحابها.

أو هو محكوم بالنجاسة؛ لما مضى أنّ استصحاب الكرّية لا أثر شرعيّ لها «1»؛ لأنّ عدم انفعال الكرّ ليس من المجعولات الشرعيّة، بل المجعول الشرعيّ هو انفعال ما دون الكرّ؛ و ذلك لعدم الحاجة إلى جعله، و لذلك كان الأقوىٰ في أخبار الكرّ كونها مسوقة لبيان المفهوم، و لذلك صار حجّة عند أرباب الفقه و الأُصول مع عدم قولهم بحجّيته، فليتدبّر.

و أمّا عدم مثبتيّة استصحاب القلّة، فقد مضى وجهه «2».

و على القول بمثبتيّة هذا و ذاك، فلا يجري الأصلان.

أو هو محكوم بالطهارة؛ لعدم مثبتيّة الأصل في جانب الكرّية، دون العكس، كما هو رأي الأكثر في أمثال المقام.

أو أنّ استصحاب القلّة، معارض باستصحاب تأخّر الملاقاة عن الكرّية؛ لمجهوليّة تأريخ الحوادث الثلاثة الواقعة على الماء الشخصيّ الموجود.

و دعوىٰ: أنّ تأخّر الملاقاة لا أثر له شرعاً،

مدفوعة بأنّ نفس التعبّد به، كافية في عدم إمكان الحكم بالنجاسة، فتدبّر.

فبالجملة: تتعارض الأُصول و تتساقط، فيرجع إلى الأصلين الآخرين،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 350.

(2) تقدّم في الصفحة 351 352.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 360

و المسألة بعدُ تحتاج إلى التأمّل.

و أمّا القول بنجاسته بعد السقوط؛ وهماً أنّ المستثنىٰ من أدلّة انفعال محرز الكرّية «1»، فقد فرغنا عن ضعفه مراراً.

السادس: في حكم تتميم القليل المتنجّس
اشارة

القليل النجس المتمّم كرّاً بطاهر، أو نجس، أو متنجّس بتلك النجاسة، أو غيرها، لا يطهر على المشهور بين الأصحاب «2».

و عن المرتضىٰ و سلّار و ابن البرّاج و ابن سعيد بل و ابن إدريس، طهارته «3»، و عن «السرائر» نسبته إلى المحقّقين «4».

و حكي عن ابن حمزة في «الوسيلة» «5» بل و عن «مبسوط» الشيخ «6»، التفصيلُ بين الإتمام بالطاهر و النجس، فيطهر بالأوّل، دون الثاني.

و حيث إنّ المسألة ليست إجماعيّة فلا خير في نقل الأقوال فيها، و المتّبع هو البرهان.

و هذه المسألة كانت معنونة في العامّة، و قال الشافعيّ كما في

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 192.

(2) الخلاف 1: 194، شرائع الإسلام 1: 4، جواهر الكلام 1: 150.

(3) جواهر الكلام 1: 150، رسائل الشريف المرتضى 2: 361، المراسم: 36، المهذّب، ابن البرّاج 1: 23، الجامع للشرائع: 18، السرائر 1: 63.

(4) جواهر الكلام 1: 150، السرائر 1: 63.

(5) مستند الشيعة 1: 50، الوسيلة: 73.

(6) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 170، المبسوط 1: 7.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 361

«الخلاف» بالطهارة «1»، و هو المحكيّ عن ابن حيّ «2». و لها صور كثيرة:

لأنّه تارة: يتمّ النجس بالنجس.

و أُخرى: يتمّ الطاهر بالنجس.

و ثالثة: يتمّ النجس بالطاهر.

و علىٰ كلّ تقدير: تارة:

يكون التتميم باستهلاك الطاهر في النجس، أو امتزاجه به؛ بحيث لا يبقى عرفاً.

و أُخرى: يكون التتميم بالاتصال.

و أيضاً تارة: يتمّ بالماء المتنجّس.

و أُخرى: يتمّ بالمضاف المتنجّس.

و ثالثة: يتمّ بالبول و الخمر.

و حيث أنّ البحث في بعض الصور، يغني عن الآخر، فلا نطيل الكلام. مع أنّ دعوى الضرورة على بطلان هذه الآراء في المسألة، غير خالية عن الإنصاف؛ ضرورة تأبّي النفوس الشرعيّة عن قبول ذلك، فلو كان في المسألة رواية صحيحة و ظاهرة في ذلك، فلا يصار إليها؛ لقصور بناء العقلاء على الاعتماد عليها في مثلها.

و علىٰ كلّ تقدير: يتمّ البحث في مقامين

______________________________

(1) الخلاف 1: 194، الام 1: 5.

(2) المعتبر 1: 53، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 171 172.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 362

المقام الأوّل: في قضيّة الأدلّة الاجتهادية
اشارة

و هي مختلفة، فإنّ منها ما يستدلّ بها على الطهارة في جميع الصور، و منها ما يستدلّ بها عليها في بعض منها.

فمن الأُولىٰ: المشهورة المعروفة الصحيحة

الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء «1».

فإنّ إطلاق الموضوع يشمل الماء المتنجّس، و إذا بلغ بأيّ شي ء كان إلىٰ كرٍّ- بحيث يصدق عليه «الكرّ من الماء» لا ينجّسه شي ء، و حيث لا معنىٰ لعدم تنجيسه الشي ء بعد تنجّسه، فلا بدّ من زوال النجاسة ببلوغ الكرّية، حتّى تصحّ الدعوىٰ على الإطلاق.

و دعوى الإهمال، و الأخذ بالقدر المتيقّن منه و هو الماء الطاهر كدعوى الانصراف في عدم تماميّة الوجه الصحيح له.

و هذا التقريب لعدم ظهوره بذهن أحد، بعيد عن المتفاهم العرفيّ، و لكن بعد المراجعة إلى فهم الأصحاب رضي اللّٰه عنهم في صحيحة ابن بزيع «2»؛ و أنّ التعليل الوارد في ذيلها راجع إلى جملة محذوفة، و إلّا لا يستقيم التعليل، يسهل عليهم

قرب ذلك هنا؛ لأنّ الإطلاق لا يستقيم إلّا بزوال

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 363

النجاسة عن الكرّ المتنجّس المتمّم بالبول، فضلًا عن غيره.

و منها: النبويّ الذي قال في حقّه ابن إدريس: «إنّه مجمع عليه بين المخالف و المؤالف» «1» و هو: أنّ

الماء إذا بلغ كرّاً لم يحمل خبثاً «2».

و قد مرّ شطر من الكلام حوله «3»، و أنّ النسخ مختلفة، و لكنّها متقاربة، و بمضمونه أفتى الشافعيّ و ابن حيّ من المخالفين كما مرّ، و لعلّه منشأ ذهاب بعض الأصحاب، فليس متروكاً بنحو كلّي، و قد أرسلها السيّد «4» و الشيخ (رحمهما اللّٰه) «5».

و من الإجماع المزبور، و عدم وجوده في الكتب المأثورة و الجوامع الأوّلية، يعلم أنّ نظر ابن إدريس كان إلى أنّ هذه المرسلة كالمآثير الواردة في الكرّ دلالة، و كان لا يرى اختلافاً في المفاد بينهما، و اللّٰه العالم.

و في موضع من «الخلاف» نسبته إليهم (عليهم السّلام) «6» و قد أذعن بانجباره «الجواهر» «7».

فبالجملة: هي إمّا مختصّة بالماء المتنجّس، أو بالطاهر، أو لها الإطلاق، فعلى الأوّل و الثالث يتمّ المطلوب، و لا سبيل إلىٰ تعيين الثاني؛

______________________________

(1) السرائر 1: 63.

(2) عوالي اللآلي 1: 76، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.

(3) تقدّم في الصفحة 154 157.

(4) الانتصار: 8.

(5) المبسوط 1: 7.

(6) الخلاف 1: 174.

(7) جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 364

لظهور قوله

لم

يحمل خبثاً

في أنّ الخبث كان محمولًا عليه، فإذا بلغ إلىٰ حدّ كذائيّ، لا يتمكّن من الحمل.

و لو أُخذ بإطلاق

الماء

كما سبق، فلا بدّ من تصوير الجامع بين كون الكرّية دافعاً و رافعاً، و قد فرضناه في المسائل السابقة، و هذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد تأمّل، كما لا يخفى.

و لو سلّمنا استبعاده عرفاً، فحمل إطلاق الصدر على الماء النجس، ليس أهون من حمل إطلاق صدر الرواية السابقة على الماء الطاهر، كما صنعه الأصحاب حسب ارتكازهم، فتكون هذه المرسلة مسوقة لبيان رافعيّة الكرّ فقط، فليتدبّر.

فبالجملة: آراء الأعلام في هذه المرسلة أربعة:

فذهب جمع إلىٰ قوّة سندها، و تماميّة دلالتها «1».

و جمع إلىٰ ضعفهما «2».

و بعض إلىٰ ضعف السند، و قوّة الدلالة «3».

و بعض عَكَس الأمرَ «4»، و اللّٰه العالم.

و قد مرّ في موضع من كتابنا عن أبي حنيفة ظاهراً-: أنّ هذه المرسلة تدلّ على انفعال الكرّ بالملاقاة، كما لا يخفى.

و منها: قصور الأدلّة من اعتبار النجاسة في الكرّ المزبور؛ لأنّ

______________________________

(1) السرائر 1: 63.

(2) المعتبر 1: 53، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 155.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 212 213.

(4) جواهر الكلام 1: 152.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 365

المياه النجسة هي الكثيرة المتغيّرة، و القليل الملاقي للنجس، و أمّا هذا الكرّ فشمول الأدلّة له- طهارة و نجاسة مخدوش، فيرجع إلى العمومات الأوّلية الفوقانيّة؛ و هو «أنّ كلّ ماء خلق طهوراً» «1» فإنّ التمسّك بها بعد إجمال المخصّص جائز عندهم.

فبالجملة: الاستدلال السابق إن تمّ فهو، و إلّا فلا يتمّ دلالتها على نجاسة الكثير الملاقي، فيرجع إلى العامّ السابق.

بل يمكن دعوى: أنّ مقتضىٰ عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، هو الطهارة في جميع

الصور «2»، فإن استشكل في المراجعة إلى العامّ، أو استشكل في سنده، أو في غير ذلك، فلا يلزم التفصيل بين الصور.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة علىٰ ما قرّبناه في سالف الزمان في كتاب الصلاة تفصيلًا «3» مخصوص بالحكميّة التكليفيّة، دون الوضعيّة، كما هو الظاهر.

ثمّ إنّه غير خفيّ: بأنّ المراجعة إلى العامّ الفوقانيّ أو قاعدة الطهارة، لا تنحصر بصورة دعوى قصور الأدلّة، بل الأمر كذلك حتّى لو تمّ الاستدلال من الطرفين؛ لأنّ النسبة بين الأدلّة عموم من وجه، و المرجع بعد التساقط إلى الدليل الفوقانيّ أو قاعدة الطهارة، فتثبت الطهارة

______________________________

(1) المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 254.

(3) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث الصلاة من تحريرات في الفقه.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 366

الواقعيّة على الأوّل، و الظاهريّة على الثاني.

و توهّم عدم جواز المراجعة إلى القاعدة لو كان مفاد العامّ؛ قابليّة كلّ ماء للنجاسة «1»، كما هو المعروف عنهم، في غير محلّه؛ لأنّه غير نافع، و ما هو النافع غير ثابت؛ و هو كون العامّ الأوّل هكذا: «كلّ ماء نجس» و أمّا ثبوت القابليّة بنحو العموم، فلا يورث رفع الشكّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.

أدلّة الطهارة في بعض الصور

و من الثانية: أنّ النجس المتمّم بالطاهر، خارج عن مصبّ أدلّة انفعال القليل؛ لظهورها فيما كان القليل الطاهر ملاقياً للنجس، و غيرَ بالغ بالملاقاة إلىٰ حدّ الكرّ، و إذا كان القليل المتمّم بالفتح طاهراً، و متّحداً مع النجس، و لا يكون للماء الواحد حكمان، فيحكم على الثاني بالطهارة.

و هذا التقريب واضح الفساد؛ لأنّ الماء

المتغيّر المتّحد مع غير المتغيّر، نجس بمقدار تغيّره، و طاهر قسمه الآخر، و لو كان فيه الامتزاج العرفيّ كما مرّ، و لو كان المفروض الامتزاج بالنجس إلىٰ حدّ الاستهلاك، فلا يحكم عليه بشي ء من الطهارة و النجاسة إلّا تبعاً للكلّ.

هذا، مع أنّ تعيين طهارة المجموع بلا مرجّح؛ لأنّ الإجماع قائم علىٰ عدم التعدّد، لا الطهارة.

و قد يقال في تقريبه، كما عن الوالد المحقّق- مدّ ظلّه: «بأنّه إذا

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 171.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 367

كان طاهراً مع ملاقاته للنجس، فيكون معتصماً، و إذا كان معتصماً فيطهر الباقي بالاتصال به أو الامتزاج معه؛ لأنّه في حكم المادّة له «1»، و عموم التعليل في صحيحة ابن بَزيع «2» يشمل المقام، و لا يتوجّه إليه حديث الترجيح بلا مرجّح».

و منها: إذا حصلت الكرّية و الملاقاة في زمان واحد، فقد حكم الأصحاب إلّا من شذّ بطهارته، و قضيّة إطلاق هذه الفتوىٰ، طهارة المجموع في هذه المسألة.

و منها: قصور أدلّة تنجيس النجاسات عن شمول هذه المسألة؛ فإنّ القليل الطاهر ينجس بملاقاة النجس، إذا كان الملاقي باقياً بعد الملاقاة عرفاً، و إذا كان يستهلك بالملاقاة كما إذا القي قطرة بول في ماء أقلّ من الكرّ بمقدارها فإنّ في تنجّسه به إشكالًا.

فبالجملة: الطاهر المتمّم بالنجس و لو كان من غير المياه المطلقة أو المضافة، لا ينجس بصِرْف الملاقاة له؛ لأنّ الاستهلاك و الملاقاة في زمان واحد عرفاً.

و غير خفيّ: أنّ هذا الوجه يستلزم طهارة غير المتمّم أيضاً، كما هو الظاهر.

هذا غاية ما يمكن تقريب الاستدلال به في جميع صور المسألة، أو في بعضها، و هو تشحيذاً للأذهان يذكر، و لذلك نحوّل أجوبتها إليهم

______________________________

(1) الطهارة (تقريرات

الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الفاضل اللنكراني: 23 24 (مخطوط).

(2) تقدّم في الصفحة 362، الهامش 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 368

- حفظهم اللّٰه تعالىٰ.

المقام الثاني: في مقتضى الأُصول العمليّة

لو سلّمنا قصور الأدلّة الاجتهاديّة، و قصورَ إطلاق معقد الإجماع عن شمول بعض صور المسألة، ففيما كان التتميم بالاتصال أو الامتزاج المحفوظ معه الموضوعان، فلا شبهة في لزوم الالتزام بالحكم السابق على الاتصال؛ من النجاسة و الطهارة، و لا منع من كون الماء الواحد من جهة، متعدّداً و ذا حكمين من جهة أُخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ استصحاب النجاسة، حاكم على استصحاب الطهارة بعد وجدان الملاقاة، من غير النظر إلى أدلّة الكرّ، و أدلّةِ انفعال الماء القليل، بل النظر مقصور على أنّ هذا الطاهر جسم لاقى النجس الاستصحابيّ.

و فيه: أنّه غير كافٍ للحكومة؛ لتقوّمها بكون أحد الشكّين مسبّباً عن الشكّ الآخر، و فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ فإنّ الشكّ في طهارة الماء مسبّب عن الشبهة الحكميّة؛ و هي أنّ الملاقاة مع هذا الماء النجس، تورث النجاسة أم لا، و الحكومة تكون في مورد كان الشكّ المزبور، مسبّباً عن نجاسة الملاقى بالفتح و لذلك ينعكس و يقال: بأنّ الشكّ في نجاسة الماء، مسبّب عن كفاية الماء الآخر في تطهيره أم لا، فما عن «المصباح» «1» خالٍ عن التحصيل.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 24/ السطر 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 369

و ما اشتهر: «من تعارض الأصلين؛ للإجماع علىٰ وحدة الحكم» في غير محلّه في بعض الصور المزبورة، و أمّا في صورة الامتزاج فلعلّ معنى الإجماع، يرجع إلىٰ أنّ الموضوعين غير باقيين، فلا يعقل تعدّد الحكم مع وحدة الموضوع، كما في صورة الاستهلاك.

فبالجملة: فيما بقي الموضوع الواحد فيلتزم بحكمه

فقط، دون الموضوع الآخر؛ لانتفائه.

مثلًا: إذا القي مثقال من الطاهر في المتنجّس المتمّم به، فإنّ استصحاب نجاسته غير معارض، و هكذا في عكسه، فإنّ استصحاب طهارته غير معارض.

و إذا كانا نجسين، و استهلك كلّ منهما بحيث لا يمكن الإشارة إلى الموضوع لإجراء الاستصحاب فاستصحابهما يسقط، و إجراء الاستصحاب في الموجود المؤلّف منهما محلّ إشكال؛ لأنّه لائقين بنجاسته قبل ذلك، فما كان متيقّن النجاسة معدوم حال الشكّ، و ما هو حال الشكّ موجود غير متيقّن النجاسة، فتصير النتيجة قاعدة الطهارة في هذه الصورة.

بل فيما إذا كان تتميم النجس بالاتصال بنجس آخر، يمكن دعوى تعارض الاستصحابين، كما ادّعاه الأصحاب في المتمّم بالطاهر؛ و ذلك لأنّ الإجماع القائم علىٰ وحدة الحكم، ليس ناظراً إلىٰ وحدة الحكم بحسب الطهارة و النجاسة، بل هو ناظر إلى وحدته على الإطلاق، فلا يكون الماء الواحد محكوماً بنجاستين، فعليه يتعارض الأصلان، و يرجع إلىٰ قاعدة الطهارة.

و بناءً عليه، يلزم في النجس المتمّم بالنجس، اختيار الطهارة، سواء

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 370

كان التتميم بالاستهلاك حتّى لا يجري الأصلان، أو كان بالاتصال حتّى يتعارضا.

و مثلها التتميم بالامتزاج، و هكذا في النجس المتمّم بالطاهر المستهلك فيه، بل و الممتزج به؛ للشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب عرفاً. و ليعذرني إخواني لو خرجت عن طور المسألة و الكتاب.

تذنيب: في تتميم القليل المتنجّس بغير الماء

القليل المتمّم بالطاهر من سائر المائعات، بل و مثل التراب إذا لم يصر مضافاً بها، و سلب الاسم عن المتمّم به معتصم أم لا، فيه وجهان:

من أنّه الكرّ من الماء، و المراد من «الماء» أعمّ ممّا كان صافياً غير خليط بشي ء، أو كان مخلوطاً بمقدار من التراب، أو ماء الورد، أو النفط، أو غير ذلك.

و من

أنّ المدار على الدقّة العرفيّة في المقادير و المساحات، و لا يجوز الاتكال على الإطلاقات المسامحيّة إلّا مع الدليل، و فيما كان الماء خليطاً بمقدار من الأشياء الأُخر طبعاً، فالسيرة القطعيّة قائمة علىٰ كفايته و عصمته؛ لأنّ المياه المتعارفة في عصر المآثير، كانت غير صافية، كما في الزكاة المخلوط بها مقدار من الأحجار و التراب و غيرهما، فإنّ الجابي الدائر في المزارع، الآخذ من الغلّات بعنوان الزكوات، من قبل أمير المؤمنين عليه الصلوات، لا يأخذ الحنطة الصافية قطعاً، فعليه لو خلطها بعد صفائها بمقدار من الحنطة، فلا دليل على الاجتزاء به و لو كان

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 371

أقلّ من المقدار الذي فيها بالطبع و العادة.

فلو كان كرّ من الماء، فيه منٌّ من التراب على العادة، فهو معتصم، بخلاف ما إذا كان أقلّ بمثقال، فخلط بالتراب حتّى صار بحسب الوزن كرّاً، فإنّه ليس بمعتصم.

و لك التفصيل بين ما يخالطه بالاستهلاك فإنّه و إن لم يكن كرّاً، و ليس الآن أيضاً كرّاً من الماء؛ لعدم الاستهلاك الحقيقيّ، بل و امتناعه، إلّا أنّه خلاف المرتكز العرفيّ، و لا سيّما بعد كونه أصفىٰ من المياه الأُخر بعد ذلك أيضاً و بين ما يخالطه لا بالاستهلاك.

مثلًا: المتعارف في المياه، وجود بعض الجوامد المرئيّة بالبصر، فإنّ الماء إذا بلغ كرّاً بها فهو معتصم؛ للملازمة النوعيّة بينها و بين الكرّ، خصوصاً في المدينة المشرّفة، و مكّة المكرّمة، و إذا كان تتميم الكرّ بإلقاء شي ء فيه، فهو غير موجب لكونه معتصماً، بخلاف الفرض الأوّل، و اللّٰه العالم.

مسألة: في تقارن الكرية و الملاقاة و زوال الكرّية بالملاقاة

حدوث الكرّية و الملاقاة في آن واحد، كزوالها و الملاقاة في آنٍ واحد. و لو زالت الكريّة بالملاقاة كما لو شرب

الكلب منه فالظاهر نجاسته.

اللّهمّ إلّا أن يدّعىٰ قصور شمول أدلّة الانفعال لمثله، أو دعوى ظهور الملاقاة في اللقاء المصدريّ، و لا يكفي اللقاء بقاءً.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 372

ذنابة: في أنّ العبرة بالاستهلاك لا التتميم

قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه: أنّ المياه النجسة بالملاقاة، لا تطهر و لو تمّمت بألف كرّ، فإنّ طريق تطهيرها الاستهلاك العرفيّ، دون الامتزاج، و لا الاتصال «1».

نعم، لو كان الاستهلاك و التتميم في آنٍ واحد، فللقول بطهارة الكلّ وجه، كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)؛ ج 1، ص: 372

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 150 151.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 373

المبحث السادس في ماء الغيث

اشارة

و البحث حوله يتمّ ضمن جهات:

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 375

الجهة الاولىٰ في موضوع المسألة
اشاره

و هو «ماء المطر» و «المطر» و هو بحسب اللغة: عبارة عن ماء السحاب، و الماء المنسكب من السحاب، و قضية إطلاقه بعد اعتراف جمع، مع التأييد ببعض الآثار كون جميع المياه ماء المطر، كما مضى تفصيله «1».

و ضعف هذه المقالة، لا يحتاج إلىٰ مزيد تدبّر، و لا سيّما أنّ المدار على الصدق العرفيّ و مساعدة أهل اللغة، فما هو المراد منه، هو الماء النازل من السحاب، طبيعيّاً كان، أو مصنوعيّاً، كما تعارف في اليوم من إرسال الأبخرة إلى السماء، فإذا وصلت إلى الحدّ الخاصّ يتقاطر و ينزل، فإنّه أيضاً مطر قطعاً، و لا يشترط في صدق العنوان المذكور شي ء آخر.

نعم، كون الماء النازل بحدّ خاصّ في القوّة و الكثرة و الكبر، حتّى

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 25 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 376

يوصف بعنوان «المطر» أمر آخر خارج عن وظيفة الفقيه.

و دعوى انصراف الأدلّة عن النادرة القليلة و الضعيفة في المطهّرية، غير بعيدة، و لكنّها غير داخلة في الصدق اللغويّ، فإنّ المتفاهم منه أعمّ من كونه ذا قوّة، أو ذا جثّة، أو ذا كثرة، و لذلك كثيراً ما يستعمل كلمة «القطرة» في المطر، فيقال: «نزلت قطرة مطر» أو «قطرات» كما في المآثير و الروايات «1»، و هذا يؤيّد ما ذكرناه.

فبالجملة: في كونه ماء مطر اتفاق، و عليه الضرورة و الوجدان.

حول بعض المصاديق التي يشكّ في صدق المطر عليها

بقي الكلام في المصاديق الأُخر:

منها: المياه المجتمعة من المطر المتقاطر عليها فعلًا من السماء، فهل هي أيضاً مطر؟

لا شبهة في كونها منطبقاً عليها عنوان «المطر» و ما عن العلّامة بحر العلوم: من أنّها ليست منه، و جعلها من الراكد المعتصم بالمطر «2»، غير موافق للذوق، و الاستعمال، و لظاهر اللغة؛ لأنّ

«المطر» هو المنسكب من السحاب، و ليس في كلامهم تقييد بحال نزوله و تقاطره، و سيتّضح لك ما ألجأه إلى الالتزام المزبور.

و منها: المياه المجتمعة من غير المطر المتقاطر عليها من السماء،

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(2) مهذّب الأحكام 1: 208.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 377

فإنّها ليست منه لغة و عرفاً، و يشهد للأوّل أنّ النازل عليه إذا كثر على المجتمع من ماء البئر مثلًا- بحيث غلب عليه ربّما يؤدّي إلى انسلاب اسمه، و يصدق عليه بعد الغلبة «ماء المطر و الغيث» و ما هذا إلّا لأجل أنّ العرف يجد الموجود المجتمع ماء المطر.

و منها: المجتمع من ماء المطر المتقاطر عليه من السماء قطرات خفيفة، فإنّه علىٰ ما عرفت منّا يعدّ «ماء الغيث و المطر» لصدقه على النازل.

و قد يقال: بأنّ عدم صدق «المطر» على القليل و القطرة، يورث عدم صدق «المطر» على المجتمع المزبور «1».

و أنت خبير: بممنوعيّة هذا. نعم دعوى انصراف الأدلّة هنا ممكنة، إلّا أنّها غير مرضيّة، فما يظهر من القوم، بل و المشهور؛ من إخراج مثله عن موضوع المسألة، غير قابل للتصديق جدّاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المشهور اعتبروا في صدق «المطر» القوّة و الاشتداد إذا أُريد زوال النجاسة به. و أمّا إذا أُريد زوالها بالمجتمع حال التقاطر عليه، فلا يعتبر عندهم شدّة تلك القطرة و ذلك المطر.

و منها: الفرض السابق مع انقطاع المطر ثمّ اتّصاله؛ بأن تكون السماء ذات فيض و إمساك، و ذات إضافة و بسط طبعاً في منطقة، فإنّ هذا الانقطاع المعلوم اتصال المطر بعده بساعة أو ساعتين، يورث انسلاب اسم «المطر و ماء الغيث» عن المجتمع المزبور

ظاهراً عندهم.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 378

نعم، و لكنّه لا يخلو من مناقشة؛ ضرورة أنّه ماء من السحاب موضوعاً، و إخراجه حكماً يحتاج إلى الدليل، بعد ثبوت الإطلاقات، و قصور الأدلّة المقتضية لانفعال القليل عن شموله، كما سنشير إليه، و من الممكن دعوى أنّ هذه الفترة ليست مضرّة؛ لأنّ بناء ماء المطر على الفترة و الانفعال.

و منها: الفروض الأُخر، مثل كون النزول علىٰ قطعة من المجتمع دون تمامه، و يتصوّر ذلك في الطست، فإنّه إذا كان جانب منه تحت السماء، و جانبه الآخر تحت السقف، فهل هو كافٍ في صدق «ماء المطر»؟ الظاهر نعم.

الجهة الثانية: في اعتصامه و مطهّريته

أمّا الثانية بل و الأولى فهي في الجملة مورد الاتفاق، و عليها دعاوي الإجماعات المنقولة و المحصّلة «1». و لا نحتاج إليها؛ لأنّها القدر المتيقّن من الكتاب، و قد مرّ ممنوعيّة شموله لغيرها «2».

نعم، استفادة العصمة منه مشكل؛ ضرورة أنّ المطهّرية المستفادة من الكتاب، أعمّ منها، و غاية ما يستفاد من توصيفه ب «الطهور» زيادته علىٰ أصل الطهارة المشترك معه سائر الأشياء، و لكن تلك الزيادة هي التي تتصوّر في التراب و الأرض، و هي المطهّرية دون العصمة.

______________________________

(1) مستند الشيعة 1: 26، جواهر الكلام 6: 312.

(2) تقدّم في الصفحة 25 26.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 379

و قد مرّ شطر من البحث حول ذلك في بدو الكتاب «1».

نعم، قضيّة انفعال ماء المطر حين التقاطر، اعتبار العسر و الشدّة، و هو كذلك، إلّا أنّه ليس من الاستدلال بالكتاب.

فبالجملة: اعتصام ماء المطر و مطهّريته في الجملة، أمر قطعيّ لا غبار عليه، و لا شبهة تعتريه، و سيظهر لك في ضمن بعض

الجهات الأُخر بعد نقل مآثير المسألة، إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و ممّا يشهد على ذلك، مفروغيّة المسألة في عصر الأخبار؛ لأنّها سيقت لبيان أمر آخر زائد على أصل العصمة، و تدلّ عليها السيرة القطعيّة العمليّة من الجاهل و العالم.

و يشهد لها: أنّ اعتبار نجاسة غسالته، يستلزم لغويّة اعتبار مطهّريته نوعاً؛ لأنّ الغسالة من كلّ شي ء في الأرض، تلاقي الشي ء الآخر قهراً، و إذا صارت طاهرة بالمطر بعد الانفصال، فاعتبار نجاسته لغو نوعاً.

الجهة الثالثة: في حكم الشكّ في العصمة و المطهريّة
اشارة

إذا شكّ في شرطيّة شي ء في عصمته و مطهّريته، فقضيّة الإطلاقات في أصل الماء و بعض المطلقات هنا عدمه؛ لعدم رجوع الشكّ المزبور إلى الشكّ في الموضوع؛ و هو مطهّرية المطر.

مثلًا: إذا شكّ في شرطيّة كون المطر بحيث إذا كان على الأرض المتعارفة صلابة و رخوة يجري، فإنّه شكّ في شرط شرعيّ، و إلّا فصدق

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 18 19.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 380

«المطر» غير موقوف عليه قطعاً، كما عرفت توضيحه سابقاً.

و هكذا لو شكّ في شرطيّة جريانه من الميزاب، كما عن «التهذيب» و «المبسوط» و «الوسيلة» و «الجامع» «1» و نسب الأوّل إلى ابن حمزة في «الوسيلة» خاصّاً أيضاً «2».

و مثلهما الشكّ في اعتبار كرّيته، كما نسب إلى العلّامة «3»، أو الشكّ في اعتبار كون الماء أكثر من النجاسة، كما قال به الأردبيليّ «4» و «المعالم» «5» فإنّه لو تمّ العموم و الإطلاق فالمرجع واضح، و إنّما الإشكال في تماميّتهما؛ و ذلك لعدم قيام دليل كما مضى علىٰ عصمة المياه على الإطلاق «6».

نعم، النبويّ الوارد في محلّه «7» تامّ الدلالة، غير ظاهر انجباره، و إن اشتهر شهرة كافية جدّاً بين المخالف و المؤالف.

و توهّم إطلاق مآثير تغيّر الماء،

مندفع بما مضى تفصيله «8»، فبقي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296، المبسوط 1: 6، الوسيلة: 73، الجامع للشرائع: 20.

(2) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 176، الوسيلة: 73.

(3) مفتاح الكرامة 1: 63، جواهر الكلام 6: 314.

(4) مجمع الفائدة و البرهان 1: 256.

(5) لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63.

(6) تقدّم في الصفحة 20 و ما بعدها.

(7) المعتبر 1: 44، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(8) تقدّم في الصفحة 131 132.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 381

احتمال وجود الإطلاق في خصوص روايات المسألة، فلنشر إليها:

الإطلاقات النافية للشرطيّة

فمنها: ما رواه «الكافي» معلّقاً، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن الكاهليّ، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال قلت: أمرّ في الطريق، فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّأون.

قال: قال

ليس به بأس، لا تسأل عنه.

قلت: و يسيل عليّ من ماء المطر، أرىٰ فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر، فتقطر القطرات عليّ، و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضّأ علىٰ سطحه، فيكفّ علىٰ ثيابنا.

قال

ما بذا بأس، و لا تغسله؛ كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «1».

و قد يقال: بانجبار الإرسال بعمل الأصحاب «2»، و فيه ما لا يخفى.

و غاية ما يمكن أن يقال تقريباً للاستدلال: إنّ هذه الرواية مشتملة علىٰ ثلاثة أسئلة:

اشتملت الفقرة الاولىٰ إلىٰ قوله (عليه السّلام) مثلًا

لا تسأل عنه

و مفادها واضح، و ظاهر قوله: «فيسيل عليّ الميزاب» وقوع ماء الميزاب عليه، و ظاهر قوله: «في أوقات» هو أنّه ليس ماء المطر؛ لعدم تعارف التوضّؤ

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،

الباب 6، الحديث 5.

(2) جواهر الكلام 6: 316.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 382

حين نزول المطر.

و اشتملت الفقرة الثانية إلىٰ قوله: «و ينتضح عليّ منه» على السؤال الآخر من غير جواب، و ظاهر قوله: «يسيل عليّ» وقوعه علىٰ بدنه و ثيابه، و لكن قضيّة قوله: «أرىٰ فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر» أنّ السيل كان على الطريق، حتّى يمكن الرؤية المزبورة، و ظاهر قوله: «فتقطر» وقوع القطرات عليه؛ أي علىٰ بدنه و ثيابه، و لكن قضيّة قوله: «و ينتضح عليّ منه» وقوع هذه القطرات إلىٰ جانبه و طرفه، و من تلك القطرات ينتضح عليه؛ أي علىٰ بدنه و ثيابه، كما هو المتعارف، فلا تهافت بين الفقرات.

و اشتملت الفقرة الثالثة على السؤال الثالث، و ظاهر قوله: «يتوضّأ علىٰ سطحه» و قوله: «و يكفّ» أي و يتقطّر على الثياب أنّه كان في أوقات لا ينزل المطر فيها.

فأُجيب بجواب للمسألتين؛ فإنّ قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر

جواب للمسألة الثانية حقيقة، و جواب للثالثة أيضاً؛ لأنّه بذلك يلزم الشكّ في كونه نجساً، لاحتمال زوال النجاسة بالمطر المطهّر، و تكون المسألة حسب المتعارف عن مجهولي التأريخ، فلا تغفل.

فعلم ممّا مرّ: أنّ ماء المطر لا يتنجّس بملاقاة النجس، و إلّا كان يجب الاجتناب عن القطرات الناضحة علىٰ ثيابه، و يجب تغسيله، و هذا هو المقصود من عصمة المطر و مطهّريته.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 383

توهّم ظهور الرواية في عدم تنجّس ماء المطر و سكوتها عن العصمة

إن قيل: ظاهرها عدم تنجّس ماء المطر بالتغيّر، و هو ضروريّ البطلان.

و أيضاً: ظاهر قوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء ..» أنّ ماء المطر مطهّر، و أمّا عصمته فهو ساكت عنها.

قلنا: أوّلًا: قد التزمنا في محلّه؛ قصور الأدلّة

عن إثبات تنجّس الماء المتغيّر «1».

و ثانياً: ظاهر قوله: «أرىٰ فيه التغيّر و آثار القذارة» عدم تغيّر الماء حقيقة، بل فيه مرتبة من التغيّر بالنسبة إلىٰ بعض قطعات الماء.

و ثالثاً: ظهور الذيل فيما أُشير إليه ممّا لا يكاد ينكر، إلّا أنّ تطبيقه على المورد المسئول عنه، شاهد علىٰ أنّ كلّ ماء إذا كان مطهّراً لشي ء، فهو لا ينفعل بذلك الشي ء، فتدلّ الرواية علىٰ طهارة غسالة كلّ المياه.

و ممّا ذكرناه يظهر تماميّة الاستدلال، من غير فرق بين اشتمال الرواية علىٰ قوله: «و يسيل عليّ ماء المطر» و عدم اشتمالها كما هو الظاهر، و اختلاف النسخ لا يضرّ بالمطلوب.

دعوى عدم إطلاق ذيل الرواية السابقة و جوابها

إن قلت: إطلاق الذيل ممنوع؛ لظهور الصدر في أنّ المراد من

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 120.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 384

«المطر المطهّر» هو السائل الجاري، أو ظهوره في أنّ المراد من «ماء المطر» هو السائل من الميزاب، أو ظهوره في أنّه هو السائل على وجه الأرض؛ لعدم وجود كلمة «الميزاب» في الفقرة الثانية.

قلت: قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه؛ أنّ خصوصيّة السؤال إذا كانت في الجواب ملغاة، تورث تأكيد الإطلاق؛ لأنّ ذلك يرجع إلىٰ إعراض المجيب عنها؛ بإعطاء القانون الكلّي المفيد في كلّ مقام.

و منها: ما رواه «الفقيه» في الصحيح، عن هشام بن سالم: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب.

فقال

لا بأس به؛ ما أصابه من الماء أكثر منه «1».

وجه الاستدلال: أنّ ما أصابه غسالة المتنجّس، و هي إذا كانت طاهرة يكون المطر مطهّراً و معتصماً.

نعم، يعلم منه لزوم إحاطة المطر بالمتنجّس، و غلبته عليه، و لا تكفي الأمطار القليلة جدّاً التي لا تحيط بالجسم،

و لا تكون أكثر.

بل يستفاد من الجواب، أنّ كلّ ماء إذا كان أكثر من النجس و وارداً عليه، يكون مطهّراً و معتصماً، فتكون الغسالة من كلّ المياه طاهرة.

و توهّم: أنّ الوكوف من الكنيف يلازم الجريان و كثرةً معتنى بها، فيورث الخلل في الإطلاق «2»، فاسد كما مرّ.

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 175.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 385

ثمّ إنّ المراد من «الأكثريّة» هي الأكثريّة في الإصابة؛ أي أنّ السطح الذي أصابه البول، ما أصابه من المطر، أكثر ممّا أصابه من البول، و هذا أمر فعليّ لا يلاحظ فيه القوّة، فما قد يتوهّم من قصور دلالته «1»، من قلّة التدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ أكثريّة الماء نوعيّة لا دائميّة، و ليس الشرط إلّا نوعيّته؛ لظهور الجملة في كونه حكمة لجعل الماء مطهّراً معتصماً، لا علّة كما لا يخفى.

فبالجملة: إذا كان ما أصابه من الماء، أكثر ممّا أصابه من النجس فهو الكافي. و يعلم الأكثريّة بالوكوف؛ لأنّه لا يمكن إلّا بعد إصابة السطح، فما أصاب السطح من البول، يصير أقلّ قهراً.

و منها: معتبر عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر، و قد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟

فقال

لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلّي فيه، و لا بأس به «2».

و دلالتها علىٰ أصل العصمة واضحة، و لكنّها لا إطلاق لها بالنسبة إلىٰ مطلق المطر.

و في نفسي أنّ «المطر» اصطلاحاً في المآثير و في المرتكز العرفيّ،

______________________________

(1) ذخيرة المعاد: 121/ السطر 38.

(2) مسائل

عليّ بن جعفر: 220/ 490، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 386

غير ماء المطر؛ فإنّه هو الماء النازل حين نزوله و إصابته للأرض، و أمّا إذا اجتمع في حفرة فهو «ماء المطر» و هذه الرواية ناظرة إليه كما لا يخفى.

و منها: معتبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

في ميزابين سالا، أحدهما بول، و الآخر ماء المطر، فاختلطا، فأصاب ثوب رجل، لم يضرّه ذلك «1».

و قد مرّ تفصيل البحث حولها في أوائل الكتاب «2»، و لا إطلاق لها، بل هي تشهد- علىٰ حسب التعارف أنّ ماء المطر بعد الانقطاع محكوم بالعصمة؛ لأنّ لازم المفروض في السؤال ذلك، فليتدبّر.

و منها: ما رواه «التهذيب» بإسناده عن أحمد بن محمّد و لعلّه المردّد بين المعتبرين عن جعفر بن بشير الثقة الجليل «3» عن عمر بن الوليد- المهمل «4» عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكنيف يكون خارجاً، فتمطر السماء، فتقطر عليّ القطرة.

قال

ليس به بأس «5».

و ظاهرها أنّ القطرة المصيبة هي النازلة على السطح، ثمّ أصابته،

______________________________

(1) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(2) تقدّم في الصفحة 197.

(3) رجال النجاشي: 119/ 304، الفهرست، الشيخ الطوسي: 43، معجم رجال الحديث 4: 55.

(4) تنقيح المقال 2: 348/ 9055، معجم رجال الحديث 13: 59.

(5) تهذيب الأحكام 1: 424/ 1348، وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 387

فيكون طاهراً، و المطر معتصماً، و ظاهره خفّة المطر، لا شدّته كما

توهّم، و لا أقلّ من الإطلاق السكوتيّ.

و أمّا سندها، فالظاهر جواز الاتكاء عليه؛ لأنّه قد نصّ النجاشي في ترجمة جعفر بن بشير بأنّه «روىٰ عن الثقات، و رووا عنه» «1» و قد مرّ حال أبي بصير «2»، فالرواية قويّة سنداً و دلالة جدّاً، فليتدبّر.

فتحصّل: أنّ جميع الشروط المحتملة دخالتها في مطهّرية المطر و عصمته، مدفوعة بمثلها.

فما قد يقال: بأنّ قصور الأدلّة المقيّدة الآتية، لا يورث تماميّة المطلوب؛ للزوم الأخذ بالقدر المتيقّن، في غير محلّه «3»

المآثير الدالّة على اشتراط جريان ماء المطر

إن قلت: قضيّة طائفة من المآثير، اشتراط الجريان.

فمنها: معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن

______________________________

(1) جعفر بن بشير أبو محمّد البجلي الوشّاء من زهّاد أصحابنا، و عبّادهم و نسّاكهم، و كان ثقة .. كان أبو العبّاس بن نوح يقول: كان يلقّب «فقحة» العلم، روى عن الثقات و رووا عنه، رجال النجاشي: 119/ 304.

(2) تقدّم في الصفحة 321.

(3) و في أبواب النجاسات باب 27 روايتان تدلّان على مطهّرية المطر و لو كان بالبَلّ (أ) (منه (قدّس سرّه)).

(أ) وسائل الشيعة 3: 445 446، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 27، الحديث 3 و 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 388

البيت يبال علىٰ ظهره و يغتسل من الجنابة، ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟

فقال

إذا جرىٰ فلا بأس به «1».

و منها: ما رواه «قرب الإسناد» عنه قال: و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت، فيصيبه المطر، فيكفّ فيصيب الثياب، أ يصلّىٰ فيها قبل أن تغسل؟

قال

إذا جرىٰ من ماء المطر لا بأس «2».

و منها: معتبر عليّ بن جعفر، عنه (عليه السّلام) قال: سألته عن المطر يجري في المكان فيه العَذِرة، فيصيب الثوب،

أ يصلّىٰ فيه قبل أن يغسل؟

قال

إذا جرىٰ فيه المطر فلا بأس «3».

و توهّم إمكان حملها على الجريان التقديريّ، كما عن الأردبيليّ «4».

أو إمكان إرادة الجريان؛ بمعنى تقاطره من السماء قبال وقوفه.

أو جريانه الفعليّ الذي هو ملزوم غالبيّ لكونه حال التقاطر، كما

______________________________

(1) مسائل عليّ بن جعفر: 204/ 433، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

(2) قرب الإسناد: 192/ 724، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 3.

(3) مسائل عليّ بن جعفر: 130/ 115، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 9.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 176، مجمع الفائدة و البرهان 1: 256.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 389

عن الفقيه الهمدانيّ (قدّس سرّه) «1».

أو إمكان حملها علىٰ خصوصيّة المورد من النجاسة الخاصّة، أو كونه للصلاة «2».

أو إمكان حملها على القيد غير الاحترازيّ «3».

كلّها غير صحيح، فيتعيّن قول «الوسيلة» «4».

و لعلّ إليه يرجع مقالة الشيخ؛ من اشتراط الجريان من الميزاب «5»، و إن لم يساعده عبارته المحكيّة عن «المبسوط» «6» فتدبّر.

قلت: قد عرفت أنّ مطهّرية المطر و اعتصامه، غير مشروطتين بشي ء «7»، و مطهّريةَ ماء المطر و هو المجتمع في المكان و اعتصامَه، مشروطتان حسب هذه المآثير بالجريان، فلو أصاب المطر، و كان هو بحيث أحاط بالشي ء المتنجّس و غلب عليه بأن يكفّ منه شي ء من القطرات، كما في صحيحة هشام «8» فهو يطهّر، و ماء غسالته طاهر.

و إذا وقف ماء المطر في موقف، و كان راكداً، فإن تقاطر عليه من

______________________________

(1) مصباح الفقيه: 646/ السطر 4، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 261.

(2) التنقيح في شرح العروة

الوثقىٰ 1: 261.

(3) مهذّب الأحكام 1: 204.

(4) الوسيلة: 73.

(5) تهذيب الأحكام 1: 411، ذيل الحديث 1296.

(6) المبسوط 1: 6.

(7) تقدّم في الصفحة 379 380.

(8) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 390

السماء فهو لا يطهّر شيئاً، إلّا إذا كان بحيث يجري، أو كان جارياً بالفعل.

و علىٰ هذا، لا تهافت بين مفاد صحيحة هشام كما توهّمه الأكثر «1»، و مفاد روايات عليّ بن جعفر (عليهما السّلام) لاختلاف مصبّهما.

و أمّا إمكان الالتزام باشتراط الجريان حال التقاطر على المجتمع في الأرض، فإن أُريد منه الجريان الفعليّ، فهو في غاية البعد؛ للزوم كون الماء الراكد لمانع، نجساً و منجِّساً و لو كان أكراراً، فتأمّل، و الجاري القليل لاقتضاء الأرض جريانه، كما في الأراضي (الإسفالتيّة) طاهراً و مطهّراً.

فيعلم منه: أنّ المراد هو الجريان الملازم لكثرته العرفيّة، التي تجري نوعاً لولا الموانع الموجودة غالباً.

و قد يشكل ذلك؛ لظهور معتبرة الأوّل في أنّ المقصود هو الجريان الفعليّ، لأنّ مفروض السائل هو الماء الموجود القابل لأن يؤخذ منه للوضوء، فعليه يمكن دعوى أنّ هذه المآثير، بصدد إخراج هذا الماء من ماء المطر، و إدراجِه في الماء الجاري الذي له المادّة؛ و هي السماء، و ليس هو ماء بئر، حتّى يكفي مجرّد الاتصال بالمادّة، بل هو من قبيل الجاري، فيعتبر فيه الجريان، و عند ذلك يلزم تهافتها مع صحيحة ابن بَزيع «2»، الظاهرة في أنّ مجرّد الاتصال بالمادّة، كافٍ.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 646/ السطر 12، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 177.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

كتاب

الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 391

عود إلى أقسام الماء النازل من السماء

فتحصّل: أنّ هنا ثلاثةَ مياه:

المطر، و هو حال نزوله، فإنّه في هذه الحال إذا أصاب شيئاً يطهر، و يكون معتصماً.

و ماؤه الواقف في الأرض.

و ماؤه الجاري على الأرض، و هذا أيضاً مورد الاتّفاق، و ما هو مورد الخلاف هو الثاني.

و توهّم الاختلاف في الأوّل أيضاً، غير تامّ؛ لأنّ ظاهر الروايات المشار إليها، اشتراط الجريان في الماء الواقف على الأرض، و المصيب للسطوح النجسة، الداخلة فيها غسالتها، فالإطلاق الدالّ علىٰ مطهّرية المطر و اعتصامه، محفوظ، و ما يتراءىٰ من كلمات القائلين بالشرطين كما مرّ «1»، في غير محلّه.

نعم، الخروج عن هذه المآثير بوجه مقبول عرفيّ بحيث يلزم منه سقوط شرطيّة الجريان مشكل.

فبالجملة: الإطلاقات المقتضية لاعتصام المطر في جميع الصور، و إن كانت تشمل الفرض السابق، إلّا أنّ قضيّة هذه الأخبار تقييدها بها في صورة خاصّة، و فيما عداها و فيما عدا هذا الشرط، يرجع إلى الإطلاق، فما

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 389.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 392

قيل في المقام من بعض القيود في مطهّريته و عصمته «1»، لا يرجع إلى محصّل.

الجهة الرابعة: في الشكّ في مطهّرية بعض أقسام المطر

لو فرضنا قصور الطائفة الأُولىٰ عن المرجعيّة عند الشكّ سنداً أو دلالة، و سلمنا أنّ الطائفة الثانية قابلة للحمل علىٰ إحدى المحامل المشار إليها، فهل يجب الأخذ بالقدر المتيقّن؛ فيما إذا شكّ في مطهّرية ماءٍ بعد ما كانت واضحة عند العرف؟

أم يمكن التمسّك بالسيرة العمليّة و البناء العقلائيّ؛ فإنّ العرف بناؤه علىٰ ترتيب النظافة و الطهارة علىٰ ما يغسل بالمطر من غير قيد و شرط، و هذا مستمرّ من الآن إلى العصر الأوّل، و قضيّة الأُصول العمليّة طهارة غسالته؟

أو يمكن الرجوع إلى الأُصول الرافعة للشرط الشرعيّ، كما قيل به في غير مقام

«2»؟

و الإنصاف: أنّ الثاني غير تامّ، و الأوّل مقبول الأعلام، و لقد تعرّضنا لجريان البراءة الشرعيّة في مثل المسألة ملتزماً حجّيةَ الأصل المثبت بالأدلّة اللفظيّة فيها، و لكنّ المسألة عندي بعدُ لا تخلو من نوع غموض، فليتدبّر.

______________________________

(1) مهذّب الأحكام 1: 208.

(2) كفاية الأُصول: 110.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 393

هذا، و تختلف الآراء حسب اختلافهم في حقيقة النجاسة و الطهارة، و المطهّرات الشرعيّة و العرفيّة، فلا تغفل.

الجهة الخامسة: اعتصام ماء المطر الجاري بعد انقطاع التقاطر
اشارة

المشهور بل هو المتّفق عليه، اشتراط التقاطر الفعليّ علىٰ ماء المطر؛ في كونه مطهِّراً و عاصماً «1».

و قضيّة ما سلف صدق «ماء المطر» على المجتمع في الأرض، فإذا كان جارياً عليها ففي الشرط المذكور إشكال؛ لخلوّ المآثير عنه، و كونُه مفروغاً عنه عند السائل و المجيب غير ظاهر، بل إطلاق معتبر ابن جعفر (عليه السّلام) يقتضي عدمه.

مع أنّ من المحتمل قويّاً، كون المراد من «ماء المطر» هو المجتمع بعد انقطاعه، و أمّا إذا تقاطر عليه فهو مطر؛ لاختلاف المآثير في التعبير المذكور «2»، فتأمّل.

و التدبّر التامّ في صحيحة ابن الحكم «3»، يعطي أنّ المفروض فيها حال انقطاعه؛ لأنّ ميزاب البول حال التقاطر بعيد.

مع أنّه لا يحتاج في الفرض إلى الميزاب الآخر، بل هو مختلط مع المطر

______________________________

(1) جواهر الكلام 6: 312، مهذّب الأحكام 1: 207.

(2) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(3) الكافي 3: 12/ 1، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 394

المتقاطر عليه كما لا يخفى.

و يؤيّد ما ذكرنا صدر مرسلة الكاهليّ «1».

نعم، في كونه مسؤولًا عن ماء المطر إشكال.

و لعلّ لذلك مال «الجواهر» إلىٰ إسقاط

شرطيّة التقاطر عليه، دون أصل التقاطر «2».

و هذا التفصيل في غاية البعد؛ لأنّ المجتمع في الأرض، إن صدق عليه «ماء المطر» فيترتّب عليه حكمه، من غير لزوم التقاطر من السماء علىٰ أمر آخر.

و إن لم يصدق عليه، فلا بدّ من التقاطر عليه، حتّى يكون معتصماً لأمر آخر.

و ما ذهب إليه الفضلاء: من أنّ صدق «ماء المطر» على المجتمع في الأرض ممنوع؛ للزوم كون جميع المياه ماء المطر.

أو أنّ الصدق المزبور، يستلزم عدم انفعال الماء القليل؛ لأنّه يصدق عليه «ماء بئر» أو «بحر» أو «مطر» أو «جارٍ» و أمثاله، و هذا يشهد علىٰ أنّ الإضافة المذكورة بيانيّة «3».

غير قابل للتصديق؛ ضرورة أوّلًا: أنّ اعتصام المجتمع في الأرض، يكون عند الأصحاب لأجل صدق «ماء المطر» عليه، لا لأجل النصوص

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(2) لاحظ جواهر الكلام 6: 323.

(3) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179، التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ 1: 263.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 395

الخاصّة، أو لكونه وارداً في الماء ذي المادّة.

و ثانياً: لو كانت الإضافة بيانيّة، يلزم صدق «المطر» على الموجود المجتمع، مع أنّه واضح المنع.

و الالتزام بأنّ «ماء المطر» يصدق حقيقةً و لغةً حال التقاطر فقط، سواء كان التقاطر عليه، كما هو مختار الأكثر، أو كان على الأرض الأُخرىٰ، كما عليه «الجواهر» (رحمه اللّٰه)، في غاية الوهن؛ لعدم الشاهد عليه.

التفصيل في ماء المطر المنقطع عنه التقاطر

نعم، يمكن دعوى: أنّ مجرّد الصدق المذكور، غير كافٍ لإثبات المطهّرية و العصمة؛ لأقوائيّة أدلّة انفعال الماء القليل، بل و يكون بعض رواياته، واردة في الحياض و الغدران الموجودة في الصحاري التي ليست إلّا من الغيث «1».

و لكنّها

تتمّ لو سلّمنا عدم ظهور بعض روايات المسألة في خصوص حال انقطاع المطر.

فعليه، يمكن التفصيل بين ماء المطر الذي مرّ عليه الزمان الطويل، و بين ما لم يكن كذلك؛ فإنّ العرف ربّما يجد الفرق بين الصورتين في الصدق و عدمه، كما يجد الفرق بين ما إذا كان الماء المجتمع متّصلًا بالماء المتقاطر عليه، و بين ما لم يكن متّصلًا؛ ضرورة أنّ العرف يجد عصمة الأوّل لأجل كونه ماء المطر، و ليس هذا إلّا لقرب عهده بالمطر، فتدبّر.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 396

مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ في اعتصام ماء المطر

هذا، و قضيّة الأُصول العمليّة لدى الشكّ، أيضاً اعتصامه بعد الانقطاع؛ لأنّ العصمة و المطهّرية من الأحكام المجعولة التنجيزيّة، و الشكّ في بقاء نجاسة الملاقي، مسبّب عن الشكّ في مطهّريته و عصمته.

و لو قيل: بأنّ الأصل الجاري هو التعليقيّ، مع تعارضه باستصحاب النجاسة «1»، فهو لا يخلو من تأسّف، مع أنّ الأصل التعليقيّ، جارٍ و حاكم على استصحاب النجاسة في الملاقي، و لا ينبغي الخلط بين الاستصحاب التعليقيّ، و بين استصحاب أمر مفهومه المعلّق، كاستصحاب ضمان زيد، فإنّه إذا كان ضامناً، ثمّ شكّ في ضمانه، فالاستصحاب يورث فعليّة ضمانه، و معنى «الضمان» هو أنّه إذا تلف المال مثلًا عنده، فعليه مثله أو قيمته، و العصمة و المطهّرية و إن كان معناهما معلّقاً، و لكنّها قابلة للجعل المنجّز، و ليس استصحابه من الاستصحاب التعليقيّ، فليتدبّر، و اغتنم.

الجهة السادسة: في طهارة الأشياء بمجرّد رؤية المطر لها
اشارة

قضيّة ما ورد في خصوص المطر، أنّ الأشياء المتنجّسة تطهر به، من غير اشتراط عنوان «الغسل» و «التعدّد» و عنوان «العصر» و «التعفير» بل الحكم أُنيط بالرؤية و الإصابة في المرسلة «2»

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 179 180.

(2) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 397

و الصحيحة «1».

و مقتضى هذه الإطلاقات، عدم الفرق بين الجوامد و المائعات، فلو أصاب ماء متنجّساً فقد طهر، من غير اشتراط الامتزاج و الاستهلاك، و إن قلنا: باعتبار هذه الأُمور في التطهير بالمياه الأُخر.

و ظاهر أصحابنا الاتكاء عليها إلّا في مسألة التعفير، حيث استشكل الأمر هناك، و إن احتمله السيّد اليزديّ (قدّس سرّه) «2».

تعارض إطلاقات المطر مع إطلاقات التعفير و نحوه

و ربّما يخطر بالبال: أنّه لو فرضنا الإطلاق هنا، فلتلك العناوين الأُخر أيضاً إطلاقات، و تكون النسبة عموماً من وجه.

و ما اشتهر بين أبناء العصر: من تقديم أدلّة المسألة علىٰ تلك الإطلاقات، معلّلين بأنّ من وجوه تقديم أحد العامّين من وجه على الآخر، لزوم لغويّة أحدهما علىٰ فرض تقديم الآخر، و لا عكس، و الأمر فيما نحن فيه كذلك؛ لأنّ المفروض في الأدلّة خصوصيّته للمطر، و لو كان لتلك الأدلّة تقديم عليها، يلزم سقوط تلك الخصوصيّة، و اشتراكه مع سائر المياه «3».

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 41، فصل في المياه، ماء المطر، المسألة 11.

(3) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 224.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 398

لا يخلو من تأسّف؛ ضرورة أنّ تقديم أحد الدليلين على الآخر، ليس

من الواجبات الشرعيّة، و لا العرفيّة، حتّى يقال بما قيل، بل الجمع بين الدليلين لا بدّ و أن يكون عرفيّاً، و مجرّد الإمكان لا يصحّح ذلك، فعليه تبقى المعارضة بين الأدلّة باقية.

و لك منع اللغويّة؛ لأنّ من آثاره عدم الاحتياج إلى التعدّد و العصر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ نسبة جميع تلك الأدلّة معها، عموم من وجه، كما أشرنا إليه. مع أنّ تقديم روايات هذه المسألة على تلك الأدلّة بعد الالتزام بعدم اعتبار العصر و التعدّد في مطلق المياه المعتصمة يستلزم التخصيص المستهجن، و يلزم التعارض بالعرض بين أخبار المسألة، و أخبار المياه الأُخر التي تكون عاصمة، كما لا يخفى.

نعم، إذا كان الأمر كما أُشير إليه آنفاً، فالظاهر الذي عليه بنينا في محلّه، هو سقوط المطلقات، و يكشف من التخصيصات المنفصلة الكثيرة، وجود قيد في تلك المطلقات غير واصل إلينا، كما اشتهر ذلك في أخبار القرعة «1»، و عند ذلك يتعيّن الأخذ بإطلاقات المسألة في خصوص التعدّد و العصر، لو لم نقل: بأنّ اعتبار العصر ناشئ من اعتبار الغسل.

و أمّا شرطيّة الغسل، فلا دليل يقتضي لزوم ذلك على الإطلاق.

و أمّا شرطيّة التعفير، فهي مشكوكة السقوط، و قضيّة الاستصحاب اعتباره. و هكذا في المائعات النجسة، بناءً على اعتبار الامتزاج أو الاستهلاك.

هذا، و في خصوص أخبار المسألة، شهادة علىٰ عدم اعتبار التعدّد

______________________________

(1) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 384.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 399

فيما يعتبر فيه التعدّد؛ و هي النجاسة البوليّة و الخمريّة، فلا تغفل.

وجه لعلاج التعارض بين المطلقات و جوابه

و قد يقال: بأنّ إطلاقات المسألة، ظاهرة في قيام المطر مقام الغسل بغيره من المياه، و أمّا التطهير بالتراب فهو أجنبيّ عنها «1»، و ما فيه لا يحتاج إلى الإبانة؛

لعدم ظهور فيها للنيابة و القيام، و إطلاق قوله محكّم.

و لنا السؤال عنه و عن أخيه الذي أخذه منه أنّه لا يجوز التمسّك بها؛ إذ الشكّ في اعتبار التعفير بالتراب، شبهة حكميّة في أصل تلك المسألة، أم يرجع إلى استصحاب النجاسة؟ و لا أظنّ من الالتزام بذلك، كما هو الظاهر.

و لو كانت المياه الأُخر، نائبة عن ماء المطر في المطهّرية، كان هو الأولىٰ، مع أنّهم مصرّون علىٰ أنّ جميع المياه من المطر؛ اتكالًا علىٰ بعض الظواهر المخفيّ معناها علىٰ هؤلاء الفضلاء المبتدئين في العلوم، فلا تخلط.

توهّم آخر لتقديم عمومات المطر على مطلقات التعفير و جوابه

و ربّما يقال: بأنّ قضيّة تعارض العموم في المسألة مع إطلاقات مسألة التعفير، تقديمه عليها؛ لأنّ ظهور الإطلاق تعليقيّ، و ظهورَ العموم

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 233.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 400

تنجيزيّ «1».

و بعبارة اخرىٰ: يمكن أن يكون العامّ بياناً للمطلق.

و هذا غير مبرهن عندي؛ لأنّ من القويّ احتياج العمومات إلىٰ مقدّمات الإطلاق، مع أنّ مقدّمات الإطلاق، توجب ظهور فعل المتكلّم المختار في أنّ ما أخذه موضوعاً للحكم، تمام الموضوع، و هذا ظهور تنجيزيّ، و إلّا يلزم عدم جواز التمسّك بالمطلقات في كلمات الأوّلين، بعد بنائهم علىٰ ذكر القيود و القرائن في كلمات الآخرين؛ لعدم استقرار الظهور قبله، و الالتزام بذلك غير مقبول لدى أبناء التحقيق، فلا تخلط.

و أمّا تمسّكهم باستصحاب النجاسة بعد سقوط الإطلاقين «2»، فهو لا يخلو من غرابة؛ للزوم التمسّك به في جميع الشبهات الحكميّة.

مثلًا: لو شكّ في احتياج ولوغ الخنزير أو الكلب البحريّ و هكذا كلّ حيوان إلى التعفير، فقضيّة استصحاب النجاسة لزومه، و هذا ضروريّ البطلان؛ لحكومة إطلاقات مطهّرية الماء عليه، فليتدبّر.

الوجه في رفع التعارض بين عمومات المطر و التعفير

و من الممكن دعوى: أنّ التشديد في حكم النجاسة، كاشف عن شدّتها، فإذا شكّ في حكم كالتعدّد، و التعفير يرجع إلى الشكّ في شدّتها، و هي محكومة بالعدم إذا كانت جعليّة، فتأمّل.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 224.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 185.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 401

و حيث إنّ ظاهرهم في محلّه إرسالهم المسألة؛ و أنّ التعفير لازم، يعلم أنّ المتفاهم العرفيّ تقدّم تلك الأدلّة علىٰ أدلّة المسألة، بل يظهر قوّة احتمال لزوم التعدّد فيما يحتاج إليه أيضاً؛ و ذلك لأنّ

إطلاقات المسألة ناظرة إلىٰ أصل حصول الطهارة بالمطر، في مقابل توهّم عدم تطهّر النجس به، أو اشتراط الأمر الآخر زائداً علىٰ المطريّة، و أمّا التعدّد و التعفير فهما لا ينافيان الإطلاق المزبور.

أو يقال بأنّ العموم في المرسلة غير حجّة سنداً، و ذيل صحيحة هشام غير تامّة دلالة؛ لأنّه ظاهر في ذكر الحكم بالنسبة إلى المورد فلا حجّة في المسألة تقاوم أدلّة اعتبار التعفير و التعدّد.

و المسألة بعد تحتاج إلى مزيد تدبّر في أخبار تلك المسألة، و سيوافيك تفصيلها في محلّه إن شاء اللّٰه تعالىٰ «1».

تنافي مفهوم الإصابة مع مفهوم الغسل

ثمّ إنّه غير خفيّ تعارض أخبار المسألة مع قوله (عليه السّلام)

اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه «2»

فإنّ الظاهر لزوم الغسل من غير فرق بين المياه، فتكون النتيجة هي التعارض بالعموم من وجه، علىٰ وجه عرفت

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 406 407.

(2) الكافي 3: 57/ 3، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 402

تفصيله «1».

فما قيل: «بأنّ الموضوع هنا هو الإصابة و الرؤية، و في غير ما نحن فيه هو الغسل» «2» خالٍ عن التحصيل، كما لا يخفى.

و إذا كان مفهوم «الغسل» متقوّماً بالعصر، فيلزم حسب إطلاق هذه الرواية عصر الثوب المغسول بالمطر، و حيث يشكل كون أخبار المسألة الواردة في الثوب المتنجّس «3»، مرتبطة بتلك المسألة، فلا يستفاد منها مٰا يضادّها.

و بعبارة اخرىٰ: ما ورد في الغسل و التعدّد، راجع إلى الثوب المبتلىٰ بالبول، و ما ورد في هذه المسألة، راجع إلى الثوب المبتلىٰ بالماء المتنجّس بالبول، أو السطح المتنجّس بالبول، فيمكن عدم الحاجة حينئذٍ إلى العصر و التعدّد، كما قيل به في محلّه، فما يظهر

من الأعلام المعاصرين شرّاح «العروة الوثقىٰ» في هذه المسألة، صدراً و ذيلًا، فقهاً و أُصولًا «4»، كلّه المطعون، عصمنا اللّٰه تعالىٰ من الزلل، و نرجو منه العفو و التجاوز عن الخطأ.

و ربّما يخطر بالبال: أنّ الأمر بالتعفير، كاشف عرفيّ عن وجود العين النجسة في الإناء، و لا معنى لكون الماء مطهّراً لها إلّا بعد زوالها، فعليه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 397.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 223 224.

(3) وسائل الشيعة 3: 395 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2 و 3 و 4.

(4) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 180، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 223.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 403

يمكن اختصاص التزامهم بالتعفير و لو كان في الغسل بالمطر، و لا يلتزمون بالعصر و التعدّد. هذا تمام الكلام في سقوط الغسل و التعدّد و التعفير.

كفاية إصابة المطر عن الامتزاج و الاستهلاك

و أمّا سقوط الامتزاج و الاستهلاك، فهو غير بعيد بدواً؛ لعدم الدليل عليهما إلّا الأدلّة التي لها الإهمال، فلا بدّ من المراجعة إلى إطلاقات المسألة «1».

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المائع المتنجّس كالجامد المتنجّس، فكما لا يكفي إصابة المطر في جانب عن جانب آخر في الجوامد، فكذلك في المياه، و الصدق العرفيّ مشترك بينهما، فإذا طهر سطح الماء المتنجّس بغلبة المطر عليه، فهو ينجس بملاقاة بقيّة الماء بعد انقطاع المطر، فيكون تطهيره باستهلاكه فيه، أو امتزاجه معه «2»، علىٰ ما مرّ في محلّه «3».

و ربّما يتخيّل سقوط الامتزاج هنا و إن كان شرطاً في غيره؛ لتلك الإطلاقات «4» و قد عرفت وجه منعه.

و لأجل أنّ ظاهر الأصحاب في التطهير بالكرّ، اعتبار إلقائه دفعة للزوم انفعال القليل الوارد عليه

فعليه لا يعقل تطهير المياه المتنجّسة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

(2) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 225 226.

(3) تقدّم في الصفحة 173 174.

(4) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 227.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 404

بالمطر؛ لانقطاع القطرات، و تصير منفعلة في الرتبة المتقدّمة، فيدور الأمر بين إنكار تطهيره به، و هو خلاف الإطلاقات الماضية، و بين القول بكفاية الاتصال و هو المتعيّن.

مع أنّ التفكيك بين السطح و الباطن في الماء الواحد، خلاف الإجماع المدّعىٰ علىٰ وحدة حكم الماء الواحد «1».

و يؤيّد ذلك الإجماعات المستفيضة المحكيّة، علىٰ أنّه كالجاري «2»، و قد تقرّر في محلّه كفاية الاتصال به «3».

و أمّا التمسّك بروايتي الميزابين صحيحة ابن الحكم «4»، و خبر ابن مروان «5» لكفاية الاتصال «6»، فهو من الغفلة عن ظاهرهما؛ لأنّ المصيب هي القطرة من الماء المختلط من البول و المطر، و الاختلاط إمّا هو الامتزاج، أو هو الاستهلاك، فلا تكون هي إلّا دالّة علىٰ خلاف المقصود؛ لتقرير الإمام (عليه السّلام) أنّ الحكم دائر مدار الاختلاط، و بإلغاء الخصوصيّة عن البول، يسري الحكم إلى المائعات المتنجّسة؛ لأنّها بعد التنجّس تصير كالعين النجسة، علىٰ ما تقرّر منّا في محلّه، فلا تخلط.

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 1: 255، مستند الشيعة 1: 26.

(3) العروة الوثقىٰ 1: 43، فصل في المياه، ماء البئر، المسألة 2.

(4) وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

(5) تقدّم في الصفحة 239.

(6) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 227.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 405

تفصيل الجواهر بين إصابة المطر للجامد و المانع

ثمّ إنّ ظاهر «الجواهر» «1» و غيره «2»، دعوى أنّ العرف يساعد على التفرقة بين الجامد و المائع، فإنّ الجوامد لا تطهر بمجرّد إحاطة المطر بجانب منها، بخلاف المائعات.

و هي غير مسموعة، مع انتقاضها بالماء المضاف الذي لا يمكن الالتزام بطهارته بمجرّد الاتصال، و لا يساعده العرف، فليتأمّل جيّداً.

أقول: هذا غاية ما يمكن أن يستند إليه في المسألة، و أنت خبير بما فيه صدراً و ذيلًا؛ و ذلك لأنّ صحيحة ابن بَزيع الواردة في طهارة الماء المتنجّس بالمادّة «3»، صريحة أو ظاهرة في أنّ المناط في التطهير، كون الماء الوارد ذا مادّة، و ليست المادّة هي المياه الكثيرة، بل هي تختلف حسب اختلاف الآبار، و من الآبار ما يتقاطر من جدارها على الماء الموجود فيها، و هي كثيرة، أو تكون تلك القطرات جوف الماء الموجود، فلو كان ذلك مورثاً لنجاسة تلك القطرات، يلزم امتناع تطهيره بها؛ للزوم تكثّر الماء المتنجّس دائماً، و لا يمكن تقليله، فضلًا عن تحصيل طهارته.

هذا مع أنّ ظاهر أخبار المطر، أنّ القطرات معتصمة «4»، و إذا كثرت

______________________________

(1) جواهر الكلام 6: 319.

(2) مهذّب الأحكام 1: 210.

(3) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 6.

(4) وسائل الشيعة 1: 144 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 406

و امتزجت يطهر القليل بها، فالقول باعتبار الدفعة في الكرّ، لا يستلزم ذلك في غيره.

فالمناط في المسألة مختلف، و منه وقوع المياه الطاهرة في المتنجّس تدريجاً، إلىٰ أن يصير أكثر منه، و غالباً عليه، كما في صحيحة هشام بن سالم «1»، فما ظنّه أصحاب القول بكفاية الاتصال ناشئ عن

سوء الحال.

و إذا تبيّن فساد ذلك، فسائر الوجوه التي أُشير إليها في أثناء الصفحات الماضية كلّها ساقطة؛ لأنّها من متفرّعات هذا الوجه الظاهر فساده.

هذا، و قد مرّ منّا: أنّ المياه النجسة، كالمضاف في عدم قبوله الطهارة، إلّا بانعدام موضوعه و هو الاستهلاك «2»؛ لما تقرّر في محلّه أنّ معنىٰ تطهير الشي ء، ليس إلّا إزالة النجاسة عنه بالماء، و هو لا يتصوّر في المائعات «3»، فالعمومات و الإطلاقات منصرفة عنها، و لا نصّ علىٰ أنّ المائعات بخصوصها، تطهر بالاتصال أو الامتزاج.

و أمّا خبر الميزابين «4»، فإمّا يراد من الاختلاط المفروض فيه بين البول و الماء، الامتزاج، أو الاستهلاك

______________________________

(1) الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

(2) تقدّم في الصفحة 108.

(3) نفس المصدر.

(4) تقدّم في الصفحة 404.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 407

فإن أُريد الأوّل، فلا دليل على أنّ نفي البأس لأجل طهارة البول بالامتزاج، بل ربّما كان لاحتمال إصابة الماء المعتصم.

و إن أُريد الثاني كما حمله عليه بعض الأفاضل «1» فهو لا يدلّ علىٰ شي ء، فلا تخلط.

و أمّا مرسلة الكاهليّ «2» علىٰ نسخة «الوافي» «3» التي صدّقها شيخ الشريعة الأصفهانيّ (رحمه اللّٰه) «4»، و هو تعويض قوله: «و يسيل عليّ ماء المطر» بقوله: «و يسيل على الماء المطرُ» بأن يكون «المطر» فاعله، فإنّه و إن لا موجب لتعيّنها إلّا بعض ما لا يصغى إليه، و لكنّه لو سلّمنا ذلك، فلا دلالة لها على أنّ الماء المرئيّ فيه التغيّر و القذارة، كان متغيّراً بالنجس، حتّى يقال: بأنّ مجرّد تقاطر المطر عليه يورث طهارته، كما في المرسلة.

مع أنّ إرسالها غير ظاهر انجباره؛ لوجود الصحاح الكثيرة في

المسألة.

و أمّا إجماع الشهيد (رحمه اللّٰه) في «الروضة» «5» فهو كالإجماعات الكثيرة التي تكون مؤيّدة للمسائل الشرعيّة، و ليست دليلًا لها.

______________________________

(1) دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 226.

(2) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(3) الوافي 6: 46/ 3.

(4) لاحظ مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 182.

(5) روض الجنان: 139/ السطر 11.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، ج 1، ص: 408

و أمّا صحيحة ابن بزيع، فقد فرغنا عنها في محلّها «1»؛ و أنّها تدلّ علىٰ أنّ زوال التغيّر من المطهّرات، من غير الحاجة فيه إلى الاتصال أو الامتزاج. و لو تنزّلنا عنه، فلا دلالة لها علىٰ كفاية الاتصال أو الامتزاج، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و أمّا الإجماع علىٰ وحدة الماء الواحد حكماً، فهو مضافاً إلىٰ عدم إطلاق لمعقده مثل ما مرّ في عدم تماميّة شرائط اعتباره.

فتحصّل: أنّ تطهير المائعات النجسة و منها المياه المتنجّسة بالمطر، غير ممكن، و ما هو المطهّر لها هو الاستهلاك فقط.

تذنيب: في الآثار المترتّبة على كفاية أصابه ماء المطر

قضيّة ما تحرّر منّا في أثناء البحث: أنّ المطر غير ماء المطر؛ فإنّه هو الماء النازل المتقاطر المنفصل بعضه من بعض، و الثاني هو الجاري و الموجود على الأرض، المجتمع و المتّصل بعضه ببعض.

و كما أنّ ذاك مطهّر و عاصم لكلّ شي ء بشرط الغلبة فإنّه بدونها مشكل مطهّريته؛ لأنّ شرطيّة الجريان في الثاني، يستلزم ذلك عرفاً في الأوّل كذلك ماء المطر مطهّر للأراضي و السطوح؛ بشرط الجريان عليها.

و هذا من غير فرق بين كونه مصيباً لها بلا واسطة، أو مع الواسطة؛ لأنّ صدق «المطر» غير لازم، و صدق «إصابة ماء المطر» قطعيّ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 159 161.

كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)،

ج 1، ص: 409

و توهّم: أنّ اعتبار الغلبة و الأكثرية، غير قابل للجمع «1»، في غير محلّه؛ لأنّ الماء إذا كان أكثر، فقهراً يجري، و أمّا جريانه من الميزاب، فهو غير قابل للتصديق.

فما اشتهر بين المتأخّرين في الفروع الكثيرة كما في «العروة الوثقىٰ» «2» من الإشكال في كفاية وصول ماء المطر إلى النجس في التطهير به غير مرضيّ؛ لأنّ إصابة المطر ليست شرطاً، بل إصابة ماء المطر و رؤية ماء المطر لازمة، و هو واضح حتّى بالنسبة إلى المتنجّسات تحت السقوف، كما لا يخفى.

تنبيه: في حكم الأراضي النجسة التي لا يصيبها المطر

لا شبهة في أنّ اعتبار المطهّرية لماء المطر و المطر؛ تسهيلًا على الناس، و إذا كان جميع أراضي البلد كما هو المتعارف غير واصل إليه المطر للموانع، فيلزم تكثير النجاسة برطوبته كما نشاهدها، خصوصاً في مثل العراق التي هي مرحاض الشرق، فعليه هل يمكن الالتزام بطهارة تلك الأراضي تبعاً، أم لا؟ وجهان.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 177.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 39، فصل في المياه، المسألة 3 و 5.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، كتاب الطهارة (للسيد مصطفى الخميني)، 2 جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.